شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الهلباوي والواشي بعبد الله النديم... الذاكرة الشعبية لا تتسامح

الهلباوي والواشي بعبد الله النديم... الذاكرة الشعبية لا تتسامح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!


لا مفاجأة في اختيار المصريين للجندي محمد صلاح بطلاً، في حزيران/يونيو 2023. الجديد أن يتجاوب الشعب العربي مع سلوك فطري، بطولي، لجندي مصري يثبت هشاشة معاهدات سلام مع عدو يستمد بقاءه بالعدوان.

وللشعب المصري سوابق تاريخية تؤكد ذاكرته الحديدية، القاسية أحياناً وغير المتسامحة. وعلى الرغم من طيبته فإنه، أحياناً، لا يقبل التوبة، ويقتل بالصمت. سلاحٌ جربه الناس مع "حسن الفرارجي" الواشي بعبد الله النديم. أبلغ عن "خطيب الثورة العرابية" المطارد من قوات الجيش البريطاني الغازي؛ فقاطعه أهل قريته حتى مات كمداً.

للشعب المصري سوابق تاريخية تؤكد ذاكرته الحديدية، القاسية أحياناً وغير المتسامحة. وعلى الرغم من طيبته فإنه، أحياناً، لا يقبل التوبة، ويقتل بالصمت

في عام 1881 أصدر النديم جريدة "التنكيت والتبكيت". وفي العام التالي ارتبطت حياته بمصير الثورة العرابية. تعرض عرابي لخيانات مدنية وعسكرية. اختار الأميرالاي "العميد حالياً" علي بك يوسف أن يخون الزعيم، فكافأه الإنجليز بلقب "باشا". لكن الضمير العام جرده من رتبته العسكرية المرموقة، وأطلق عليه الشعب اسم "خنفس". ولقي شركاؤه في الخيانة مصائر بائسة. رئيس مجلس الأعيان محمد سلطان باشا جند بالرشوة "سعود الطحاوي" صديق عرابي، وتولى نقل أخباره إلى جيش الاحتلال، وكافأه الخديو توفيق بعشرة آلاف فدان، ومنحه الإنجليز لقب "سير". أما جيرانه فنبذوه.


وبقي محمد عبيد بطلاً شعبياً. يقال إنه ظل يقاتل، وحده في معركة التل الكبير، حتى صهرت حرارة السلاح جسده، وتناثرت أشلاؤه. وخلده شعراء منهم محسن الخياط، ومما كتبه عنه فؤاد حداد:

زرْع الأمل والأماني له تاريخ وأصول

أحمد عرابى ربط فوق الليالي خيول

ساعة ما بتشبّ يلقاها القمر مذهول

يلقى انتباه البروجي وزهرة الأرغول

والملحمة الفلاحة والبدوية

بنت العرب في ساحة الفداوية

أم العيون الندية تلتفت وتقول:

شوف البطل

الفارس المصري الشهم

زارق من الدوامة زيّ السهم

وجبينه صاحب همّ بيفكر

ويغازل النور اللي يتفجر

أتمّ أوضح من هلال أبو زيد

شوف البطل اسمه محمد عبيد

أسامينا في الشهداء طرب غالي

نوارة الأيام وحنّتها

وعصرت قلبي لما غنتها

شوف البطل

مصري وشفايفه تشبه الوليفين

والأرض قايمه معاه على الجنبين

والأمهات بحري البلاد تناديه

دهب الحريم عيّط عشان يفديه

لأجل الولاد خلي البطل يضرب

يكسر صفوف الانجليز يضرب

يا بنايين نضرب معاه الطوب

الفجر لمحمد عبيد مكتوب

في الجنة عرض السيف مع دراعه

شوف البطل في هجومه ودفاعه

الفارس المصري الأصيل الحر

يرجع على التل الكبير ويكرّ

رمق الشهادة في الطريق المرّ

يفضل على طول الزمن منصور

وما يتقلعشي من السلاح والمهر

ولا من شبابه لِحد نفْخ الصور

الملحمة أخلد من التماثيل

كان حيّ ماله في الشجاعة مثيل

كان جسم في تراب الوطن مثواه

كان قلب كل المؤمنين جواه

عظّم شهيدك كل دم يسيل

على أرض مصرية عظيم الجاه

قول كل حرف في اسمه واتهجّاه

محمد عبيد

والأولّه غنى الأمل وجهاده

والتانية واصل غنوة استشهاده

والتالتة علمها الولاد يتهادوا

سيرة محمد عبيد المصري في الفرسان

واعزف على كل آلة وقول بكل لسان

إيماني بالنصر قوة مصر بالإنسان.

بعد هزيمة العرابيين، اختفى عبد الله النديم، ورصدت السلطة ألف جنيه مكافأة لمن يرشد عنه، فابتكر فنوناً في التخفي، وتنقل من بلد إلى آخر لمدة تسع سنوات، تزوج فيها وأنجب. وفي إحدى نوبات المطاردة، لمحه مأمور أحد أقسام الشرطة، وعرفه رغم التخفي، فأمر المأمور جنوده بأن يسبقوه، ثم رجع إلى النديم، وقال له: "عرفتك". لم ينكر النديم نفسه. فقال له المأمور: "اِعلم أن في الحياة بقية للكرام". وأعطاه ثلاثة جنيهات، بل إنه دلّ النديم على طريق آمن للهروب!

 الجديد أن يتجاوب الشعب العربي مع سلوك فطري، بطولي، لجندي مصري يثبت هشاشة معاهدات سلام مع عدو يستمد بقاءه بالعدوان.

لا غفران للخيانة. كاد السلطان قانصوه الغوري ينجح في التصدي للجيش العثماني في مرج دابق عام 1516، لولا انسحاب "خاير بك" بقواته، وانضمامه إلى الغزاة مع خونة آخرين من المماليك، وأشاعوا أن السلطان الغوري قتل، فانكسر الجيش. الغازي سليم الأول كافأ خاير بك فولاه حكم مصر. والشعب وصم الخائن بعار لم يفارق اسمه الذي أصبح "خاين بك".

الشعب لا يُقصر الخيانة على ساحات المعارك، يمدها إلى قاعات المحاكم، ومن فرسانها إبراهيم الهلباوي (1858 ـ 1940)، أول نقيب للمحامين، وأشهر محامٍ في عصره. ضرب به المثل في القدرة على الإقناع، وانتشر المثل القائل: "والله أقتلك وأجيب الهلباوي"، إذ يستطيع الحصول على البراءة للقاتل. ثم ارتكب عام 1906 خطيئة القيام بدور الادعاء على فلاحين أبرياء، في حادثة دنشواي، وأثبت عليهم التهمة، وتراوحت العقوبات بين الإعدام والسجن، فاستيقظ الحس الشعبي، ومنح الهلباوي لقب "جلاد دنشواي". لاحقه العار حتى وفاته، رغم محاولات التكفير عن ذنبه، والتطوع بالدفاع عن الناس من دون مقابل.


قاضي محكمة دنشواي، بطرس غالي، ادّخر له القدر مصيرا آخر. صار رئيساً للوزراء، ووافق على تمديد امتياز شركة قناة السويس 40 سنة أخرى، لتنتهي عام 2008 بدلاً من 1968، فقام الشاب إبراهيم نصيف الورداني (1886 ـ 1910)، العائد من دراسة الصيدلة في سويسرا والكيمياء في بريطانيا، بقتله بحجة الخيانة.

وحكم على الورداني بالإعدام. الجماهير رفضت الحكم، والست نعيمة المصرية "ملكة الأسطوانات" ودّعت الورداني بأغنية "قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أحسن غزال البر صابح ماشي". وظلت صور الورداني ممنوعة من التداول. سيرته احتاجت إلى ثورة لإعادة الاعتبار إليه، فكانت تموز/يوليو 1952.

الشعب لا يُقصر الخيانة على ساحات المعارك، يمدها إلى قاعات المحاكم، ومن فرسانها إبراهيم الهلباوي (1858 ـ 1940)، أول نقيب للمحامين، وأشهر محامٍ في عصره. ضرب به المثل في القدرة على الإقناع، وانتشر المثل القائل: "والله أقتلك وأجيب الهلباوي"

الاحتلال البريطاني، بجيشه وعتاده، خشي تداول اسم الورداني. ثم تكرر هذا الحظر الغريب مع اسم سعد زغلول الذي اختاره الشعب رمزاً لثورة 1919. تم نفي الزعيم، فكان التحايل بتخليده بأغنية تسمو على المناسبة، ويتردد فيها اسمه نكاية بالإنجليز. عنا نعيمة المصرية "يا بلح زغلول" التي لحنها سيد درويش. ومن كلماتها:

يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح

يا زرع بلدي عليك يا وعدي

يا بخت سعدي زغلول يا بلح

عليك أنادي في كل نادي

أنت مرادي زغلول يا بلح.


صار سعد زغلول عنواناً لثورة عاقبت رفاقه. محمد محمود ألغى الدستور عام 1928، وعطّل البرلمان، وحمل لقب صاحب اليد الحديدية، ولم يبق ما يذكر الناس به إلا شارع شهد أحداثاً دامية في ثورة 2011. أما إسماعيل صدقي فهو "عدو الشعب، منذ أصدر دستوراً انقلابياً عام 1930. كم تقسو ذاكرة الشعب. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image