شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
حزام الصمغ العربي في السودان... ثروة تاريخية فريدة مهددة بالضياع

حزام الصمغ العربي في السودان... ثروة تاريخية فريدة مهددة بالضياع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الأربعاء 17 مايو 202312:00 ص

تحت أشعة الشمس اللافحة ومع نهايات تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، ينتشر مزارعون سودانيون في مراعيهم المترامية، بدءاً من الحدود الشرقية مع إريتريا وإثيوبيا إلى الحدود الغربية مع تشاد وأفريقيا الوسطى، حيث يغطي حزام الصمغ العربي ثلاث عشرة ولاية، ويمتد في مساحة تقدر بخمسمائة ألف كيلومتر مربع، تغطي تقريباً رُبع مساحة البلاد، يعيش فيها حوالى خمسة عشر مليون مواطن، يعمل نصفهم على الأقل في أنشطة ذات علاقة بالصمغ، معلنين بدء موسم جمع هذه المادة من أشجار الهشاب والطلح.

تُزرع الأشجار واسمها العلمي "الأكاسيا"، كنباتات للظل في شوارع العديد من المدن السودانية، وتنمو في المناطق الجافة، وتنتشر في ولايات كسلا والقضارف وسنار والنيل الأزرق والأبيض، وكردفان ودارفور بتقسيماتها الإدارية الثمانية، ويصل عمرها لأكثر من ثلاثين عاماً، متجاوزة عشرة أمتار من الطول، وتبدأ إنتاج الصمغ منذ السنة الثالثة في عمرها.

يمر حزام الصمغ العربي بغالبية ولايات السودان، وتاريخ السودان حافل في زراعته وتصديره.

"جنائن الأجداد"

عبر إحدى القرى المبنية من القصب والقش في منطقة مروافا في كردفان، وهي منطقة جرداء إلا من أشجار الصمغ، استقبلنا عامر الفاتح، وهو شاب يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً، يعمل في زراعة وإنتاج الصمغ العربي.

في الطريق نحو غابات الهشاب والطلح كان يسرد لرصيف22 حكايته مع هذا العمل: "الشغلة هذي وراثة، يعني أنا ورثتها عن جدي وجد جدي، هذي سلعتنا اللي بنعتمد عليها في معيشتنا".

ويروي عامر طريقة الحصول على الصمغ من الشجر: "نجرح الشجرة بواسطة السونكي أو الجرّاحة فيخرج سائل مطاطي كالدموع، وبعد شهر تقريباً من الجرح نحصد هذا السائل بعد أن تحول إلى صمغ جاف، لنبدأ تجفيفه تحت الشمس في أكياس من الجلد، وبعد 15 يوماً نكرر القطف، ونعيد عملية القطف بعد نفس الفترة من ثلاث إلى سبع مرات حسب عمر الشجرة وخبرة الجارح، وبعدما تشيخ الشجرة ويضعف إنتاجها تُقطع على ارتفاع عشرين سنتيمتراً، وبعد ثلاث سنوات تنتج مرة أخرى من خلال الوليدة الجديدة".

وبحسب الباحث في شؤون الاقتصاد الزراعي عثمان البخت، يعد الصمغ العربي واحداً من أبرز الموارد الطبيعة التي اعتمد عليها الإنسان في العصر الفرعوني، إذ استخدم في صناعة الحبر الملون للكتابة الهيروغليفية، مما ساهم في تماسك وتواصل الحضارات القديمة.

ويشير إلى أن تاريخ تجارة الصمغ العربي غير مثبت بالضبط، وهو بدأ قبل قرون كثيرة، مع تصديره إلى مصر من خلال درب الأربعين الذي يربط كردفان السودانية بأسيوط مروراً بصحراء الواحات الخارجة المصرية وواحة سليمة والفاشر بالسودان، وطريق القالبات والقضارف الذي يمر بكسال شرق السودان، ومنها إلى ميناء مصوع في أريتريا حيث يصدر إلى أوروبا، ثم بدأ تصديره من السودان عبر ميناء بورتسودان بعد افتتاحه.

وعن اقتران اسم الصمغ بالعربي رغم انتشاره في دول الجوار الأفريقية غير العربية، يقول البخت: "ارتبط الصمغ بالعرب لأن دول العالم قديماً لم تعرفه إلا من خلال العواصم والموانئ العربية، فأطلقوا عليه هذا الاسم".

استخدامات الصمغ

يدخل الصمغ العربي في أكثر من 180 صناعة عالمية، من بينها الصناعات الغذائية والدوائية والكيميائية، إضافة إلى صناعات الزجاج والأحبار والألوان وغيرها من المنتجات المهمة، كما أن قابليته للاستحلاب جعلته يدخل في صناعة المشروبات ويصبح مكوناً أساسياً في المشروبات الغازية.

يغطي حزام الصمغ العربي ثلاث عشرة ولاية، ويمتد في مساحة تقدر بخمسمائة ألف كيلومتر مربع، تغطي تقريباً رُبع مساحة السودان، يعيش فيها قرابة خمسة عشر مليون مواطن، يعمل نصفهم على الأقل في أنشطة ذات علاقة بالصمغ

وفي الثلاثين من أيار/ مايو عام 2007، وخلال مؤتمر صحافي للسفير السوداني في واشنطن جون بوك لوث، وفي ظل العقوبات الأمريكية ضد السودان، قال: "إذا استمرت أمريكا في فرض العقوبات الاقتصادية على بلادنا، فسنضطر إلى إيقاف تصدير سلعة الصمغ العربي لها، وحينها ستفقدون جميع هذه المنتجات"، مشيراً بيده إلى عبوات الصودا على المنضدة أمامه.

ومما يثبت أهمية الصمغ عالمياً، أن أمريكا التي عاقبت السودان اقتصادياً خلال العقود الماضية، استثنت الصمغ العربي من قائمة السلع المشمولة بالعقوبات، نظراً لاحتياج واشنطن الشديد له، إذ تستورد نحو ثلثي ما تنتجه السودان.

إنتاج الصمغ في السودان ضخم جداً، ولكن ما يتم تهريبه يزيد عما يصل إلى بورصة التصدير أو الأسواق المحلية.

في هذا السياق يقول الدكتور الجيوكيميائي أبو الحسن جابر لرصيف22: "الصمغ العربي واحد من أهم المنتجات الطبيعية التي تدخل في صناعة الأدوية، لاحتوائه على الألياف الطبيعية التي تذوب في الماء، كما أنه يحتوي على كميات كبيرة من السكر والبروتين والكالسيوم، مما يجعله عنصراً دوائياً هاماً لعلاج تليف الكبد وتحسين وظائف الكلى وإزالة السموم والفضلات الموجودة في الجسم، كما يحفز نمو البكتيريا النافعة في الأمعاء، بالإضافة إلى آثاره العظيمة في علاج مشاكل العظام".

ويشير جابر إلى أن أهمية الصمغ الدوائية جعلته يدخل كعنصر أساسي في كريمات البشرة للترطيب ومنع ظهور التجاعيد وإزالة آثار الحبوب والندوب، بالإضافة إلى استخدامه كعلاج لالتئام الجروح.

عدا ذلك فإن الصمغ يستعمل تاريخياً مادة لاصقة في صناعة وتركيب الزجاج، وطباعة وإنتاج الطلاء والغراء وملمعات الأحذية والألوان والأحبار.

الاحتطاب والتهريب

بالرغم من مرور حزام الصمغ العربي بغالبية ولايات السودان، وتاريخ السودان الحافل في زراعته وتصديره، لا تزال البلاد غير قادرة على اعتباره مصدراً رئيساً للإيرادات.

يقول الدكتور مصطفى رسلان عضو مجلس الصمغ العربي في السودان، الذي يضم المصدرين والمصنعين للصمغ، بأن أبرز مهددات صناعة الصمغ في السودان هي ممارسات القطع الجائر، إذ يقطع المزارعون غابات الهشاب والطلح واللبان بكميات كبيرة، من أجل انتاج الفحم، إذ يعد عائد الفحم أعلى من عائد الصمغ.

لكن ممارسات القطع والاحتطاب ليست وحدها التي تهدد مستقبل الصمغ في السودان، يقول رسلان لرصيف22 إن نصيب البلاد من تجارة الصمغ في العالم حوالي 10% فقط، على الرغم من أنها تنتج 80% من الإنتاج العالمي، مما يعني وجود نسبة تهريب كبيرة، وهو ما يجعل عائدات صادرات الصمغ حوالي 120 مليون دولار فقط".

من محلية أم دخن عبر مدينة الجنينة في ولاية غرب دارفور، ومن مدينتي أم دافوق والردوم جنوب دارفور يتم تهريب الصمغ إلى تشاد وأفريقيا الوسطى، حيث تفصل بين السودان وهاتين الدولتين كيلومترات قليلة.

ويقول محمود دنقو وهو أحد مزارعي الهشاب في ولاية النيل الأزرق لرصيف22: "نعاني من تهريب الصمغ بكل أنواعه، بسبب ضعف أسعار الشراء داخل السودان مع ارتفاع قيمته في الدول المجاورة"، مشيراً إلى أن الشركات السودانية تشتري طن الصمغ من المزارعين بشكله الخام بحدود 1000 دولار فقط، وتصدره لصالحها بحوالى 2500 دولار، ثم تأخذه الدول المجاورة وتحوله إلى بودرة صمغ عبر تصنيع بسيط، ليتجاوز سعر تصديره بعد ذلك عشرة أضعاف.

ويطالب بتخفيض رسوم التصدير المتزايدة، وضبط التجارة الحدودية من أجل الحفاظ على زراعة أشجار الصمغ بدلاً من قطعها، لأن سعر الحطب بات أغلى من سعر ناتج الشجرة.

"إنتاج الصمغ العربي في السودان ضخم جداً، ولكن ما يتم تهريبه يزيد عما يصل إلى بورصة التصدير أو الأسواق المحلية"، يقول الدكتور عبد الوهاب حماد، مستشار معهد أبحاث ودراسات الصمغ العربي التابع لجامعة شمال كردفان ويلفت إلى الأسباب التي تدفع المنتجين والمزارعين إلى تهريب الصمغ، وهي ارتفاع رسوم الضرائب وتكلفة النقل العالية من الأراضي إلى الأسواق أو البورصة.

أبرز مهددات صناعة الصمغ في السودان هي ممارسات القطع الجائر، إذ يقطع المزارعون غابات الهشاب والطلح واللبان بكميات كبيرة، من أجل انتاج الفحم، إذ يعد عائد الفحم أعلى من عائد الصمغ، إلى جانب التهريب والتأثر بالتغيرات المناخية

دعم الصمغ في ظل التغيرات المناخية

في الوقت الذي يكافح خلاله البشر للتكيف مع المناخ الجاف والتصحر، تعد شجرة الأكاسيا من أكثر النباتات تكيفاً مع الجفاف، بالإضافة إلى دورها المهم في مكافحة التصحر وزيادة خصوبة التربة.

وقد نشرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة بحثاً في نهاية عام 2020 في إطار مشروعها "برنامج السياج الأخضر العظيم"، من أجل التكيف والتخفيف من آثار التغيرات المناخية في السودان، اقترحت فيه التوسع في زراعة أشجار الصمغ العربي، وأعلنت خطة عمل مشتركة مع الهيئة القومية للغابات والمنظمات غير الحكومية.

وبالرغم من قدرة أشجار الهشاب علي تحمل التغيرات المناخية، فإن إنتاجها يتأثر بقلة الأمطار وارتفاع درجة حرارة التربة، لهذا السبب يسعى مشروع منظمة الفاو إلى تعزيز قدرة أصحاب الحيازات الصغيرة في الريف السوداني على الصمود في ولايات الشمال والغرب والجنوب، من خلال زراعة أنواع جديدة للصمغ المقاوم لتغير المناخ وإعادة تأهيل المراعي القديمة.

ويقول لرصيف22 خبير زراعة وصناعة الصمغ العربي الدكتور فارس الديب إن السودان حصل على منح دولية من البنك الدولي والصندوق الدولي للتنمية الزراعية ومنظمة الفاو من أجل إحياء حزام الصمغ العربي في الولايات الأكثر إنتاجاً، في ظل تدني ناتج الأشجار.

ويؤكد على أن الجفاف وندرة المياه وقلة الأمطار هي أهم التغيرات التي أثرت على إنتاج الصمغ خلال السنوات الأخيرة، مشيراً إلى أن الهيئة تستعين بأنواع شتلات جديدة تستطيع التكيف مع مستجدات التغير المناخي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image