"يحز في نفسي كثيراً أن ابنتي ذات الـ18 ربيعاً وأبناء جيلها من سكان مدينة الزهراء، لا تربطهم أي علاقة ببحر المدينة الذي قضى التلوث الكبير على كل بريق له، وجعله خالياً بلا زوار، بعد أن كان قبلة آلاف المصطافين الذين يأتون من كل مكان بسبب عذوبة مياهه. لكن اليوم تغير كل شيء وصرنا نشعر بالحزن ونحن نراه مهجوراً منسياً وقد بلغ مستويات قصوى من التلوث، شوهت لونه الأزرق وأفرزت روائح كريهة جعلت مجرد الجلوس على أطرافه صعباً ودفعت الكثيرين لبيع ممتلكاتهم وبيوتهم والانتقال للعيش في مناطق أخرى".
بكثير من الحزن تحدثت لرصيف22 هاجر بن جراد وهي ناشطة من أجل وقف التلوث في بحر الضاحية الجنوبية، عن المستوى الخطير للتلوث في مدينتها الزهراء وكامل الشريط الساحلي للضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية، والتي تضم مدن رادس والزهراء وحمام الأنف وحمام الشط.
وحزن هاجر له ما يبرره، فبحر الزهراء المهجور اليوم بسبب التلوث كان أحد أجمل البحار في تونس، حتى أنه كان البحر الوحيد بالبلاد الحاصل على الراية الزرقاء التي تمنح للبحار الأكثر نقاء والآمنة بيئياً من قبل مؤسسة التعليم البيئي الدولية.
بحر الزهراء المهجور اليوم بسبب التلوث كان أحد أجمل البحار في تونس.
مسؤولية حكومية
هناك إجماع لدى أبناء الضاحية على تحميل الديوان الوطني للتطهير الذي تأسس سنة 1974، مسؤولية التلوث الحاصل، بسبب تصريفه مياه الصرف الصحي والمياه المستعملة القادمة من المنازل والمنشآت الصناعية، في مجرى واد مليان ومنه إلى بحر الضاحية دون معالجة.
ويقول زهير بن عمر، الخبير في بيولوجيا البحار وعلوم المحيطات والناشط ضد تلوث الضاحية الجنوبية، لرصيف22: "منذ أنشأت محطة التطهير بدأ التلوث. كان محدوداً حينها ولا يظهر للعيان، لكن نحن سكان المدينة نعي جيداً نقاء بحرها، ولهذا تفطّنا باكراً للأمر. وبدأ هذا التلوث يتضح منذ أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات. وقد أجريت دارسة بين سنتي 1984 و1986 بالتعاون مع معهد باستور، أخذت خلالها عينات من وادي مليان حتى مدينة حمام الأنف لبحث أسباب التلوث، فكانت النتيجة أن البكتيريا البرازية هي مصدر التلوث، وأن بحور الضاحية غير ملائمة للسباحة".
وتتعهد محطة التطهير في محافظة بن عروس بمعالجة المياه المستعملة لما يزيد عن 700.000 شخص، ومعالجة مياه الصرف الصحي تعني إزالة الملوثات من خلال إجراءات فيزيائية وكيميائية وحيوية لإنتاج مياه يمكن إعادة استعمالها بشكل آمن أو تصريفها في البيئة. وهناك أربع مراحل رئيسية لمعالجة مياه الصرف الصحي: تمهيدية وأولية وثانوية وثالثة ورابعة.
لكن ما يحدث أن محطة مليان رادس لا تقوم حتى بمعالجة أولى، وترسل الفضلات البشرية مباشرة إلى وادي مليان ومنه مباشرة إلى بحر الضاحية، حسب ما أكده كل ناشطي الضاحية الذين التقيناهم. وتسبب هذا الوضع في تصنيف شواطئ الضاحية الجنوبية كأماكن تمنع فيها السباحة.
يحز في نفسي كثيراً أن ابنتي ذات الـ18 ربيعاً وأبناء جيلها من سكان مدينة الزهراء، لا تربطهم أي علاقة ببحر المدينة الذي قضى التلوث الكبير على كل بريق له، وجعله خالياً بلا زوار، بعد أن كان قبلة آلاف المصطافين الذين يأتون من كل مكان بسبب عذوبة مياهه
ولا تتوقف الكارثة عند هذا الحد، فرغم عجز محطة مليان رادس عن القيام بمعالجة مياه صرف الضاحية، يبادر ديوان التطهير بربطها مع محطة التطهير الخاصة بتونس الغربية غرب العاصمة رغم بعد المسافة.
ويروي الناشط المهتم بملف تلوث الضاحية الجنوبية منذ 2011 خالد البريبري لرصيف22: "في سنة 2014 ربطت السلطات محطة جديدة اسمها محطة العطار تبعد مسافة 23 كيلومتراً عن محطة رادس، وتضم مياه الصرف الصحي لكل إقليم غرب العاصمة أي حوالي مليون شخص، علماً أن سبخة السيجومي التي تبعد عنها مسافة خمسة كيلومترات فقط كانت تمثل مصب هذه المحطة، كما أن هناك وادي مجردة الذي يبعد مسافة تسعة كيلومترات ويقع بعيداً عن المناطق السكنية، ومع ذلك لم يتم التفكير فيه كمصب لها".
لا تتوقف مخلفات التلوث عند الجانب البحري، إذ تطال صحة سكان المنطقة.
ويضيف البريبري بأن هذا بمثابة تعمد لتحويل الضاحية الجنوبية إلى قمامة تونس، خاصة مع وجود نية لربط محطة تطهير بئر مشارقة من محافظة زغوان التي تبعد 37 كيلومتراً أيضاً مع محطة رادس.
وحسب المتحدث فإن 100 ألف متر مكعب من المياه الملوثة تصب يومياً في بحار الضاحية الجنوبية من محطة رادس، و100 ألف متر مكعب من محطة العطار أي 200 ألف متر مكعب يومياً.
ولا يتحمل الديوان الوطني للتطهير وحده مسؤولية هذا التلوث حسب زهير بن عمر، بل هناك عامل آخر غير معروف للجميع ويتمثل في عملية تطهير بحيرة تونس في أواسط ثمانينيات القرن الماضي التي كانت تعتبر على حد تعبيره أكثر البحيرات تلوثاً في العالم.
يقول بن عمر: "تولت إحدى الشركات حينها تنظيفها واستخرجت أكثر من متر ونصف من الطين والفضلات العضوية على مساحة 1300 هكتار، وقامت برميها في الضاحية الجنوبية. كانت هذه الخطوة كارثة بيئية كبيرة وتبعاتها ما زالت مستمرة إلى اليوم".
أمراض وظواهر جديدة
أدى التلوث الحاصل في الضاحية الجنوبية إلى تغيير وتشويه خصائص النظام البيئي والسلسلة الغذائية للبحر، إذ بدأت تظهر أنواع جديدة من أسماك دخيلة على النظام البيئي لبحر الضاحية، مثل الأسماك الحمراء التي تفضل الطين والمواد العضوية الموجودة في قاع البحر، مستفيدة من تكونها على مقربة من الشاطئ بسبب التلوث. ومؤخراً فوجئ الصيادون بظهور عقرب البحر وقد أطلقوا عليه "داعش" لأنه يمزق شباكهم، وهو نوع دخيل على بحار الضاحية الجنوبية.
كما استفاق سكان الضاحية منذ فترة على تغير لون البحر إلى الأخضر بشكل فجائي وخاصة في مدينة حمام الأنف، رافقه نفوق سلحفاة البحر، ما أثار مخاوف جديدة من تفاقم مستويات التلوث التي تحدث في ظل لا مبالاة من سلطة الإشراف.
ولا تتوقف مخلفات هذا التلوث عند الجانب البحري، إذ تطال صحة سكان المنطقة، لا سيما وأن اختبارات جودة مياه بحر الضاحية التي نفذها بعض نشطاء المنطقة بينهم بن عمر، أكدت وجود عناصر مسببة للأمراض على غرار السالمونيلا أو بكتيريا الضمة الكوليرية المتسببة في عدوى الكوليرا، فضلاً عن تسببها في بعض الأمراض الجلدية وحساسية العيون التي تطال الأفراد والحيوانات، وخاصة أهالي مدينة رادس نظراً لقربهم من وادي مليان حيث تمر الأوساخ يومياً.
ويقول خالد البريبري: "هناك غازات قوية سامة وكريهة جداً يستنشقها الأهالي يومياً، وتتفاقم صيفاً بشكل لا يحتمل، وتؤدي إلى عدة أمراض تنفسية. كما أدى التلوث لظهور حشرة سامة ونادرة تترعرع في المناطق الملوثة، وتترك تشوهات جلدية صعبة العلاج بالنسبة للإنسان وقاتلة بالنسبة للحيوان، ما أجبر بعض السكان على ترك منازلهم بعد تعرض أطفالهم للدغاتها. وبالنسبة للحيوانات فقد مررت بتجربة مريرة مع كلبي الذي تعرض للدغ، ورغم العلاج الذي خضع له وتكبدي مصاريف كبيرة من أجل إنقاذه إلا أنه توفي، لأن لدغة هذه الحشرة تؤدي إلى تدمير مناعة الحيوان وتجعل قواه تتراخى تدريجياً حتى الموت خلال فترة وجيزة".
أدى التلوث الحاصل في الضاحية الجنوبية إلى تغيير وتشويه خصائص النظام البيئي والسلسلة الغذائية للبحر، إذ بدأت تظهر أنواع جديدة من أسماك دخيلة على النظام البيئي لبحر الضاحية، مثل الأسماك الحمراء التي تفضل الطين والمواد العضوية الموجودة في قاع البحر
ويمثل التلوث الناتج عن مياه الصرف الصحي تهديداً متزايداً للناس والحياة البحرية، اذ يشكل أكبر نسبة من التلوث الساحلي في جميع أنحاء العالم. وعلى الصعيد العالمي يتم تصريف ما يقدر بنحو 80 بالمئة من مياه الصرف الصحي في الأنهار والبحار دون معالجة، ما يؤدي إلى إطلاق مجموعة من الملوثات الضارة في المحيط، والتسبب في ضرر مباشر للأشخاص والشعاب المرجانية.
وإن كانت المدن الساحلية الرئيسية في البلدان النامية هي المصدر الأبرز لتلوث مياه الصرف الصحي، إلا أن ذلك لا يعفي الدول ذات الدخل المرتفع من هذه المسؤولية، إذ تفرغ الولايات المتحدة وحدها سنوياً أكثر من 1.2 تريليون جالون من تصريف المياه، بما في ذلك مياه الصرف الصحي الخام غير المعالجة وجريان مياه الأمطار والنفايات الصناعية، في المجاري المائية.
لماذا الضاحية الجنوبية؟
هناك اعتقاد راسخ لدى أهالي الضاحية، بينهم هاجر، أن هذا التلوث هو جزء من سياسة تنتصر دائماً لمدن الشمال على حساب الجنوب، إلى جانب وجود خطة متفق عليها بين الدولة ورجال الأعمال للتضحية ببحرهم.
وتوضح هاجر: "في تونس هناك دائماً تقسيمات شمال وجنوب، ليس فقط بين المحافظات وإنما حتى داخل المحافظة الواحدة، وهي أحد أسباب تزايد مستويات التلوث في بحار الضاحية الجنوبية. مثلاً قبل سنوات قليلة خصصت الدولة ميزانيتين، واحدة موجهة إلى الضاحية الجنوبية للمساهمة في الحد من التلوث والأخرى لمدينة رواد في الضاحية الشمالية. ولدى التنفيذ تبين أن الأموال المرصودة لمشاريع مدينة رواد لا تكفي، فتمت التضحية بميزانية الضاحية الجنوبية وضمها لميزانية رواد رغم خطورة الوضع في سواحل الضاحية، حدث ذلك في ظل الصمت الكبير للأهالي على مدار سنوات طويلة".
كما تعتقد هاجر بأن هناك استراتيجية مدروسة اعتمدت من أجل عدم المساس بمصالح رجال الأعمال، بمعنى أن هناك التزاماً ترعاه الدولة بأن تبقى المناطق الساحلية التي توجد فيها عدة فنادق راقية نظيفة وبلا شوائب، في حين لا بأس بالتضحية بالسواحل التي تفتقر لهذه المقومات.
وهناك إجماع من كل أهالي الضاحية على أن الحل يكمن في أن تقوم الدولة بإصلاح أعطال محطة مليان رادس الكثيرة، وإجبارها على الالتزام بجميع مراحل المعالجة، والتوجه للاستفادة من المياه المعالجة في الزراعة والأنشطة الفلاحية بدل رميها في البحر، لا سيما وأن تونس من أكثر الدول المهددة بالجفاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.