منذ قرابة عشر سنوات، يمارس ياسر جابر هواية الصيد في منطقة صيدا جنوب لبنان، لكنه يلاحظ بأن كمية الأسماك التي بات قادراً على اصطيادها قد قلّت "بشكل جنوني" وفق وصفه، وتحديداً منذ عام 2020، ويرجع أسباب ذلك لتأثير تقلبات المناخ وارتفاع درجات الحرارة على الكائنات التي تتغذى عليها الأسماك في البحار.
يقول جابر لرصيف22: "كانت هذه الهواية فرصة لبيع بعض الكميات من الأسماك والاستفادة من مردودها، نظراً للكمية الهائلة التي اعتدت صيدها. أما اليوم فبالكاد أحصل على كميات قليلة وأنواع معينة ومحدودة من الأسماك". ولدى سؤاله عن الأنواع التي يتمكن من صيدها حالياً، أكد الصياد أن السردين والأخطبوط مثلاً باتت شبه معدومة في مياه لبنان.
وعن رأيه في السبب وراء ذلك، يشير جابر إلى أن هناك احتمالية ارتباط غياب تلك الأنواع بعدم توافر الغذاء المناسب لها في البحار، والمؤسف وفق قوله بأن هذا الأمر بدوره سيساهم بخسارة الصيادين للقمة عيشهم، وتحديداً أولئك الذين يعتمدون بشكل رئيسي على الصيد كمصدر رزق.
اليوم بالكاد أحصل على كميات قليلة وأنواع معينة ومحدودة من الأسماك.
ومع اشتداد وتيرة موجات الحر التي تشهدها العديد من بلدان العالم حالياً بما فيها المنطقة العربية، يكثر الحديث عن تأثيراتها المحتملة على زيادة أعداد الوفيات من السكان والحيوانات، وحرائق الغابات وإتلاف المحصولات الزراعية. ومن هذه التأثيرات أيضاً ما يطال عوالق البحار، أي الحيوانات والنباتات البحرية التي تتكون في الغالب من الكائنات المجهرية والمفصليات المائية الدقيقة والطحالب الزرق وغيرها من الكائنات الحية الدقيقة الطافية.
وتعرَّف العوالق أيضاً على أنها كائنات حية دقيقة معلقة في طبقة ماء البحر القريبة من السطح، أو تكون طافية على سطح المحيطات والبحيرات أو المسطحات المائية الأخرى.
أنواع ووظائف مختلفة
للعوالق البحرية أنواع متعددة يمكن تصنيفها حسب وظيفتها في المحيطات ودورها الجوهري في النظام البيئي البحري. ومن هذه الأنواع:
- المشطورات التي تنتمي إلى الطحالب، وهي عبارة عن كائنات حية مجهرية وحيدة الخلية، توجد في المحيطات والبحيرات العذبة والأنهار.
- العوالق البحرية: وتشمل الأوليات المجهرية والحيوانات البحرية مثل مجدافيات الأرجل، بالإضافة لقناديل البحر التي بدورها تشكل الغذاء الأساسي لمختلف الأحياء البحرية مثل الحشرات المائية والأسماك والربيان وبعض أنواع الحيتان.
هناك احتمالية ارتباط غياب أنواع من الأسماك بعدم توافر الغذاء المناسب لها في البحار، والمؤسف بأن هذا الأمر بدوره سيساهم بخسارة الصيادين للقمة عيشهم، وتحديداً أولئك الذين يعتمدون بشكل رئيسي على الصيد كمصدر رزق
- السيانوبكتيريا: تعرف أيضاً بالطحالب الزرقاء الخضراء، وتساهم بالتمثيل الضوئي وتنتج الأوكسجين، كما تلعب دوراً هاماً في توازن الأوكسجين والكربون في المحيطات.
- الكوكوليثوفوريد: تلعب دوراً هاماً في دورة الكربون وتأثيرها على التوازن الحمضي في المحيطات.
إلى جانب الكثير من الكائنات الأخرى التي لها دور هائل الأهمية في الحفاظ على ثروة المحيطات والنظام البيئي البحري.
ومع الكارثة المناخية التي تضرب كوكبنا، لعوالق البحار هذه على مختلف أنواعها حصة من آثارها السلبية، أي بشكل غير مباشر نحن أمام مأزق حقيقي متمثل بتدهور النظام البيئي البحري. ومن أبرز هذه الآثار السلبية:
- التغيرات في درجات الحرارة: قد تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى إجهاد بعض أنواع العوالق وتعطيل دورات حياتها، فمثلاً تنمو العوالق العائمة أفضل في درجات حرارة أكثر برودة، ومن الممكن أن يسبب ارتفاع الحرارة أيضاً في زيادة العوالق الضارة التي تنتشر في درجات الحرارة الأعلى، مما قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على النظم البيئية والاقتصادية، وكذلك زيادة انتشار الأمراض البحرية أو تغيرات في توافر الموارد الغذائية والأحواض المائية، وهذا قد يؤثر على التركيب الجماعي للعوالق وتوازنها البيئي.
قد تؤدي درجات الحرارة المرتفعة إلى إجهاد بعض أنواع العوالق وتعطيل دورات حياتها.
- تحمض المحيطات: يؤدي امتصاص المحيطات لثاني أكسيد الكربون الزائد إلى تحمض المياه، ويمكن أن تعيق المياه الحمضية قدرة بعض أنواع العوالق مثل الكائنات الحية المتكلسة على تكوين أصدافها أو هياكلها الواقية، مما يؤثر على صحتها العامة.
وبحسب تقرير أممي، من المتوقع بحلول عام 2050 أن تزداد حموضة المحيطات بنسبة 150 في المائة، وهو معدل زيادة أسرع 100 مرة من أي تغيير في الحموضة حدث في البيئة البحرية على مدار العشرين مليون سنة الماضية.
- التغييرات في دوران المحيطات: يمكن أن يؤثر تغير المناخ على التيارات المحيطية وأنماط الدوران، مما يؤثر على توزيع العوالق البحرية. فقد يتم نقل بعض الأنواع إلى مناطق أخرى غير التي تعيش فيها عادة، الأمر الذي بدوره يزيد من تحديات الوصول إلى موائلها المفضلة مما يؤثر على بقائها ونموها.
- تغييرات في توافر المغذيات وتوزيعها في المحيط: يمكن للتغييرات في توافر المغذيات أن تساعد بعض أنواع العوالق على الأنواع الأخرى، مما يؤدي إلى تحولات سلبية في تكوين مجتمعات العوالق.
ففي دراسة أجريت في جامعة أوكسفورد، تم تأكيد أن التغير المناخي ساهم بتركيز نسب الفوسفور والنيتروجين في مناطق معينة من البيئات البحرية، الأمر الذي بدوره سبب زيادة نسب بعض أنواع العوالق دون غيرها، ومنها مثلاً العوالق الضارة للأسماك، مما يشكل تهديداً مباشراً للبيئة البحرية في تلك المناطق.
- تعطيل التفاعلات البيئية: يساهم تغير المناخ بتعطيل التفاعلات البيئية في البحار، تلك القائمة على التفاعل بين المفترس والفريسة، لا سيما بما يخص التنافس على الموارد المائية، الأمر الذي بدوره يساهم في عواقب معقدة وغير متوقعة على النظم البيئية البحرية.
التغير المناخي ساهم بتركيز نسب الفوسفور والنيتروجين في مناطق معينة من البيئات البحرية، الأمر الذي بدوره سبب زيادة نسب بعض أنواع العوالق دون غيرها، ومنها مثلاً العوالق الضارة للأسماك، مما يشكل تهديداً مباشراً للبيئة البحرية في تلك المناطق
- التغييرات في العمليات الإنتاجية الأولية: والمقصود بها الكمية التي تحول بها العوالق ضوء الشمس إلى طاقة من خلال عملية التمثيل الضوئي. يساهم تغير المناخ بتأثير سلبي على ازدهار العوالق النباتية المسؤولة عن غالبية الإنتاجية الأولية في المحيط، مما يشكل تهديداً مباشراً على شبكة الغذاء البحري بأكملها.
بانتظار حلول جذرية
للحديث عن كل هذه الظواهر وتحديداً تأثير التغير المناخي على الحد من بعض أنواع الأسماك المخصصة للأكل والتجارة، التقى رصيف22 الدكتورة البيئية في جامعة الجنان اللبنانية سمر حمداش، التي أشارت إلى أن قسماً كبيراً من الأسماك يعيش على العوالق البحرية، وتحديداً الأخطبوط والحمام الأطلسي والسردين والأنشوجة المستديرة، وبالتالي فإن تغير المناخ الذي يساهم بتدمير العوالق البحرية وإعادة توزيعها، سيساهم بشكل غير مباشر بقتل أنواع عدة من الأسماك التي لن تجد غذاء تعيش عليه، وبالتالي سيأتي يوم ولن تكون هناك أسماك صالحة للأكل.
لا بد من تقليل تلوث المحيطات بالمخلفات البلاستيكية، الأمر الذي سيعيد جودة المياه.
وتتابع الخبيرة في حديثها: "بالإضافة لتغير المناخ، نحن أمام كوارث أخرى تبدأ بتدهور النظام البيئي في البحار، وتنتهي على المدى البعيد بأزمة غذاء".
من جهة ثانية، تشير حمداش إلى أن تغير المناخ يساهم بتحمض المحيطات مما يؤثر سلباً على حياة أنواع من الأسماك وبالتالي يساهم بموتها، ويجب أن لا ننسى بأن لبعض الأسماك قدرة محدودة على التكيف مع تغييرات المناخ، لا سيما الأسماك المخصصة للتجارة، مما يرسم مصيراً سوداوياً للدول التي يعتمد اقتصادها على تجارة الأسماك.
وعند سؤالنا الخبيرة البيئية عن بعض الحلول التي يمكن اتباعها لاستعادة حياة هذه العوالق وتحديداً في وقتنا الحالي، شددت على ضرورة التسريع في إجراءات لا بد منها وبأسرع وقت ممكن، تحديداً مع ما نعيشه من أزمات مناخية كارثية.
ومن أبرز الحلول التي طرحتها: تقليل تلوث المحيطات بالمخلفات البلاستيكية والنفايات الصناعية، الأمر الذي بدوره سيعيد جودة المياه وتحديداً المحيطات مع ظاهرة المد والجزر، مما سينعكس إيجاباً على حياة العوالق.
من جهة ثانية شددت على ضرورة تطوير محطات معالجة المياه وتقليل التسربات النفطية والكيماوية للمحافظة أيضاً على مياه صالحة لعيش العوالق. وأخيراً نوهت بإلزامية عمل الجميع على تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة ودعم الجهود العالمية لمكافحة التغير المناخي الذي يهدد حياة الكائنات البحرية على اختلاف أنواعها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...