"كان يوما آخر يمر مثل باقي الأيام" بهذه الجملة نعبر أولى عتبات رواية "الطائفة" للروائية المصرية جيلان الشمسي، الصادرة عن دار العين للنشر. عبارة وجيزة تعبر عن اعتيادية لعالم يحيطه الضباب، وتغيب عنه الشمس لكن هناك صيرورة لحياة ما، تسير فيها القطارات في اتجاه الجنوب ناشدة حرارته وضوءه، حيث يهرب البشر متكدسين داخل عربات القطار من شمال يغرق في الظلام، بينما تسعى البطلة "كارما" للعودة إلى مدينتها، الإسكندرية، التي سكنها ضباب كثيف ككل مدن الشمال، تشير إليه الكاتبة بكلمة "وباء"، وليس باعتباره مجرد كارثة طبيعية، كأن الضباب، بكثافته وحضور الموت في انتشاره، قد سكن نفوس البشر وانتشر داخل أجسادهم أيضاً، ولم يحل على سماء المدن الساحلية فقط.
تجلس كارما على مقعد في كافيتيريا محطة القطار في القاهرة حيث يفد الفارون من الإسكندرية، أو تنام على سريرها في غرفتها الضيقة انتظاراً لقطار عائد في إتجاه البحر تُلغى رحلاته كل يوم بطبيعة الحال، لتعود بالذاكرة إلى الوراء بصورة متشظية وبلا ترتيب، تحكي لنا قصة "الطائفة" التي كونتها مع أصدقائها، مختار وناجي وفريدة، والتي أنذرت بحلول الضباب قبل حدوثه ولم يصدقهم أحد، تلك الطائفة التي تأثرت بفيديوهات يوتيوبر ألماني يدعى شتيفان، وبأفكار نيتشه تحديداً، ونظرية العود الأبدي، حيث كل شيء يدور في دائرة لانهائية، أو كما عبر نيتشه في كتابه "العلم المرح" gay science: "الساعة الرملية للوجود ستنقلب مراراً وتكراراً، وأنت أيضاً معها، مجرد بقعة غبار".
عالم يحيطه الضباب وتغيب عنه الشمس، لكن هناك صيرورة لحياة ما، تسير فيها القطارات في اتجاه الجنوب ناشدة حرارته وضوءه، حيث يهرب البشر متكدسين داخل عربات القطار من شمال يغرق في الظلام
وكما وجد الكون من الانفجار العظيم، فإنه سينتهي بضباب عظيم، يكتسح الوجود لتكتمل الدائرة وتواصل حركتها نحو التكرار، فلا بداية ولا نهاية، وكل المراحل مجرد نقاط في صيرورة لا تنتهي، والرواية تبدأ من نقطة وتنتهي عندها، ما بين انتظار رحلة قطار تلغى كل يوم، وعثورها على رحلتها المنتظرة في النهاية وعودتها إلى حبيبها الغارق في الضباب.
تنتقل البطلة بين تفاصيل الطائفة السكندرية وعلاقات أفرادها منذ تكوينها حتى انتشار الوباء، وما بين حياة نيتشه في سنواته الأخيرة وعلاقته بحبيبته سالومي وأخته إليزابيث وصديقه ري، وبين رحلة زرادشت من خلال كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، وكتابات نيتشه عن ديونيسيوس إله اللذة عند الأغريق، لتبدو حتى بنية الرواية دائرية، فنحن نبدأ وننتهي في نفس المكان، بينما نتحرك بين الإسكندرية والقاهرة في حاضر متخيل.
تبدو المدن كأنها مدن متخيلة أيضاً، وكذلك برلين حيث حل الضباب قبل الإسكندرية، ونعود مع نيتشه إلى إيطاليا وسويسرا وألمانيا في القرن التاسع عشر، وأماكن أخرى متخيلة مع زرادشت وديونيسيوس. في واقع الأمر، كل الأمكنة خيال محض، يربطها بالواقع نذر كارثة ما ينتظرها الإنسان الذي يعيش في هذا الزمن.
"الديستوبيا" ونيتشه
ينسب مصطلح "ديستوبيا" أو المدينة الفاسدة للإقتصادي والفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، الذي ولد في بداية القرن التاسع عشر، وارتبط المصطلح بانتقاده السياسة البريطانية في إيرلندا، وهو نقيض لـ"اليوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، وإن كان بداية استخدام الكلمة أرتبط بموقف سياسي، إلا أن استخدامه على المستوى الأدبي ارتبط بأعمال أدبية تركز على أفكار الكوارث الكبرى ونهاية العالم وفساد المجتمع البشري في نقطة مستقبلية ما.
كُتب أدب الديستوبيا في ازمنة مختلفة ومن أشهر الاعمال المنتمية إليه "1984" لجورج أورويل (1949) و"ألعاب الجوع" The hunger games لسوزان كولنز (2008) أما في الأدب العربي فقد انتشر هذا التيار بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، وإن كانت هناك أعمال سابقة لهذه الفترة يمكن اعتبارها في ذات السياق مثل "السيد من حقل السبانخ" لصبري موسى، رغم ذلك فلا يمكن أن يكون هذا التيار، الذي ارتبط بالكوارث والأوبئة ومصير المجتمعات في الدول البوليسية وما إلى ذلك، منبت الصلة عن الأساطير والحكايات الشعبية التي تأثرت بمرور الحضارة الإنسانية بأحداث مأسوية بفعل الطبيعة من جهة، وبصنع البشر من جهة أخرى، وهو أقرب ما يكون من أفكار نيتشه التي اعتمدت عليها جيلان في روايتها "الطائفة".
بين الضباب والفيضان
كل الخطوط في رواية "الطائفة" تتكامل وتتوازى لخلق عالم ديستوبي لا يخلو من العاطفة، علاقات رومانسية مستحيلة، مبنية على المثلث التقليدي أحياناً، كارما "الحبيبة" ومختار "الزوج"، ومليكة "الزوجة"، في توازي مع علاقة نيتشه بسالومي التي يحبها صديقه "ري"، كذلك ردة فعل أخته إليزابيث والمجتمع على إعتزاله الحياة مع صديقته وصديقه في بيت واحد لتبادل الأفكار، يتشابه مع رد فعل المجتمع في الإسكندرية حول تجمع شباب وبنات الطائفة في بيت مختار.
ارتفعت موجة الكتابة التي تتصور "عالم ما بعد المحرقة" في الأدب العربي خلال العقدين الأخيرين، وإن كانت هناك أعمال عربية سابقة على هذين العقدين. إلا أن هذا التيار الذي ارتبط بالكوارث والاوبئة والدول البوليسية المرعبة، غير منقطع الصلة عن الأساطير الموروثة
يبدو طيف التوازي، أيضاً، في قصة زرادشت بعد أن ترك معتزله ونزل ليخطب في الناس وينشر أفكاره عن الإنسان الأعلى الذي تتجلى فيه كل القيم، فشهد قتل المهرج للبهلوان، وبين انتشار الحرائق بعد سيادة الضباب بفعل شباب الطائفة، كأن النهاية هي الحل لبداية جديدة في دائرة الحياة.
لعل التوازي الأكثر بروزاً هو ما بين مختار وديونيسيوس كما ظهر في كتابات نيتشه، حتى أن الروائية اختارت أن تعنون الجزء المروي على لسان مختار باسم ديونيسيوس، فكما ارتبطت دراسة البطلة للفلسفة بعلاقتها بنيتشه والعود الأبدي، فأن دراسة مختار للآثار وارتباطه بالميثولوجيا اليونانية كان له صداه في ارتباطه بإله الخمر والنشوة والخصوبة والجنون، وهو نفس الإله الأغريقي الذي تملَّك نيتشه.
ورغم كل هذه الأطر المعرفية والفلسفية فإن الكاتبة استطاعت مزجها في إطار روائي يخلو من محاولة "التعالُم" أو فرض نظريات مباشرة، أنت أمام شخصيات من لحم ودم تتفاعل بعضها البعض في إطارها الخيالي أو الأسطوري، وترتبط بواقع حياتنا، والمرحلة الزمنية التي نعيشها بكل إرتباكها وما نمر به من أوبئة وكوارث طبيعية، يفسرها العلم وتفسرها الأسطورة وتفسرها الفلسفة، كل بطريقته وأدواته. وإن كانت الكاتبة قد درست الفلسفة، مثل بطلتها، بعد دراستها للهندسة، وكذلك فإنها سكندرية مثل شباب "الطائفة"، عاشت في تلك المدينة المهددة في الواقع بكارثة طبيعية تغرق شواطئها بغعل التغيرات المناخية مثل كل المدن الساحلية، لكن الكاتبة أختارت كارثة أخرى، وهي الضباب، في عالمها المتخيل.
رومانسية رغم "الديستوبيا"
لم يكن اختيار إله اللذة غريباً على عالم يعيش في كآبة النهايات، كما كانت الرومانسية حاضرة وحتى الجنس كان حضوره شفيفاً في "الطائفة"، اللذة المشتهاة غائبة ومحركة لمصائر الأبطال، وللكاتبة حساسية لغوية خاصة انتقلت بين لغة كارما بتشتتها وتخبطها، وغرقها في الرومانسية والمثالية، وبين انتظام سرد مختار وتدرجه حتى الجنون، واختلاف مستويات اللغة بينها وبين سرد حياة نيتشه - بعض الأجزاء مأخوذة من كتاباته ومنقولة بخط مائل- وتماهي اللغة أحياناً مع لغة نيتشه ذاته كما نقلتها الترجمات العربية له.
نهاية الرواية قد تُقرأ باعتبارها رومانسية أيضاً، بارتباطها بقصة الحب وإيقاعها خلق عالم مختلف عن المعتاد في هذا التيار الأدبي، فليس هناك ما هو أكثر عاطفة من البطلة وهي تلحق بقطارها للعودة إلى مدينة الموت من أجل حبيبها، وإن بدا إيمانها بالطائفة محركاً أيضاً لرغبتها في العودة رغم النيران التي أكلت المدينة، ولعل هذه النهاية بعيدة عن المعتاد في روايات الديستوبيا، فلا مجال لانتصار الحب في قلب النيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين