منذ صغري، لطالما ترددت على مسامعي عبارة "توفي فلان بذاك المرض". لم أكن أعرف سبب تحاشي ذكر اسم هذا المرض الذي أصبح شبحاً يطارد أبناء محافظة قابس في تونس حتى في أحلامهم، إلى أن طرق الضيف الثقيل بابنا واصطحب معه رائحة الموت والألم والفراق.
تقول منال وهي سيدة ثلاثينية من مدينة غنوش إنها فقدت والدها في سن العشرين، توفي بعد سنة واحدة من إصابته بورم سرطاني في الرئة. لكن السنة لم تكن هينة عليه ولا على العائلة، إذ عانى من ويلات المرض الذي نخر جسده وطال جميع أعضائه حتى فتك به. بدورها كانت العائلة تتألم لموته البطيء وتتجرع من نفس كأس الألم والحزن، كما أنها ظلت بعد وفاته دون معيل، في حين أن جميع الأبناء ما زالوا يتابعون تعليمهم.
في قابس السرطان ليس بغريب عن أبناء المحافظة، فهو يفجع كل عائلة تقريباً في أحد أفرادها.
في قابس السرطان ليس بغريب عن أبناء المحافظة، فهو يفجع كل عائلة تقريباً في أحد أفرادها، ليصبح بذلك مأساة إنسانية لا تستثني كبيراً ولا صغيراً ولا حتى جنيناً في بطن أمه، دون وجود إحصائيات رسمية دقيقة حول الأمر، إذ تخلف رائحة الأبخرة الكيميائية المنبعثة في الجو بصفة مستمرة تشوهات وإعاقات مختلفة لساكني المحافظة، خاصة المحاذين للمجمع الكيميائي الذي أنشئ سنة 1972، ويضم وحدات لتصفية الفوسفات، ويقع تحديداً في حي شط السلام وهو حي لا تفصله عن المجمع سوى مئات الأمتار.
وقد عمّق الخليج الخانق من إشكاليات أهالي المحافظة صحياً واقتصادياً وبيئياً، ولا حلول تلوح في الأفق رغم التحركات المتواصلة للمجتمع المدني المطالبة بإزالة الوحدات الملوثة. حتى تلك الحلول المتعلقة باستغلال الفضلات الناجمة عن المجمع، والتي يطلق عليها مصطلح "الفوسفوجيبس"، لا تجد آذاناً صاغية من الجهات المعنية، رغم أهميتها في إيقاف نزيف الكارثة البيئية وفي إنقاذ صحة أهالي المحافظة.
واحة بحرية فريدة أرهقتها السموم
أفاد خير الدين دبيبة الناشط في مجموعة "أوقفوا التلوث في قابس" بأن طبيعة المناخ في المحافظة استثنائية، فهي واحة مطلة على البحر تتميز بمواردها المائية الوفيرة، وعيونها الطبيعية، وخليجها الذي تتكاثر فيه الأسماك. لكن منذ ظهور أول نشاط صناعي في المنطقة وهو شركة اسمنت قابس، تضررت الموارد المائية بسبب حفر آبار عميقة بجانب أكبر المنابع الطبيعية للمياه في المنطقة، وبعد إنشاء المنطقة الصناعية المتخصصة في تحويل الفوسفات، حُفرت آبار أخرى لغسل الفوسفات القادم من قفصة، وهو ما تسبب في اختلال النظام المائي بالواحة.ولفت دبيبة في حديثه لرصيف22 إلى أن المجمع الكيميائي في قابس يلفظ 16 ألف طن يومياً من النفايات الناتجة عن تحويل الفوسفات لإنتاج الحامض الفسفوري، والتي تحتوي على معادن ثقيلة، وهو ما يعادل خمسة ملايين طن في السنة لمدة 50 عاماً، ما تسبب في تصحر البحر وامتداد الفوسفوجيبس لمسافة كيلومتر على خليج قابس، ففقد الحوت مواطن تكاثره وتضرر التنوع البيولوجي بالمنطقة.
وتحدث الناشط في المجتمع المدني عن الأضرار البيئية التي لحقت الطبيعة الفريدة بالمنطقة، والضرر الاقتصادي الاجتماعي للأهالي الذين كانوا يسترزقون من الواحة والبحر والسياحة، بعد تصنيف المنطقة "حمراء" وممنوعة على السياح، معتبراً أن النشاط الصناعي عرقل جميع القطاعات الأخرى كالفلاحة الصيد البحري.
كما اعتبر أن قابس وهي واحة محاطة بالجبل والبحر، لا تتلاءم بطبيعتها مع هذه الأنشطة الصناعية التي تركزت بها، معتبراً أن اختيار المحافظة لمثل هذه الأنشطة خطأ وجريمة، وأشار إلى أن تحرك "أوقفوا التلوث في قابس" الذي يدافع عن حق المنطقة في بيئة نظيفة، لا يهدف فقط لتسليط الضوء على خطورة الوضع البيئي في قابس، لأن جميع الأهالي واعون للأمر، وكان أول مطلب لهم منذ اندلاع الثورة هو غلق المجمع، لأن الديكتاتورية تتجلى في نظرهم في وجوده وسط الأحياء السكنية رغم ما يكابدون من تبعاته، مبيناً أن هدف تحرك "أوقفوا التلوث" هو قيادة التحركات الميدانية والضغط على الحكومات المتعاقبة لإيجاد حل للمعضلة البيئية.
الفوسفوجيبس قابل لإعادة الاستخدام من خلال حل بسيط جداً، وهو تسخين الكبريت ليصبح غازاً، ويضاف له بخار الماء فيصبح أسيد كبريت، أما الحجارة والتراب فبالإمكان تحويلها إلى اسمنت، وبهذا يتم الاستغناء عن استيراد الكبريت بالعملة الصعبة، وخلق فرص عمل، وإيقاف نزيف التلوث البحري
وتابع الناشط بالمجتمع المدني قائلاً إن تحركات المجموعة أتت أكلها سنة 2017، وتقرر على أثرها تفكيك وحدات المجمع الكيميائي الملوثة وتحويلها خارج مناطق العمران، فوقع الاختيار على منطقة منزل الحبيب التابعة لمحافظة قابس، وهو اختيار رفضه الأهالي، ومنذ ذلك الحين تم صرف النظر عن مسألة نقل الوحدات، خاصة وأن تكلفتها كبيرة تقدر بـ5000 مليار دينار في وضع اقتصادي هش.
وختم بالتأكيد على أن مجموعة "أوقفوا التلوث في قابس" بصدد التحضير لحملة "الانفجار الجاي (القادم) وقتاش (متى)"، لأن الموت في قابس لم يعد بطيئاً بل أصبح مباشراً، بسبب الصناعات الخطيرة التي تسببت في انفجار عام 2021 راح ضحيته 6 عمال.
تثمين الفوسفوجيبس حل في انتظار التفعيل
يعرف الفوسفوجيبس بأنه مادة كيميائية ناتجة عن تحويل الفوسفات الطبيعي إلى حامض فسفوري، وهي مادة تتسبب في كوارث بيئية وتهدد بقاء الكائنات الحية أينما تم تكديسها، براً أو بحراً، لاحتوائها على إشعاعات نووية والعديد من الشوائب الأخرى.
وينتج عن هذه الأنشطة الكيميائية انبعاث غازات سامة في الهواء تسبب العديد من الأمراض الخطيرة لمستنشقيها، وقد بينت دراسة للمفوضية الأوروبية كانت قد أعدتها سنة 2016 بأن وجود الفوسفوجيبس في البيئة البحرية غيّر النظم البيئية في محيط المنطقة الصناعية، وقضى على أعشاب البوزيدونيا المعروفة باسم "الذريع البحري" وهي غابات بحرية تعتبر رئة المتوسط.
وقد أفاد المهندس علي بن حمودة أن الفوسفوجيبس يتكون من التراب والحجارة والكبريت، وهو قابل لإعادة الاستخدام من خلال حل بسيط جداً، وهو تسخين الكبريت ليصبح غازاً، ويضاف له بخار الماء فيصبح أسيد كبريت، أما الحجارة والتراب فبالإمكان تحويلها إلى اسمنت، وبهذه العملية يتم الاستغناء عن استيراد الكبريت بالعملة الصعبة، وخلق فرص عمل، وإيقاف نزيف التلوث البحري، فيكون التثمين إضافة للاقتصاد التونسي.
المجمع الكيميائي في قابس يلفظ 16 ألف طن يومياً من النفايات الناتجة عن تحويل الفوسفات لإنتاج الحامض الفسفوري، والتي تحتوي على معادن ثقيلة، وهو ما يعادل خمسة ملايين طن في السنة لمدة 50 عاماً، ما تسبب في تصحر البحر وامتداد الفوسفوجيبس لمسافة كيلومتر على خليج قابس
كما اعتبر أن حل التثمين بسيط وقابل للتطبيق، لكن العديد من العوائق تحول دون ذلك، من بينها رفض المسؤولين عن المجمع الكيميائي الحديث في الجوانب التقنية لهذا الحل، متعللين بالرفض الاجتماعي لهكذا حلول، كما أن جميع المسؤولين الوزارة متبنين رأي المجمع الكيميائي، ويرفضون الإفصاح عن السبب المباشر لعدم المضي في حل التثمين إن كان مادياً أو غيره.
وعن إمكانية استعادة خليج قابس لعافيته في حال المضي في حل التثمين، بيّن بن حمودة أن الطبيعة كفيلة بذلك خلال فترة 20 عاماً تقريباً، كما أن استعمال الديناميت قد يكون حلاً قادراً على تنظيف البحر في خمس سنوات تقريباً لكنه مكلف جداً.
ميزات وإمكانيات الفوسفوجيبس
بدورها ترزح ولاية قفصة تحت التأثيرات السلبية لمادة الفوسفوجيبس التي يتخلص منها المجمع الكيميائي بجانب وحداته على اليابسة، وقد تحدثت الدكتورة نبوية المشي عن مشروع تثمين الفوسفوجيبس الذي تعمل عليه في مختبر تطبيقات المواد على الطاقة والبيئة والماء بكلية العلوم في الولاية، مبينة أن قفصة مدينة منجمية، وهذه الفضلات الصلبة تتسبب في العديد من الأوبئة والأمراض.
إعادة استغلال الفوسفوجيبس مشروع قابل للتطبيق لكن الآلات التي تستعمل هي المكلفة.
وأفادت في حديثها لرصيف22 بأنها فكرت في تثمين الفوسفوجيبس وقامت بالعديد من التجارب، فخلصت إلى أن لدى هذه المادة قواماً يشبه الإسمنت والجبس، وخصائصها الميكانيكية متقاربة جداً، ولديها قدرة عالية في العزل الصوتي والحراري، مشيرة إلى أن التجارب أثبتت أنها صالحة للبناء وحجمها خفيف مقارنة بالإسمنت، وهي ميزة إيجابية في عملية البناء.
كما بينت المشي أنها أدمجت مادة الفوسفوجيبس مع الورق المستخرج من نبتات بعلية تنبت على الشاطئ، فحصلت على ورقة عالية الجودة من ناحية القوة الميكانيكية، وأضفى عليها الفوسفوجيبس قوة من ناحية النضارة والبياض، لافتة إلى أن خصائص هذا الورق تشبه الورق العادي الذي يعاني من غلاء الأسعار، وبالتالي بالإمكان التوجه لطرق أخرى في صناعة الورق وعدم الاقتصار على مادة الحلفاء.
ولفتت الباحثة إلى أن مادة الفوسفوجيبس تحتوي على إشعاعات، لكن بمعالجتها عبر العديد من المراحل يتم التخلص من هذه المواد المشعة، لافتة إلى أن تثمين الفوسفوجيبس حسب البحوث التي أجرتها مشروع قابل للتطبيق لكن الآلات التي تستعمل هي المكلفة. كما بينت أنها ما زالت في مرحلة البحث والتطوير في المخبر، وتأمل في أن تمول مشاريع تثمين الفوسفوجيبس من قبل الجهات المعنية، للحد من مخاطره واستغلاله عوض تكديسه على اليابسة وفي البحر.
الجدير بالذكر أن محافظة قابس هي أكثر المحافظات التونسية تضرراً من التلوث البيئي، إذ يتنفس سكانها السموم الكيميائية منذ 70 عاماً، ورغم أن تونس تتصدر مراتب أولى في تصدير الفوسفات، فإن ضريبة التنمية كانت باهظة ومكلفة جداً على الصعيدين البيئي والصحي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...