تملك الجدة فاطمة بقرة واحدة فقط في قريتها الواقعة في محافظة إب اليمنية، ومع ذلك تشير إلى العائد الاقتصادي الذي تدرّه عليها، إذ تقول: "ما إن تضع البقرة حملها حتى يأتيني طلب شراء العجل بمبلغ يراوح ما بين 80 ألف ريال (150 دولاراً) و150 ألفاً. كنت أبيع العجول الذكور، وأبقي على الإناث للتكاثر، لكنني لم أعد بكامل صحتي لرعايتها".
ورغم وجود قرار حكومي بمنع بيع صغار المواشي، باعت فاطمة قبل أيام عجلاً صغيراً بمبلغ 130 ألف ريال، تقول لرصيف22: "أخبروني أن الحكومة منعت دخول العجول السوق، لكنها صارت تُذبح ليلاً، ويتم حجز دور لشرائها قبل أشهر لوجود طلب كبير عليها".
عموماً، يفضل اليمنيون تناول لحم العجل الرضيع في مأكولاتهم الشعبية، فقد أصبح طعمه جزءاً من ذاكرة المذاق لديهم، مع تفضيلهم المواشي المحلية، صغارها وإناثها تحديداً، رغم حجمها الهزيل قياساً إلى مثيلاتها في دول أخرى، لاعتقادهم أن تغذية مواشي البيوت تختلف عن تغذية الحظائر أو تلك المواشي القادمة من دول القرن الأفريقي.
صارت صغار المواشي تُذبح ليلاً، ويتم حجز دور لشرائها قبل أشهر لوجود طلب كبير عليها.
كما يتناول اليمنيون لحم الرضيع اعتقاداً بأنه أكثر فائدة صحية وعلاجية، ويرى كثر بأن لحم الرضيع ضروري لمرضى القلب والسكري والذين يشكون من آلام المفاصل نتيجة الوزن الزائد، إذ لا يمكنهم تناول اللحوم الحمراء وحساء العظم المتشبع بالدهون الحيوانية، كما أنه خالٍ من هرمونات تسمين المواشي المضرة بالصحة، وبإمكانه جبر كسور العظام وتقوية المفاصل.
وتاريخياً، كانت صغار وإناث المواشي متوافرة في "اليمن السعيد"، فالمجتمع زراعي وتربية المواشي مصدر دخل لآلاف الأسر، إلا أن التغير المناخي وتناقص المساحات الخضراء كمراعي، والهجرة من الريف بحثاً عن فرص أوسع للحياة، جعل أعداد هذه الحيوانات في تناقص خطير، فباتت تذبح وتهرب بشكل غير قانوني في معظم الأحيان بحثاً عن الربح.
تهريب المواشي
مع تفاقم خطورة المشكلة على الثروة الحيوانية في اليمن، بات من أولويات جهات الاختصاص الرقابة على المنافذ والمسالخ وأسواق اللحوم، حيث تأتي المواشي من القرى وأطراف المدن اليمنية إلى الأسواق المركزية لبيعها لبائعي اللحوم ومالكي المطاعم والشوايات.
وتكمن صعوبة هذه الرقابة في طبيعة المجتمع اليمني، إذ تشكل تربية المواشي مصدر دخل في الريف لآلاف العائلات، حد رعاية بعض الأسر لبقرة واحدة تضعها في إحدى غرف البيت، والتي تسمى "السافل" أو الإسطبل الصغير، ما يجعل من إمكانية الرقابة على ما تضعه المواشي من مواليد أمراً صعباً.
وبشكل دوري، تضبط الجهات الأمنية مواشٍ مهربة في المنافذ من قبل سماسرة يبحثون عن المربين، لشرائها بمبالغ بسيطة استغلالاً لظروفهم المعيشية الصعبة. كما تهرب المواشي من اليمن إلى دول الجوار لفارق السعر، فمتوسط ثمن رأس الغنم في محافظة الحديدة اليمنية يتراوح ما بين 40 إلى 50 ألف ريال يمني للرأس الواحد، في حين يصل سعره إلى 1000 ريال في الأسواق السعودية (ما يعادل 140 ألف ريال يمني).وقد أوصى تقرير صادر عن لجنة الزراعة والري بمجلس النواب عام 2020 بإلزام جميع العاملين في تجارة اللحوم بالذبح في المسالخ الرسمية، وتشجيع التجار لتبني مشاريع تربية المواشي وتجارة الأعلاف والأدوية واللقاحات، وتشديد الرقابة على المنافذ، للحد من خطورة تناقص أعداد المواشي.
تاريخياً، كانت صغار وإناث المواشي متوافرة في "اليمن السعيد"، فالمجتمع زراعي وتربية المواشي مصدر دخل لآلاف الأسر، إلا أن التغير المناخي وتناقص المساحات الخضراء كمراعي، والهجرة من الريف بحثاً عن فرص أوسع للحياة، جعل أعداد هذه الحيوانات في تناقص خطير
أزمة علف
يزداد وضع صغار وإناث المواشي سوءاً نتيجة شح الأعلاف، مع تحول المساحات الصالحة للزراعة إلى مبانٍ سكنية وتناقص الأمطار، ويجبر ذلك المربين على ذبحها قبل الأوان.
دفع ذلك بحفيظة سالم، وهي واحدة من مربيات الماشية في شارع الأربعين بصنعاء، إلى أن تجوب المنطقة المترامية الأطراف تحت شمس الظهيرة بحثاً عن أعلاف لمواشيها من مالكي المزارع، ونبش النفايات بحثاً عن بقايا الأطعمة، وشراء الخبز التالف بأسعار مرتفعة. وتعترف حفيظة في حديثها لرصيف22 بأنها تتجه للحدائق العامة وجزر الشوارع قبل أن تستيقظ الحراسة، للحصول على أشجار الزينة كأعلاف لمواشيها.
وضمن نفس السياق يقول عبد الإله فتاح وهو بائع لحوم لرصيف22: "لا نمانع من تسمين المواشي لكن ليست لدينا الخبرة أو المساحة لتربيتها، وتتطلب الأعلاف جهداً للحصول عليها أو ميزانية لشرائها".
ويشير فتاح أيضاً إلى أن "لحم الرضيع مطلوب، لكننا لا نذبحها قبل أن يكتمل نموها، حتى يكون لها وزن في الميزان وطعم مستساغ".
رقابة ومواشي نافقة
"أصبح ذبح إناث وصغار المواشي ظاهرة، وهذا ما تسعى المؤسسة العامة للمسالخ وأسواق اللحوم للشؤون البيطرية لمكافحته، لإنقاذ الثروة الحيوانية من الانقراض"، وفق حديث نائب رئيس المؤسسة المهندس محمد الحكيم.
يزداد وضع صغار وإناث المواشي سوءاً نتيجة شح الأعلاف.
ويقول لرصيف22: "يساهم في هذه الظاهرة كل من مربي الماشية والمسلخ والجزار والمستهلك، فمربي الماشية يتعذر بعدم قدرته على تربية الحيوانات الصغيرة لعدم توفر الأعلاف أو ارتفاع أسعارها أو مواسم الجفاف وعدم وجود دعم حكومي أو حلول، والجزار يبرر ذبحه لصغار المواشي وإناثها بأنها أرخص من الذكور وأكثر طلباً، وأحياناً لا تتوفر إلا هذه المواشي في السوق خاصة مع الحصار وغلق الموانئ وتوقف الاستيراد، ويقبل المستهلك على لحوم المواشي الرضيعة كثقافة، لقصور التوعية المجتمعية".
ولدى المؤسسة قاعدة بيانات بالجزارين وأصحاب المطاعم وكذلك الجالبين للمواشي، ويقوم الكادر البيطري بالفحص الصحي في منافذ ومداخل المدن والمحافظات، وترصد حركة المواشي فيما يشبه التتبع والتعقب وفقاً للمتحدث، ويتم الضبط والمصادرة أو إعادة المواشي المهربة من حيث جاءت مع تعهد خطي.
وفي بداية العام الحالي أطلقت المؤسسة حملة للمكافحة، وتبين مما تم ضبطه وجود مواشٍ نافقة أو مصابة غير صالحة للاستخدام الآدمي في طريقها للذبح خارج إطار المسالخ الحكومية والرقابة الصحية والبيطرية، وتم تحويلها كتغذية للحيوانات المفترسة في حديقة الحيوان وبعضها أتلف في مقلب الأزرقين كنفايات.
ويفسر الحكيم أمر موتها في الطرق السريعة والمنافذ بقوله: "تؤثر البيئة والمناخ في صحة المواشي وبقائها على قيد الحياة، فكثير منها معتاد على المناخ المعتدل ولا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة".
عقوبة مالية بسعر الأمس
قانونياً، واستناداً إلى المادة الخامسة من القانون اليمني لتنظيم وحماية الثروة الحيوانية رقم 17 لسنة 200، فإنه يحظر ذبح إناث وذكور الأبقار والضأن والماعز والجمال غير المستوردة ما لم يصل وزنها وعمرها للحد المسموح.
ووفق القانون، تعد مخالفة ذبح إناث الأغنام في حال كان عمرها أقل من 5 سنوات، والأبقار أقل من 8 سنوات، والإبل ما دون 15 سنة، ويسمح بذبح ذكور المواشي إذا تجاوزت الستة شهور للخروف، والعامين للثور، والسنة للماعز، و5 سنوات للجمل، إلا أن الذبح قد يتم خارج المسالخ الرسمية أو دون رقابة الجهات المختصة.
ورغم صدور قرار وزارة الزراعة رقم 19 لسنة 2019 بشأن تحديد أعمار الحيوانات المعدة للذبح وتحديد الوزن، وفرض الرقابة على المنافذ والمسالخ، إلا أن العقوبة المادية للمخالفين لم تعد تتناسب مع سعر الصرف ولا مع ثمن المواشي الحالي.
فالغرامة المالية مقدارها خمسة آلاف ريال (10 دولارات) عن كل رأس غنم أو ماعز يتم ذبحه بغرض الإتجار، وثلاثون ألف ريال (57 دولاراً) عن كل رأس من الأبقار والإبل، مع مصادرة الذبائح المخالفة، وهي عقوبات لم تعد كافية أو رادعة اليوم.
مربي الماشية يتعذر بعدم قدرته على تربية الحيوانات الصغيرة لعدم توفر الأعلاف أو ارتفاع أسعارها أو مواسم الجفاف، والجزار يبرر ذبحه لصغار المواشي وإناثها بأنها أرخص من الذكور وأكثر طلباً، ويقبل المستهلك على لحوم المواشي الرضيعة كثقافة
تحتاج تنمية الثروة الحيوانية وزيادة مستوى إنتاجها من اللبن واللحوم إلى مساحات صالحة للزراعة، والوفرة في الأمطار لإنتاج الأعلاف، والطب الغذائي والعلاجي، والعناية بالمراعي، وتطوير نظم التربية والتغذية والرعاية للمواشي، وتحسين السلالة بالتهجين، وإنشاء قاعدة بيانات للثروة الحيوانية، وجمع وتنظيم حيازة المواشي لتسهيل خدمتها وتغذيتها ورعايتها وعلاجها، ولمعرفة الكفاءة الإنتاجية للماشية المحلية.
على أن تحديث التشريعات والقوانين التنظيمية للثروة الحيوانية، وتشديد الإجراءات القانونية والعقوبات للحد من ظاهرة ذبح إناث وصغار المواشي هو الأساس لحمايتها.
ويبقى السؤال: ما مستوى الرقابة لضبط المسالخ ومحلات بيع اللحوم؟ ومتى يتم تحديث عقوبة قانون تنظيم وحماية الثروة الحيوانية لتتناسب مع جريمة ذبح وتهريب إناث وصغار المواشي؟ ومتى تتم رعاية المواشي تحت مظلة الدعم الحكومي، وتشجيع الاستثمار في المراعي والمواشي ومنتجاتها كثروة حيوانية، حمايةً لها، وتحقيقاً للأمن الغذائي، ودعماً للاقتصاد الوطني؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...