"بعد فترة من تسجيلات تخص الأرض ومصاريف البيت، بدا من الشيّق توسيع الأمر، وتسجيل بعض ما يحدث حولها، خاصة أحداث العائلة؛ مرض أبيها، زيارة عمتها، وبعض الحكم التي تعجبها؛ تواريخ بداية الدراسة ومواعيد الامتحانات، وفي النادر بعض الخواطر والأفكار البسيطة حول الحياة. صحيح أن تسجيل المصاريف وإيجارات الأرض وأثمان البذور والسماد والمبيدات، يحظى بنصيب وافر في صفحات المذكرات، لكن ذكر مشاعرها وأفكارها وإحساسها بما تعيش، عندما تقرأه بعد وقت طويل من تسجيله، يمنحها إحساساً بأنها سجلت ظل مرور الأيام".
ثمة تحدٍ، بل اثنان في الواقع، حين يتصدى مؤلف القصة القصيرة لمهمة الكتابة حول "الأيام العادية"، التحدي الأول، أنه يترك الدرب الكلاسيكي، الأسهل ربما؟ لكتابة فن القصة القصيرة كما "تعلمناه"، أي درب التقاط لحظة عابرة من الحياة اليومية واستيقافها، تسجيلها، إزالة الغبار من عليها، وربما وضعها تحت مزيد من الضوء. أما هنا، فيُقدِم عادل عصمت على العكس، إنه لا يلتقط تلك اللحظات أو الأيام، بل يطارد "ظلالها"، أصداءها، آثارها البعيدة في الذاكرة. يصوّر تلاشيها في الضوء الخافت عبر المنحنيات الرتيبة للحياة.
أما التحدي الثاني، المبنيّ على الأول، فهو أن لا تبدو الكتابة نفسها بعد ذلك - أي النص القصصي- نصاً "عادياً" بدوره، ألا تحوله كل تلك الظلال إلى ظلّ، أو إلى تقرير تسجيلي رتيب؛ بل أن يبقى أثره في الذهن، في ذاكرة القارىء أو لا شعوره، تماماً كالطريقة التي تبقى بها القصة الكلاسيكية ذات اللحظة المنتقاة المتوهجة. إنه تحد صعب بلا شك، يحتاج إلى الخبرة والحرفة والدراية بصنعة الكتابة وفن القصة، تماماً كما يحتاج ممثل إلى الخبرة والبراعة ليجعلك تشعر أنه لا يمثّل.
تأخر المجتمع الأدبي في التعرف على عادل عصمت إلى أن حصل على جائزة الدولة التشجيعية في 2011 عن روايته "أيام النوافذ الزرقاء"، وحصد بعد ذلك جائزة نجيب محفوظ عن روايته "حكايات يوسف تادرس" في 2016، ثم وصلت روايته الأشهر "الوصايا" إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، وفازت في العام نفسه 2019 بجائزة ساويرس لكبار الكتاب
بالطبع، فإن عادل عصمت، هو أحد البارعين. عصمت هو ابن محافظة الغربية الذي تأخر المجتمع الأدبي الواسع في التعرف عليه إلى أن حصل على جائزة الدولة التشجيعية في 2011 عن روايته "أيام النوافذ الزرقاء"، ولم يكن ذلك إلا بداية الغيث، فقد حصد بعد ذلك جائزة نجيب محفوظ عن روايته "حكايات يوسف تادرس" في 2016، ثم وصلت روايته الأشهر "الوصايا" إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، وفازت في العام نفسه 2019 بجائزة ساويرس لكبار الكتاب.
لكن الأهم من سيرة الجوائز، هي سيرة القراءة والاحتفاء النقدي بأعماله الروائية كما القصصية، ومنها أيضاً "مخاوف نهاية العمر"، و"صوت الغراب"، و"جنازة السيدة البيضاء"، وكلها صدرت عن دار الكتب خان بالقاهرة كما هو حال مجموعته الأخيرة "أيام عادية"، التي تضم 55 قصة، أم الأفضل أن نقول 55 "نصاً قصصياً"؟ بناء على الأسباب نفسها التي دفعتنا لتأمل المسار غير الكلاسيكي لطريقة كتابة القصة في المجموعة.
التخلي عن "مطاردة اللحظة" في القصة القصيرة، خصوصاً حين تكون قصيرة حقاً، لا تزيد في معظم الحالات عن صفحتين أو ثلاث، يسمح بالبدء في اقتراح أسماء أخرى لوصف طبيعة النصوص؛ فهل هي: مشاهد من الحياة؟ بورتريهات قصصية؟ شذرات يومية؟ وهل يدفع "تسجيل ظل الأيام" بالمؤلف إلى الاستعانة بشخصيات قصصية لا تصلح بالضبط لأن تكون "أبطالاً"؟ شخصيات هي بالكاد بطلة حياتها الخاصة؟
لكن كيف يمكن "إنقاذ" عوالم كهذه من السقوط في فخ الرتابة؟ لا يتم ذلك إلا عبر الاستكشاف الرهيف للهشاشة الإنسانية لشخصيات الظل، وتتبع وقائعهم الصغيرة التي صنعت تأثير فراشة لم يعلم سواهم به، ورسم التفاصيل التي تخلق الإنسان بعيداً عن الملامح الخارجية التي لا تقدم للرائي غير القناع
يمكن ملاحظة ذلك إلى حد كبير فيما يخص طبيعة شخصيات القصص/ النصوص. ليست "الأستاذة سمية" - مدرسة اللغة العربية التي تملأ خزانتها بـ "أجندات" مرور الأيام- وحيدة في هامشيتها وعزلتها الإجبارية وخفائها عن أعين أقرب الناس إليها، يمكن ملاحظة نمط تتكون منه شخصيات القصص، نحن أمام: موجّهات مكتبات في المدارس، عاملات في محال فيديو مندثرة، سكرتيرات في مكاتب محاماة أوعاملات في متاجر كتب جامعية، باعة جرائد استضافتهم الأرصفة المنزوية لعشرات السنين، معلمات تربية رياضية ومحبون للفن خذلتهم الحياة. ثمة إذن نمط داخل النمط، فهم ليسوا مجرد هامشيين، بل هم هامشيين داخل فئة بعينها، فئة عاشت وارتبطت بشكل ما بهوامش المعرفة، بالمدارس والمكتبات والجرائد، أبناء الطبقة الوسطى الذين لم يسمح مستوى تعليمهم بتخطى سقف وظائف تشبه الظلال.
لكن كيف يمكن "إنقاذ" عوالم كهذه من السقوط في فخ الرتابة؟ لا يتم ذلك إلا عبر الاستكشاف الرهيف للهشاشة الإنسانية لشخصيات الظل، وتتبع وقائعهم الصغيرة التي صنعت تأثير فراشة لم يعلم سواهم به، ورسم التفاصيل التي تخلق الإنسان بعيداً عن الملامح الخارجية التي لا تقدم للرائي غير القناع: "السيرة، السجل الحياتي، ليس شيئا، إنه مجرد سجل لحالة اجتماعية يمكن الحصول عليه من أي من تلك المؤسسات القائمة على حصر البشر وتسجيل البيانات. لقد قادتنا حساسية زائفة أن نسمي هذه المعلومات: الواقع".
ليس هذا التصور – كما نقرأ في قصة "خطاب القناع"- إلا ناتجاً عن "حس تم إفساده". إن مثل تلك المعلومات والبيانات هي "قناع يمكن أن يلبسه أي فرد عاش نفس الظروف، ويمكن أن تجد آلاف لهم نفس السجلات الرسمية، وأحياناً نفس الأسماء". إن هذا محض وصف "يصلح أن يكون مصدراً لمعلومات عن طبيعة الحياة الاجتماعية، لا إفصاحاً عن روح إنسان".
في العبارة السابقة إذن يكمن ما يمكن أن نسميه "مانفيستو" مجموعة "أيام عادية"، إنه اتباع ظلال الأيام وسيلة لذلك الإفصاح عن الروح البشرية، لا مطاردة اللحظة القصصية كهدف في ذاته. وإنما استخدامها من أجل ذلك الإفصاح. هكذا، نكتشف فجأة مع العجوز العائد من البحث عن دواء ناقص في الصيدليات، أن الشعور الذي أحس به قبل أربعين عاما تجاه زميلته في المدرسة الابتدائية، ولم يستطع وقتها أن يسميه، كان هو الحب بلا شك، إنه إدراك لم يخلقه سوى مصادفة رؤيته وجه "حبيبته" القديمة، وقد خُلق من جديد في ملامح فتاة صغيرة عائدة مع زميلاتها من الدرس. وهكذا، يتسبب نقاش عابر حول انتحار شباب يتنافسون في إحدى ألعاب الإنترنت، في أن تتذكر الأستاذة لبنى موجهة المكتبات، ودارسة علم النفس سابقا، الشفاه المزمومة للفتاة التي انتحرت من شرفة بنايتهم القديمة حزنا على وفاة عبد الحليم حافظ، وكانت قفزتها تلك في السماء هي السبب في أن لبنى اختارت التمسك باختيارات أرضية، واقعية، طوال حياتها، مواصلة إقناع نفسها بأنها اتخذت القرارات الصحيحة. ونتابع محاولات عبد الهادي جار الطابق الثالث، اكتشاف عيوب البناية بعد الزلزال الشهير، بواسطة لصق أوراق البفرة على شقوق الجدار. ونرى كيف أن نهى، سكرتيرة المحامي، العاشقة الفقيرة، لديها قدرة مذهلة على التمسك بالأمل، حتى أنها تظن أن الأموات أنفسهم قد يكون لديهم آمالهم.
إنها شخصيات تنبض الحياة فيها حتى لو نستطع أن نلتقيها في "الأيام العادية"، حتى لو كانت تتلاشى في ظلال الحياة، تماما كما تلاشى الموظف سعيد، في شقته التي تشبه القبو، تاركاً كرسيه الخيزران، وكوب الشاي الساخن يتصاعد منه البخار، ومطفأة بها طرف سيجارة مشتعلة، أما هو نفسه، فقد تخيله الراوي يختفي بلا أثر، وقد امتصه ضوء المصابيح الصفراء، الدائمة الإنارة لأن شقته لا يدخلها ضوء النهار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون