كانت ليلة عصيبة على فتحي أبو المعاطي المزارع الأربعيني، عندما خرج من منزله في الساعات الأولى من أحد أيام الشهر الماضي، ليقطع خمسة كيلومترات سيراً على أرض ترابية غير ممهدة، ولم تفلح محاولاته في وضع كوفية بالية لتغطية أنفه، منعاً لاستنشاق الأتربة العالقة وذرات الرمال المتطايرة من هبات رياح الخماسين التي غطت سماء القرية، وحولت الأراضي الزراعية الخضراء إلى لوحة صفراء باهتة.
على أطراف قرية صان الحجر البحرية إحدى القرى التابعة لمحافظة الشرقية الشهيرة بزراعة القمح على مستوى مصر، وفي منتصف نيسان/ أبريل من كل عام، يستعد الأهالي من أطفال وسيدات ورجال وشيوخ لموسم الحصاد، وسط خيبات أمل سيطرت هذا العام لانخفاض إنتاجية المحصول بسبب ملوحة الأرض وعدم توفير مياه ري صالحة.
في مدخل القرية تستقبلك ترعة تغطيها مياه الصرف الزراعي، تجلس على أطرافها سيدات يغسلن الأواني والملابس، وهي الوسيلة الوحيدة لري الأراضي. يشكو محمد جاد أحد المزارعين، من عدم توفير مياه صالحة للري، ويقول لرصيف22: "ننتظر حصاد محصول القمح كل عام، لمدة ستة شهور يأخذ منا رعاية كاملة من ري وأسمدة ومبيدات، لكن الإنتاجية تنخفض عاماً بعد آخر، بسبب عدم صلاحية التربة التي أصبحت مالحة لأننا نرويها بمياه الصرف الزراعي من الترعة، إضافة إلى العوامل الجوية المتغيرة من برودة قارسة لموجات حارة، لا تناسب نمو السنابل وتساعد على انتشار الآفات المدمرة للمحصول".
يرى جاد أن الدولة تعامل المزارعين كمواطنين درجة ثانية، ولا تنظر إليهم بعين الرحمة، رغم أنهم يمثلون 65% من الشعب: "المزارع المصري لا يجد من يدعمه، في الماضي كان بنك التنمية والائتمان الزراعي يساعد الفلاح من خلال توفير نفقات البذور والمبيدات ويحاسبه بعد حصاد المحصول، لكن البنك الآن أعطى ظهره للفلاح، ليتحمل الفلاح نفقات الزراعة وحده، من زراعة البذور وشراء المبيدات وتوفير مياه الري وأجور العمال، وسط غياب دور الإرشاد الزراعي".
كما أن هبوب رياح الخماسين المحملة بذرات الرمال والأتربة من أكثر التحديات التي تواجه المزارع خلال حصاد محصول القمح، وهي تهاجم المحصول في آذار/ مارس، وتظهر آثارها على وجوه المزارعين الشاحبة وصدورهم التي أصابتها أمراض الحساسية، وعلى المحصول أيضاً.
يقول أحمد فاروق أحد المزارعين: "يكره المزارع شهور الربيع بسبب رياح الخماسين وعدم استقرار الطقس، فالجو حار نهاراً وبارد ليلاً، والفلاح تصيبه الشيخوخة في الثلاثين من عمره، لأنه يستنشق الغبار أثناء الحصاد ولا يمتلك رفاهية الجلوس في منزله عند هجوم عاصفة رملية. جميعنا نعاني من حساسية الصدر ومعظمنا يروون من مياه الترع غير الصالحة لأن نهر النيل لا يصل لنا، لذلك ترى المزارع مهموماً منذ لحظة زراعة المحصول وحتى حصاده".
ننتظر حصاد محصول القمح كل عام، لمدة ستة شهور يأخذ منا رعاية كاملة من ري وأسمدة ومبيدات، لكن الإنتاجية تنخفض عاماً بعد آخر، بسبب عدم صلاحية التربة التي أصبحت مالحة لأننا نرويها بمياه الصرف الزراعي من الترعة، إضافة إلى العوامل الجوية المتغيرة من برودة قارسة لموجات حارة
وقد حدد مجلس الوزراء المصري قيمة توريد القمح من المزارعين بـ1500 جنيه (48 دولاراً) لكل 150 كيلوغراماً، وهو سعر غير مرضٍ للمزارعين لأنه لا يعادل تكلفته على حد قولهم، ولا يتناسب مع التكلفة الحقيقية لرعاية المحصول والتي تتضمن المبيدات والأسمدة والري وأجور العمال.
التغيرات المناخية وغياب الإرشاد الزراعي
لا يوجد فرق بين شاب وطفل أو سيدة، فالجميع يعملون في خدمة محصول القمح. نهاد أشرف فتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، اعتادت يدها على حمل الشرشرة (آلة حادة لحصاد القمح). للوهلة الأولى تظنها شابة ثلاثينية لاكتسابها خبرة كبيرة، تنحني لساعات طويلة منذ السادسة صباحاً حتى الثالثة عصراً، للحصول على 50 جنيهاً يومياً (ما يعادل دولاراً ونصف).
بخطوات ثابتة تسير نهاد وسط الحقل الذي اكتسى بسنابل القمح لونه الذهبي، تلفح وجهها حرارة الشمس، تمسح عرقها المتساقط من جبينها بقطعة من الملابس البالية، تدندن أغاني فلكلورية بين الوقت والآخر مع زميلاتها لكسر ساعات العمل الشاق، وتقول لرصيف22: "أشتغل في جمع المحاصيل الزراعية منذ نعومة أظافري، ومفيش أي حاجة تمنعنا عن الشغل حتى أوقات نزول المطر أو الحر، كلنا بننزل عشان نراعي المحصول، واحنا واخدين على الشقا، ويوميتي أمي بتاخدها عشان تصرف علينا".
محصول القمح على رأس المحاصيل الأكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة.
محمد الشريف، يطلق عليه أهل قريته شيخ المزارعين، يقول إن الجميع في الماضي كانوا ينتظرون محصول القمح، وغنى له المطرب الراحل محمد عبد الوهاب "القمح الليلة يوم عيده"، لأن الفلاح كان يسدد ديونه ويزوج أولاده من حصاد المحصول، لكنه اليوم أصبح مديوناً، وانخفضت المساحات التي يزرعها بشكل ملحوظ.
ويتابع الشريف لرصيف22: "محصول القمح على رأس المحاصيل الأكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة، والأحوال الجوية لم تعد مستقرة مثل الماضي، فالصيف أصبح أشد حرارة، والشتاء تزوره موجات حارة تنشر أمراض القمح مثل الصدأ والتفحم والبياض الدقيقي، الأمر الذي يساهم بتدمير المحصول، خاصة في ظل غياب الإرشاد الزراعي الذي جعل الفلاح البسيط فريسة سهلة أمام التغيرات المناخية الجامحة، ورغم ذلك يحاول المزارع التعايش لأن الأرض هي قوت يومه الذي لا يعرف غيره وبدونها لن يجد مصدر رزق".
وأكد الشريف أن موجات الصقيع والبرودة أثرت على نمو محصول القمح بشكل كبير وتسببت في عدم اكتمال نضج السبلة، وبالتالي لم يعد المزارع يتحكم في مواعيد الري كما كان في الماضي، وأثرت التقلبات الجوية الحادة والسريعة على الخريطة الزراعية وإنتاجية المحاصيل.
وحسب نتائج دراسة أجراها الدكتور أيمن فريد أبو حديد، أستاذ الزراعة بجامعة عين شمس، تحت عنوان "تغير المناخ والأزمات الزراعية المصرية"، ستقل إنتاجية محصول القمح بنسبة 9% إذا ارتفعت الحرارة درجتين مئويتين، وسيزداد الاستهلاك المائي له بقرابة 6.2%، في حين سيصل معدل النقص إلى 18% إذا ارتفعت الحرارة 4 درجات مئوية.
خطوات لا بد منها
من جانبه قال حسين أبو صدام نقيب الفلاحين لرصيف22 إن محصول القمح في مصر يواجه عدداً من التحديات، أهمها التغيرات المناخية من برودة قارسة وارتفاع درجات الحرارة، وارتفاع أسعار العمالة، وقلة معدات الحصاد المتطورة وارتفاع تكلفتها نظراً لارتفاع أسعار المشتقات البترولية.
ونصح أبو صدام المزارعين بصرف المياه الزائدة في الأراضي التي تتعرض لسقوط الأمطار، لأنها تؤثر على المحصول وتتسبب في ظهور العفن بجذوره، الأمر الذي يؤدي إلى عدم اكتمال السنبلة وانخفاض الإنتاجية، والابتعاد عن حصاد الغلة خلال الموجات الحارة خاصة خلال ساعات الذروة (من الساعة 12 ظهراً حتى الرابعة عصراً)، منعاً لفرط حبات القمح، واختيار الأيام التي تنخفض فيها درجات الحرارة ويقل فيها نشاط الرياح.
وطالب أبو صدام وزارة الزراعة بإنتاج أصناف جديدة من القمح تتحمل التغيرات المناخية والإجهادات المختلفة من الإجهاد الملحي والحراري والمائي، لمقاومة الآفات والحشرات التي تصيب سنابل القمح.
على صفحته الشخصية يحرص مستشار وزير الزراعة ومدير مركز التغيرات المناخية الدكتور محمد علي فهيم على تقديم النصائح للمزارعين بشكل يومي، ويشير إلى أن التذبذب الكبير في درجات الحرارة سبب الارتباك للمحاصيل الزراعية، من حيث تأخير التزهير وعدم اكتمال العقد والانتشار المكثف للأمراض.
وحول تحديات زراعة محصول القمح في الصحراء، أوضح فهيم لرصيف22 بأن التغير المناخي وتوفير مياه الري هما أكبر الصعوبات التي تواجه الدولة المصرية، وقال: "إن المحدد الأكبر لزراعة ولو فدان واحد في الصحراء هو توفر المياه، بجانب التكاليف الاستثمارية المرتفعة لزراعة الصحراء وتعرضها الدائم لمشاكل تغير المناخ، ومصر لديها محدودية شديدة في مورد المياه، فهي تصنف بأنها بلد جاف بصورة مطلقة، ولا تتجاوز معدلات تساقط الأمطار فيها 150 ميلليمتراً سنوياً وفي مناطق محددة، وبتوزيعات ومعدلات هطول غير منتظمة، في حين أن الدول التي نستورد منها القمح مثل روسيا وأوكرانيا لديها معدلات سقوط أمطار تفوق 1000 ميلليمتر سنوياً".
من الضروري وقف ري القمح عندما يبدأ حامل السنبلة في تغيير لونه إلى الأصفر، ما يعني توقف انتقال الغذاء إلى الحبوب، إلى جانب تنسيق مواعيد الري مع حالة الجو ومواعيد هبوب الرياح منعاً لإصابة القمح بالرقاد، وعدم التأخير في عملية الحصاد عن الميعاد المناسب
وأشار فهيم إلى أن شهر "بشنس" هو الشهر التاسع من التقويم المصري، يبدأ من 9 أيار/ مايو إلى 7 حزيران/ يونيو، ومعروف بموسم الحصاد، لكن خلاله تبدأ تقلبات المناخ، فيذهب برد الليل بدون رجعة، وترتفع حرارة النهار بسبب زيادة كمية الإشعاع الشمسي، وتظهر الموجات شديدة الحرارة، وترتفع درجات حرارة الليل لتسجل 20 درجة مئوية، وتزيد خطورة التعرض المباشر لأشعة الشمس التي تكون عمودية وقوية وتتركز على مساحة أقل، وتخترق سمكاً أقل من الغلاف الجوي.
ويلفت فهيم إلى أن الحرارة المرتفعة تؤثر على معظم المحاصيل الزراعية، وتحدث حالة من الارتباك الفيزيولوجي فيها.
وشدد على ضرورة وقف ري القمح عندما يبدأ حامل السنبلة في تغيير لونه إلى الأصفر، ما يعني توقف انتقال الغذاء إلى الحبوب، فخلال مرحلة النضج التام للمحصول تتلون جميع أوراق وسيقان وسنابل القمح باللون الأصفر. إلى جانب تنسيق مواعيد الري مع حالة الجو ومواعيد هبوب الرياح منعاً لإصابة القمح بالرقاد، وعدم التأخير في عملية الحصاد عن الميعاد المناسب، إذ إن التأخير يؤدي إلى زيادة نسبة جفاف النباتات وتصبح هشة وسهلة الكسر، كما تصبح الحبوب سهلة الانفراط، ووصول النباتات إلى هذه المرحلة يؤدي لارتفاع نسبة الفقد في المحصول.
تصوير محمود الخواص
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.