"أول مطرح رحت له
كان عند نديم
الإنجليز والبوليس كانوا محاصرين بيته
وبيفتشوا اللي رايح واللي جاي، زي ما بيحصل في اسكندرية".
تنفذ رواية مجدي الشافعي المصورة "الجاسوس الإنجليزي" قفزة طويلة إلى الوراء، إلى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لكن يسهل ملاحظة أنها تستطيع، ببراعة ولماحية،أن تخلق أجواءً قادرة بسهولة على أن تمس روح القاريء القاهري اليوم، بعد أكثر من 130 عاما من الأحداث المفترضة للرواية.
إنها الرواية المصورة الثانية للشافعي، وهو رقم مهم لأن صاحبها عُرف قبل 15 عاماً بأنه صاحب أول رواية عربية مصورة للكبار، أو "أول رواية غرافيك Graphic novel عربية"، وهي رواية "مترو" التي مّثل بطلها، مهندس الإلكترونيات الغاضب شهاب، نموذجاً معبراً عن حالة يأس وتوق وتمرد وجدت صداها لدى كثير من القراء الشباب آنذاك في العام 2008، وما لبثت الرواية أن اكتسبت زخماً إضافياً حين اقتحمت السلطات مقر ناشرها "دار ملامح" وصادرت كافة نسخها المتاحة بالدار بعد بلاغ اتهمها بـ"الخروج عن الآداب العامة".
تنفذ رواية مجدي الشافعي المصورة "الجاسوس الإنجليزي" قفزة طويلة إلى الوراء، إلى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، لكن يسهل ملاحظة أنها تستطيع، ببراعة ولماحية،أن تخلق أجواءً قادرة بسهولة على أن تمس روح القاريء القاهري اليوم، بعد أكثر من 130 عاما من الأحداث المفترضة للرواية
كان المجتمع، الشاب على وجه الخصوص، يغلي في تلك السنوات قبل ثورة يناير 2011، وكانت رواية "مترو" واحدة من علامات تلك الفترة، وذلك الجيل الفني، الذي عبر عن نفسه في معرض تال للرسومات المصورة بشعار أشبه بمانفيستو، تقول "إذا كان بعضهم يرى أنّ هذا الجيل يدمّر الثقافة والفنون، فعليه أن يتأكد من ذلك الآن".
كانت رواية الشافعي الأولى إذن من بين إرهاصات ثورة سابقة، أما روايته الأخيرة فتعود في الزمن إلى مآلات ثورة أسبق، ثورة أحمد عرابي المهزومة ضد الخديوي توفيق ثم الإنجليز، وافتتحت هزيمتها احتلالاً بريطانيا لمصر دام 70 عاماً.
تدور لوحات "الجاسوس الإنجليزي" في قلب المدينتين، القاهرة والإسكندرية، وسط الزخم والزحام والأثرياء والمتسولين والأسواق والمبروكين وعساكر البوليس
إنها مرحلة لم يتم تناولها فنياً بما يكفي، اللهم إلا في أعمال مثل رواية بهاء طاهر الأخيرة "واحة الغروب" التي حازت البوكر العربية في أولى دوراتها وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني ناجح، غير أن أحداث الجاسوس الإنجليزي لا تدور في واحة منعزلة كالتي نزح إليها- بطل واحة الغروب- الضابط محمود عبد الظاهر (المتعاطف مع الثورة العرابية) وزوجته الأيرلندية كاثرين، وإنما تدور لوحات "الجاسوس الإنجليزي" في قلب المدينتين، القاهرة والإسكندرية، وسط الزخم والزحام والأثرياء والمتسولين والأسواق والمبروكين وعساكر البوليس، إننا في سنة 1882 لكن الإشارات الموحية لا تتوقف:
"توجهت لترعة فم الخليج، لم أجد لا الترعة ولا الخليج (..) الخديوي إسماعيل شقلب البلد، قبل ما ابنه الخديوي توفيق يشقبله هو شخصياً، وأهه طايح فينا دلوقتي". هكذا يقول ساندرو السويسري الذي تمصّر وتعاطف مع الثورة العرابية، ثم أصبح كغيره من مطاريدها. يلاحظ السويسري ويعبر عن ملاحظاته أثناء تجواله في القاهرة قادماً من الإسكندرية، متخفياً من البوليس ومن أعدائه من باشوات القصر، ومن المفتش الإنجليزي الذي جاء من إنجلترا خصيصاً ليحقق في مقتل الجاسوس "بالمرز" أستاذ اللغة العربية في جامعة كمبريدج و"صديق بدو سيناء وفلسطين"، والذي استخدمته بريطانيا لعقد الصداقات وشراء ولاءات القبائل بالذهب من أجل خيانة عرابي قائد الثورة. لقد نجحت مهمة بالمرز، لكنه في نهايتها قُتل وسرقت كمية طائلة من الذهب كانت بحوزته، وكان السويسري ساندرو والبدوي الخطير عوض الأعور آخر من شوهدا برقته، وظهرا في صورة فوتوغرافية معه.
على خلاف روايته المرسومة الأولى، يستخدم الشافعي في روايته الثانية "الكولاج" بغزارة، يمزج بخبرة بين الصور الفوتوغرافية الحقيقية القديمة، واللوحات التاريخية، وأرشيف الصحف، واللوحات الفنية، عبر 150 صفحة ثرية بصرياً تتداخل عناصرها الفنية ويكتسحها الأبيض والأسود
في تحقيقات القضية الغامضة، وفي سبيل كشف اللغز، واستعادة خمسة آلاف جنيه من الذهب الخالص، يعمل المحقق الإنجليزي، المتأنق بثيابه الفيكتورية، وتمسكه الظاهري المنافق بحقوق الإنسان، مع إغماض العين حين يلزم الأمر أو حين ينهره مأمور السجن: "سيادة المحقق إحنا في حالة حرب والمحاكمات المدنية دي ما تلزمنيش".
ونستكشف معه، ومع "الأعور"، ومع نديم، المتنكر الذكي البارع (الذي يعد إشارة واضحة إلى الشاعر والصحافي عبد الله النديم أحد أبرز وجوه الثورة العرابية) شوارع القاهرة والتوتر المخيم على ميادينها: "عديت في ميدان إسماعيل باشا (التحرير لاحقاً) وعمري ما شفته في حالة الريبة دي" تقول بالونة حوار ساندرو. وصولاً إلى السجون حيث تفتتح الفصل العاشر عبارة "اتجمعوا في سجن القلعة" في إشارة واضحة إلى أغنية الشيخ إمام الشهيرة من كلمات زين العابدين فؤاد، والتي كتبت في السبعينيات لكنها صالحة في الأزمنة السابقة واللاحقة، كأن "الجاسوس الإنجليزي" في استخدامها مع بقية الإشارات، واستخلاص الأجواء التي تعيد إنتاج نفسها تحت أسقف وسلطات مختلفة، يشير إلى مفهوم "العود الأبدي" وأنها حياة واحدة نعيد تكرارها إلى الأبد، أم أنه حالنا وحدنا… حال بلادنا البائسة؟
غير أن "الموضوع" ليس كل ما تعنيه "الجاسوس الإنجليزي"، فعلى خلاف روايته المرسومة الأولى، يستخدم الشافعي في روايته الثانية "الكولاج" بغزارة، يمزج بخبرة بين الصور الفوتوغرافية الحقيقية القديمة، واللوحات التاريخية، وأرشيف الصحف، واللوحات الفنية، عبر 150 صفحة ثرية بصرياً تتداخل عناصرها الفنية ويكتسحها الأبيض والأسود، ويتمحور صراعها الدرامي حول السؤال الأبرز في الصراع الاجتماعي: ثوار وأبطال أم عصاة ومخربون؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين