"منذ سنة 2014 انقلبت حياتنا إلى جحيم، وأصبح قدوم فصل الصيف بمثابة كابوس لنا، والسبب هو وجود جارٍ مزعج يهدد حياتنا وأرضنا ومياهنا"، بهذه الكلمات تحدث الشاب الثلاثيني، معز خرباني، عن معاناته وأهالي قريته من مصبات مادة المرجين التي تنتج عن عمليات عصر الزيتون.
كان معز وجيرانه (قرابة خمسين عائلة) يعيشون حياة هادئة في قرية الشوايحية التابعة لمحافظة القيروان وسط تونس، قبل أن تقرر السلطات فتح مصبات لسكب مادة المرجين على بعد أمتار من محالّ سكناهم.
وتنتج مادة المرجين عن عمليات عصر الزيتون، وهي عبارة عن مياه فاسدة سوداء اللون وذات رائحة كريهة، وبحسب خبراء فإن هذه المادة ملوثة نظراً لحموضتها المرتفعة واحتوائها على مواد فينولية ونسبة هامة من المواد العضوية والمعدنية التي تؤثر سلباً على التربة والمياه الجوفية.
مصبات المرجين لها تأثيرات سلبية على المياه الجوفية وعلى التربة.
يقول معز في حديثه لرصيف22: "كُتب علينا أن نكون جيران مصبات المرجين التي تنبعث منها روائح كريهة جداً، تدخل منازلنا دون استئذان وتؤرق حياتنا، كما أن هذه الروائح تجذب الحشرات السامة والقوارض التي تتسبب في نقل أمراض جلدية لنا مثل مرض اللشمانيا".
ويضيف: "يوجد في منطقتنا نحو 15 حوضاً ممتلئة جميعها بمادة المرجين، ولا تبعد عن منازلنا سوى بضعة أمتار، مما يجعلها مصدر إزعاج لنا طول السنة، كما أنها أضرّت بالمحاصيل والأراضي الزراعية المجاورة لها، فهي تضرّ بصحة الإنسان وتُلوث الهواء والتربة والماء'.
ولم يخفِ معز مخاوفه من تضرر المائدة المائية في منطقته بطول المدة الزمنية، باعتبار أن هذه المصبات تقع في أرض سبخة، على الرغم من أن الوكالة التونسية لحماية المحيط تشترط أن "تبتعد مصبات المرجين أكثر ما يمكن عن المناطق السكنية العمرانية ومجاري الأودية والسباخ والمحميات الطبيعية والمائدة المائية".
مصبات عشوائية
غير بعيد عن منطقة الشوايحية، يناضل أبناء مدينة بوحجلة منذ سنوات لحماية أراضيهم ومياههم من مصبات مادة المرجين، وللحفاظ على حق أبنائهم في هواء نظيف وبيئة سليمة دون روائح كريهة ومواد سامة.
وعلى الرغم من وجود مصبات مراقبة من قبل البلدية، فإن طاقة استيعابها لم تعد كافية لسكب المزيد من مادة المرجين، وهو ما تسبب في انتشار مصبات عشوائية في الأراضي الزراعية وعلى حافة الطرقات وقرب التجمعات السكنية، بحسب ما أكده الناشط البيئي والباحث في الكيمياء، لطفي الغريبي، لرصيف22.
وأضاف الغريبي وهو من منطقة بوحجلة، أن أصحاب معاصر الزيتون أصبحوا يتخلصون من مادة المرجين عن طريق التعاقد مع شركات مختصة في جمع النفايات، تعمل على سكب مخلفات عصر الزيتون بطرق عشوائية خصوصاً، وأن بوحجلة تحتوي لوحدها على أكثر من 100 معصرة زيتون.
كما يؤكد محدثنا أن مصبات المرجين لها تأثيرات سلبية على المياه الجوفية وعلى التربة، وهو ما يجهله كثيرون منهم أصحاب معاصر الزيتون، معتبراً أنه حان الوقت لبث ومضات تحسيسية لتوعية الجميع بخطورة مادة المرجين على البيئة والمائدة المائية وعلى صحة الإنسان، وفق قوله.
المرجين خطر يهدد البيئة
تحتل تونس المرتبة الأولى عربياً والثالثة عالمياً في إنتاج زيت الزيتون، بمحصول قياسي قدّر سنة 2022 بـ261 مليون لتراً، وعلى الرغم من هذا الإنتاج الهام فإن السلطات تجد صعوبة في التصرف في مادة المرجين بطرق علمية مدروسة تحافظ على البيئة.
ويؤكد الخبير البيئي عادل الهنتاتي، أن مادة المرجين في تونس لا تزال تشكل خطراً حقيقياً على البيئة والمحيط، على اعتبار أنه لم يتم التركيز حتى الآن على طرق مبتكرة للتصرف فيها بطريقة سليمة وصحيحة.
كُتب علينا أن نكون جيران مصبات المرجين التي تنبعث منها روائح كريهة جداً، تدخل منازلنا دون استئذان وتؤرق حياتنا، كما أن هذه الروائح تجذب الحشرات السامة والقوارض التي تتسبب في نقل أمراض جلدية لنا مثل مرض اللشمانيا
وأضاف الهنتاتي في حديث لرصيف22، بأن مادة المرجين تحتوي على نسبة حموضة مرتفعة ومواد كيميائية تؤثر سلباً على صحة الإنسان وتسبب أضراراً للتربة، إضافة إلى تسرب هذه المادة إلى المائدة المائية وتلويثها.
وأكد الخبير البيئي وجود عشرات مصبات للمرجين في عدد من المحافظات التونسية، خصوصاً تلك المعروفة بإنتاجها للزيتون مثل صفاقس وسوسة والقيروان وباجة، مشيراً إلى أنه حان الوقت لاستغلال هذه المادة بشكل سليم للحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث واستغلالها كثروة طبيعية.
ويرى الهنتاتي أن الحل الأفضل هو العمل على إعادة تدوير واستخدام مادة المرجين وتحويلها إلى سماد عضوي للأشجار المثمرة، وأيضا لاستعمالها في صناعة مواد التجميل، وذلك على خطى عدة دول مثل إسبانيا ولبنان وتركيا، وفق قوله.
كما تحدث الخبير البيئي عن وجود دراسات تتحدث عن طرق وأدوات إعادة استخدام أو تثمين مادة المرجين واستغلالها بطريقة سليمة، لكنه يقول إن "السلطات في بلاده لا تهتم بهذا التوجه على الأقل في الوقت الحالي، لأنه مكلف ويحتاج موارد مالية ضخمة وأدوات متطورة".
وكشفت دراسة لوزارة البيئة التونسية، بأنّ 53 في المائة من مصبّات المرجين (45 مصباً من أصل 116) توجد فوق طبقات جيولوجية ذات قابلية مرتفعة جداً للنفاذ إليها، والتسرّب إلى المياه الجوفية، ما يشكل مصدراً رئيساً لتلويثها، و47 في المائة منها فوق طبقات جيولوجية ضعيفة أو متوسطة تسمح بنفاذ المادة إلى المياه الجوفية.
كما أكدت الدراسة وجود 38 مصباً عشوائياً تستوجب الغلق لأنها لا تستجيب للمواصفات وتهدد البيئة والمحيط، بينما يفتقر 59 مصباً إلى إجراءات السلامة نظراً لكونها غير مسيجة بغطاء نباتي.
الحل الأفضل هو العمل على إعادة تدوير مادة المرجين وتحويلها إلى سماد عضوي.
وبحسب ذات الدراسة فإن "عملية غلق المصبّات يجب أن تتبعها إجراءات لإصلاح وتأهيل الأراضي من أجل القضاء على التلوّث الذي سببته، عبر التخلص من طبقة المرجين الجافة بعد تبخرها، وإزالة الأتربة التي توجد تحت طبقة المرجين وردم المصبات بالطين المضغوط بسماكة 20 سنتيمتراً، تمهيداً لاستصلاح الأحواض في المرحلة الأخيرة، عبر وضع طبقة نهائية من التراب بسماكة 40 سنتيمتراً تُغرَس فوقها نباتات بهدف إعادة الموقع إلى طبيعته وإعادة إحيائه"، وهي إجراءات تُكلف السلطات حوالي 450 ألف دولار.
المرجين من نقمة إلى نعمة
ويسعى أبناء الجهات المتضررة من مادة المرجين لتقديم مبادرات لتثمين هذه المادة والاستفادة منها من خلال تحويلها إلى طاقات متجددة وسماد عضوي صديق للبيئة، عوض أن تكون معضلة بيئية تهدد الإنسان والنبات والحيوان، لكن نقص الدعم المادي كان العائق الأكبر أمام تطبيق هذه المبادرات على أرض الواقع.
وفي حديثها لرصيف22، تقول حميدة عويشاوي، باحثة مختصة في البيولوجيا، إنها قدمت منذ سنة 2016 دراسة كاملة حول إعادة تدوير وتثمين مادة المرجين، وتحويلها إلى طاقات متجددة في محافظة القيروان التي تحتوي على حوالي 15 مصباً.
وترى عويشاوي أن التوجه نحو تدوير مادة المرجين سيحولها من نقمة إلى نعمة، إذ ستكون مصدراً للطاقات المتجددة، أو سماداً طبيعياً لتسميد الأراضي وأشجار الزيتون، عوض أن يُلقى بها في مصبات عشوائية لا تستجيب للشروط المطلوبة.
وبحسب عويشاوي فإن الدراسة التي تسعى وأبناء الجهة منذ سنوات إلى تطبيقها لا تزال حبيسة الأدراج في مكاتب المسؤولين بمحافظة القيروان، إذ لم تتمكن من الحصول على التمويلات المطلوبة للانطلاق في العمل على دراستها، في حين تتفاقم أزمة مصبات المرجين في بلادها سنة تلوى الأخرى.
التوجه نحو تدوير مادة المرجين سيحولها من نقمة إلى نعمة، إذ ستكون مصدراً للطاقات المتجددة، أو سماداً طبيعياً لتسميد الأراضي وأشجار الزيتون، عوض أن يُلقى بها في مصبات عشوائية لا تستجيب للشروط المطلوبة
وفي محافظة المهدية الساحلية، بدأ عشرات المزارعين في استغلال مادة المرجين كسماد عضوي لتسميد حقول الزيتون، بدعم وموافقة من المندوبية الجهوية للتنمية الزراعية وفي إطار اتفاقيات ممضاة مع أصحاب المعاصر.
وفي حديثه لرصيف22، أكد رئيس دائرة الإنتاج النباتي بالمندوبية، كمال الطاهري، انتفاع حوالي 48 فلاحاً منذ بداية سنة 2023 من تجربة تثمين مادة المرجين واستعمالها كسماد عضوي لتسميد أشجار الزيتون، مؤكدا على وجود عشرات المزارعين في قائمة الانتظار.
وأشار إلى أن هذه الخطوة تمت بطلب من المزارعين، وأنه تم تسميد حوالي 400 هكتار من الأراضي الزراعية بمادة المرجين، وذلك تحت مراقبة وإشراف مندوبية الزراعة بالمحافظة وباتباع نصائح وقواعد معينة'.
وبحسب الطاهري فإنه "من بين القواعد التي يجب اتباعها كي تكون النتيجة إيجابية استخدام 50 متر مكعب من مادة المرجين مرة كل سنتين في أرض زراعية تكون بعيدة عن التجمعات السكنية وعن مجاري الأودية".
وأكد أنه يتم تحليل التربة قبل وبعد عملية سكب مادة المرجين، وأن أغلب حقول الزيتون التي سُمدت بمادة المرجين ارتفع إنتاجها بشكل لافت، وهو ما يعني نجاعة هذه المادة في حال استعمالها بالطريقة الصحيحة.
ويؤكد محدثنا في نفس السياق، على أن خطوة تثمين مادة المرجين في محافظة المهدية ما زالت متعثرة باعتبار أنها تحتاج لتمويلات ضخمة، كما أن استعمال هذه المادة للتسميد لم يحلّ إشكالية مصبات المرجين المنتشرة في أرجاء المحافظة (22 مصباً).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.