على بعد 97 كيلومتراً شمال القاهرة، وتحديداً في قرية شبرا بلولة التابعة لمحافظة الغربية، تفوح رائحة الياسمين لتداعب الأنوف وترسم البهجة والسرور على وجوه قاطني القرية وزوارها، الذين يأتون إليها من كل حدب وصوب للمشاركة في موسم الحصاد الذي يستمر لمدة ستة أشهر، لكن مع ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الطقس، تكافح الحقول لتبقى مزدهرة وخصبة.
"تؤثر درجات الحرارة سواء كانت منخفضة أو مرتفعة بشكل واضح جداً على تزهير النباتات"، يقول ياسر حسين وهو أحد مزارعي الياسمين في القرية، مشيراً إلى أن للتغيرات المناخية تأثيرها السلبي على كل أنواع المحاصيل الزراعية بما فيها زهور الياسمين وحبات النارنج التي تستخلص منها العطور.
ويوضح في حديثه لرصيف22: "يختلف التأثير على تزهير النبات وكميته حسب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاضها، مما يؤثر بدوره على موسم الحصاد، فعلى سبيل المثال تأخر حصاد النارنج في شهر آذار/ مارس الماضي حوالي 10 أيام أو أكثر بسبب انخفاض درجات الحرارة وبرودة الجو التي أثرت بدورها على نمو المحصول".
تؤثر درجات الحرارة سواء كانت منخفضة أو مرتفعة بشكل واضح جداً على تزهير النباتات.
ويستكمل حديثه: "مع ارتفاع درجات الحرارة يزداد تزهير نبات الياسمين، لكن رطوبة الجو هي ما يؤثر على الزهرة ويضعفها، كما تتعرض الأشجار لما يسمى بالإجهاد الحراري، لذلك نعمل على ترطيب التربة من خلال تزويدها بكميات من المياه طوال الوقت".
ويتفق معه محمد عبد العزيز أحد أصحاب حقول الياسمين في القرية ذاتها فيقول: "بالفعل تتأثر زهرة الياسمين التي تزرع عادة في جو معتدل بتغير درجات الحرارة، فخلال السنوات الماضية أدت أنماط الطقس المتغيرة من الصقيع المفرط إلى موجات الحر القاسية إلى التأثير على إنتاجية محصول الياسمين، والتي انخفضت إلى النصف تقريباً".
ويشير المزارع في حديث لرصيف22 إلى أن حصاد الحقول يبدأ بعد منتصف الليل حتى لا تتأثر الزهور بأشعة الشمس فتذبل، ويضيف: "لمواجهة تأثير التغيرات المناخية نعتمد على تزويد التربة بكميات مضاعفة من المياه حتى لا تتعرض الأشجار لأضرار نتيجة نقص الرطوبة الأرضية".
ووفقاً لإحصائيات الاتحاد الدولي لتجارة الزيوت والعطور فإن مصر والهند تقعان على رأس قائمة الدول المنتجة لعجينة الياسمين حول العالم، إذ تستحوذان على نسبة 95% من السوق المرتبط بهذا المنتج، وتتركز أكثر من 90% من مزارع الياسمين في مصر في محافظة الغربية، وتحديداً في مدينتي قطور وبسيون وقرية شبرا بلولة.
وتنتج عجينة الياسمين من خلال استخلاص الزيت والشمع من الزهور، وذلك عبر مراحل عدة تتضمن استخدام مذيبات عضوية، وكذلك التقطير والتبخير، وفصل الشمع عن الزيت، والخلط مع الكحول ومن ثم تخبيره للحصول في نهاية المطاف على زيت نقي.
ورغم أن النباتات تمتلك قدرة هائلة على التحكم في درجة حرارتها للتكيف مع المتغيرات في البيئة المحيطة والبقاء والتكاثر، إلا أن التغيرات المناخية المتطرفة التي بات العالم يشهدها مؤخراً أصبحت تؤثر بشكل أكثر وضوحاً على قدرة النباتات على التكيف وتالياً على إنتاجيتها.
وبالحديث عن النباتات التي تدخل كمواد أولية في صناعة العطور، فإنها باتت مهددة بالتراجع على مستوى العالم نتيجة ذلك، فعلى سبيل المثال دمر إعصار في مدغشقر عام 2017 قرابة 30% من محصول الفانيليا، وهي مادة أساسية لصناعة العطور، والحالات المشابهة من بلدان أخرى عديدة وباتت أكثر تواتراً وبالتالي تهديداً لهذه الصناعة.
تأثير على الإنتاجية وظروف النمو
خلال حديثه مع رصيف22، قال الدكتور طارق قابيل وهو أستاذ في قسم النبات في كلية العلوم في جامعة القاهرة: "التغيرات المناخية ظاهرة عالمية لها العديد من الآثار السلبية بعيدة المدى على مختلف الصناعات بما فيها العطور، التي تعد واحدة من أكثر الصناعات المربحة حول العالم، وتشمل هذه الآثار مختلف مراحل العمل من إنتاج المواد الخام وحتى تعبئة العطور وتوزيعها".
بالفعل تتأثر زهرة الياسمين التي تزرع عادة في جو معتدل بتغير درجات الحرارة، فخلال السنوات الماضية أدت أنماط الطقس المتغيرة من الصقيع المفرط إلى موجات الحر القاسية إلى التأثير على إنتاجية محصول الياسمين، والتي انخفضت إلى النصف تقريباً
ويضيف الخبير: "أحد أهم تأثيرات تغير المناخ على النباتات والزهور هو التبدلات التي نلاحظها أنماط نموها، فالتغيرات في درجات الحرارة ومستويات هطول الأمطار والرطوبة تؤثر على توقيت الإزهار وحجمه وجودته، وبالتالي على كمية المواد الخام التي تُصنع منها العطور، فالعديد من الزيوت الأساسية المستخدمة في العطور مشتقة من نباتات حساسة للتغيرات في درجات الحرارة، كالخزامى التي تتطلب ظروف نمو معينة لإنتاج زيت عالي الجودة، لذلك أصبح من الصعب بشكل متزايد زراعة هذه النباتات في موائلها التقليدية".
ووفق قابيل، فإن الجفاف يعتبر من أهم تأثيرات الاحتباس الحراري على النباتات، فنقص المياه يجعل النباتات غير قادرة على النمو بشكل صحيح مما يؤدي إلى توقف نموها وانخفاض الإنتاجية، كما أن الارتفاع الشديد في درجات الحرارة له العديد من التأثيرات السلبية، والتي يمكن أن تتسبب في بعض الحالات بتلف الخلايا النباتية، وفقدان رائحتها وبالتالي تقليل قدرتها على إنتاج الزيوت الأساسية المستخدمة في صناعة العطور، إضافة إلى تلف الزجاجات العطرية أثناء عمليتي النقل والتخزين.
وتظهر العديد من الدراسات أن تغير المناخ يمكن أن يلحق أضراراً بالغة بالملقحات التي تعتمد على الإشارات البصرية كلون وعدد الأزهار إضافة إلى رائحتها، فعندما يتعرض النبات للإجهاد فإنه يستجيب بإصدار مركبات دفاعية تغير رائحته، كما كشفت إحدى الدراسات بأن تلوث الهواء قد يعيق قدرة النحل والفراشات على التلقيح نتيجة تغيير رائحة الزهور، كما وجد الباحثون أن ملوثات الهواء كعوادم الديزل قللت من مستويات التلقيح بنسبة الثلث.
تغيير مواعيد الزراعة
بدوره يلفت الدكتور ممتاز حجاب، عميد معهد أبحاث النباتات الطبية والعطرية في جامعة بني سويف، إلى أن للتغيرات المناخية تأثيرها على العمليات الفيزيولوجية التي يقوم بها النبات كعملية البناء الضوئي التي تتأثر بالتذبذب في معدل درجات الحرارة، وتالياً على كمية وجودة المنتجات الثانوية التي تستخلص من النباتات كالأصباغ والزيوت العطرية.
لمواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ، يمكن تغيير مواعيد الزراعة كتبكيرها أو تأخيرها عن موعدها المعتاد، حتى يتلافى المزارع الخسائر التي تنتج عن الأحداث المناخية، كما يمكن اللجوء إلى نهج الزراعة المستدامة التي تتضمن استخدام تقنيات تعزز صحة التربة، وتحافظ على المياه
ويضيف حجاب لرصيف22: "التغييرات في أنماط الطقس من برودة الجو القارسة إلى موجات الحر القاسية تسبب الإرباك للنباتات، وتؤثر بدورها على تزهير النبات وكميته، وهو أمر يختلف من دولة إلى ثانية، فبعض النباتات التي لم تعد صالحة للزراعة في بلد أصبحت بعض البلدان الأخرى مرتعاً خصباً لزراعتها".
ولمواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ، ينصح حجاب بتغيير مواعيد الزراعة كتبكيرها أو تأخيرها عن موعدها المعتاد، حتى يتلافى المزارع الخسائر التي تنتج عن الأحداث المناخية، وذلك وفق أنماط تلك التغيرات.
كما ينصح الدكتور طارق قابيل بالعديد من الطرق الفعالة التي تساهم في التخفيف من آثار تغير المناخ على النباتات أو الزهور المستخدمة في العطور، ومنها اللجوء إلى نهج الزراعة المستدامة التي تتضمن استخدام تقنيات تعزز صحة التربة، وتحافظ على المياه.
عدا أن التعديل الوراثي الذي يمكن من خلاله تعديل جينات النباتات وجعلها أكثر مقاومة للجفاف أو الإجهاد الحراري أو العوامل البيئية الأخرى التي قد تؤثر على نمو النباتات أو جودتها، يمكن أن يساعد وفق المتحدث على ضمان استمرار ازدهار النباتات أو الزهور المستخدمة في العطور على الرغم من الظروف البيئية المتغيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين