يستيقظ يومياً قبل بزوغ الفجر بساعات. ينطلق في إعداد شباكه المهترئة، ورتق ما تيسر من الثقوب التي تطوّق رزقه، فينقل الإبرة بكل مهارة بين الثقوب، ويضمها إلى بعضها لتستقيم الشباك. ثم يركب زورقه الخشبي الصغير "الأزرق" الذي يعتمد عليه لكسب قوت يومه. مركب صغير ورثه البحّار حمّودة عن جده، وهو بمثابة قطع خشبية متآكلة صارعت لسنوات أمواج البحر العاتية بكل شجاعة حتى أعيتها. كومة الخشب هذه شاهدة على تغيّر حال بحارة هذا الجيل عن بحارة سابقه، فلطالما كانت محملةً بخيرات البحر وثرواته المتنوعة من الأسماك، إلا أنها اليوم تبحر لأيام متتالية وتعود خاوية الوفاض. هاجر السمك إلى مياه أرحم، ومالت زرقة المياه إلى الرمادي، ورائحة العفن والمواد الكيميائية تنبعث من كل مكان. إنها رائحة الموت!
رحيل الأسماك
يقول حمودة، وهو بحار خمسيني متحدّر من محافظة قابس، إن البحر في منطقة شطّ السلام أصبح مقبرةً للكائنات البحرية التي لم تنجُ منها إلا تلك التي تمكنت من مغادرته نحو بيئة أكثر نظافةً وأماناً، مضيفاً: "تحزّ في نفسي كثيراً رؤية الأسماك النافقة متناثرةً هنا وهناك في المياه. جرائم التلوث فتكت بالثروات البحرية ورزق البحارة".
تعاني محافظة قابس، منذ عشرات السنين، من التلوث الذي يخلّفه مجمع الصناعات الكيميائية الموجود في الجهة، وقد أضرت الأبخرة الكيميائية المنبعثة بجودة الهواء، كما ساهمت المواد السامة التي يتم التخلص منها في البحر في تلوث سواحل الجهة والتأثير على تنوعها البيولوجي.
البحار العياشي ساسي خلال رحلة صيد
أفاد فؤاد كريم، عضو الجمعية التونسية للطبيعة والبيئة في قابس، بأن المنطقة الأكثر تضرراً من التلوث في خليج قابس هي شط السلام حيث يقع مصب "الفوسفوجيبس" (نفايات ناتجة عن تحويل الفوسفات)، لكن المجمع الكيميائي قام حالياً بسكب النفايات داخل البحر، عوضاً عن إلقائها على الشاطئ، وبذلك لم يعد التلوث محصوراً في مكان واحد وأصبح مفتوحاً على البحر. كما لفت إلى أن المجمع الكيميائي موجود في الجهة منذ سنة 1992، ويقوم يومياً بسكب 13 ألف طن من "الفوسفوجيبس" في المياه، في "وقت الذروة"، مشيراً إلى أن البحر "تصحّر" على مرّ هذه السنين، وأصبح قاعه مبلطاً.
يقول حمودة، وهو بحار خمسيني متحدّر من محافظة قابس، إن البحر في منطقة شطّ السلام أصبح مقبرةً للكائنات البحرية
وقال محدث رصيف22: "لحق ضرر كبير بالبحر لأن خليج" قابس" سُدّ من جهة قرقنة وصفاقس وجرجيس. في السابق، كان سمك المتوسط يبيض في خليج قابس لدفء مياهه، ثم يهاجر في فصل الربيع. لكن مع التلوث الحاصل، هجر السمك الخليج بعد أن استشعر الخطر ونقص الغذاء إلى مناطق أخرى مثل خليج سرت في ليبيا، وهو ما تسبب في خسارة قابس لثروة سمكية وطنية مهمة"، كما لفت إلى أن التلوث، حسب بعض الدراسات، أضرّ بالتنوع البيولوجي، لأن الخليج كان يحتوي على أكثر من 270 نوعاً من السمك، ولم يبقَ منها الآن سوى 50 نوعاً أو أقل.
المجمع الكيميائي موجود في الجهة منذ سنة 1992، ويقوم يومياً بسكب 13 ألف طن من "الفوسفوجيبس" في المياه، في "وقت الذروة"، البحر "تصحّر" على مرّ هذه السنين، وأصبح قاعه مبلطاً
أضاف فؤاد كريم، أن خليج قابس كان يحتوي على سمك التونة الذي قد يبلغ وزنه 400 كغ، وفي موسم الجمبري والمحار كانت الكميات المستخرجة وفيرةً والإقبال عليها من كل مناطق الجمهورية، لكن التلوث والتغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة، ساهمت في خسارة ثروة سمكية مهمة وفي نفوق كميات كبيرة من الأسماك مما اضطر بحارة الجهة إلى التحول إلى سواحل "المهدية" أو "جرجيس" للصيد.
أضرار جسدية ومادية
لم تقتصر أضرار المجمع الكيميائي في قابس على البيئة فحسب، فقد تسببت المواد المسمومة في استفحال الأمراض الجلدية والسرطانية في صفوف سكّان الجهة، كما عمّقت المشكلات الاقتصادية للبحارة الذين يتراجع مردودهم يومياً وازدادت البطالة في صفوفهم بشكل غير مسبوق.
وأكد البحار ورئيس مجمع التنمية للصيد البحري في مدينة غنوش، العياشي ساسي، أن عوامل كثيرةً تسببت في العديد من المشكلات للبيئة البحرية والثروة السمكية في خليج قابس، خاصةً في منطقتي "غنوش وشط السلام"، ومن بينها الوحدات الصناعية الموجودة في خليج قابس والتي تضخ آلاف الأطنان من مادة "الفوسفوجيبس" يومياً ونفايات الأمونياك وكذلك ما يطرحه الديوان الوطني للتطهير من نفايات، الأمر الذي أضرّ بالقاع البحري.
وأضاف ساسي، في حديثه إلى رصيف22، أن البحر في ولاية قابس تعرض لأضرار كبيرة، ولم يعد يحتوي على طحالب أو كائنات بحرية بل أصبح مثل قاع إسمنتي يتكون من مادة الفوسفوجيبس يبلغ علوه أمام الميناء 70 سنتمتراً. وأشار إلى أنّ ذلك أدى إلى تراجع في مردود الثروة السمكية التي هاجر بعضها وانقرض البعض الآخر.
عوامل كثيرة تسببت في العديد من المشكلات للبيئة البحرية والثروة السمكية في خليج قابس، من بينها الوحدات الصناعية الموجودة في خليج قابس والتي تضخ آلاف الأطنان من مادة "الفوسفوجيبس" يومياً ونفايات الأمونياك
إلى جانب المشكلات البيئية، ذكر المتحدث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها بحّارة قابس، نتيجة تراجع كميات الأسماك التي كانت تزخر بها المنطقة في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، الأمر الذي أدى إلى تراجع مردودية البحارة الذين يعملون ليلاً نهاراً لتوفير قوت أبنائهم فحسب، مضيفاً: "مستوى عيش البحّار أصبح ضعيفاً جداً حتى أنه لا يتمتع بالتغطية الاجتماعية (الرعاية الصحية والتقاعد)، هذا إلى جانب المشكلات الصحية التي يعاني منها بسبب سكب مواد مجهولة المصدر تتسبب في احمرار جلد البحارة. العديد منهم يعانون من أمراض جلدية، هذا إلى جانب انتشار مرض السرطان في صفوف أهالي قابس. ثمانون في المئة من العائلات القابسية يصاب أحد أفرادها بهذا المرض الخبيث نتيجة التلوث المائي والهوائي".
أضاف العياشي: من بين تداعيات تراجع المردودية في قطاع الصيد في قابس، تركُ البحارة عملهم وعزوفهم بشكل تام عن مهنة الصيد البحري، في حين كانت هذه المهنة تورث أباً عن جد زيادةً على إغلاق العديد من المصانع المختصة في تصدير الجمبري والأسماك بعد تراجع المنتوجات البحرية، وبذلك تم القضاء على الاستثمار في قطاع الصيد البحري في ولاية قابس وانتشار البطالة في صفوف العاملين في القطاع.
شدد البحّار على أن مهنة الصيد أصبحت شاقةً مما يضطر البحار "القابسي" إلى التحول إلى جربة وجرجيس، وإلى أن يمكث في البحر لمدة 3 أيام أو أكثر ليتمكن من كسب قوت يوم واحد، في حين كان إنتاج خليج قابس غزيراً قبل تلوث مياه البحر.
عن الحلول التي يقترحها البحارة ليعود ساحل قابس إلى سابق عهده، قال العياشي ساسي: "أول خطوة تتمثل في وقف سكب المواد الملوثة في البحر من قبل الوحدات الصناعية، كذلك بعث مشاريع لإحياء الخليج من بينها مشروع الأرصفة الاصطناعية للوقاية من الصيد العشوائي ولتربية الأسماك، وهذا المشروع بُعث جزء صغير منه في منطقة غنوش، ومكّن من حماية المنطقة من الصيد العشوائي حتى أن بعض أنواع الأسماك التي كانت مفقودةً بدأت بالعودة إلى تلك المناطق".
وختم المتحدث بأن المجمع الكيمائي التونسي يتحمل المسؤولية الاجتماعية عما حدث، لأنه قام بتلويث مياه البحر وقضى على الثروة السمكية وهمّش البحارة الذين يعانون من وضعية اجتماعية سيئة، داعياً المجمع إلى التعويض المادي والمعنوي للبحّارة من خلال القيام بمشاريع تساعد في إعادة الإعمار.
خليج قابس يتدهور اقتصادياً
يشكل الوضع البيئي المتدهور في محافظة قابس، محور اهتمام العديد من الخبراء في البيئة والمجتمع المدني الذي يدافع بشراسة عن حق المنطقة في بيئة سليمة.
أظهر الخبير البيئي عادل الهنتاتي، أن التلوث البيئي لا يسبب نفوقاً للأسماك والكائنات البحرية لأن التركيبة الكيميائية في منطقة خليج قابس، خاصةً في منطقة غنوش، حيث يقع مصب "الفوسفوجيبس"، منفرة للكائنات البحرية وتدفعها أساساً للابتعاد عن المنطقة الملوثة.
ويرى الهنتاتي، أن الوضع البيئي غير طبيعي في المنطقة ولا يتماشى مع أنشطة الصيد البحري وأن الضرر الكبير الناجم عن التلوث في خليج قابس يتمثل في تركز مادة "الفوسفوجيبس" كثيراً في البحر، مما يتسبب في القضاء على طحالب "البوزيدونيا"، علماً أن خليج قابس من أكبر المناطق في البحر الأبيض المتوسط التي تحتوي على "البوزيدونيا".
كما لفت محدث رصيف22، إلى أن طحلب البوزيدونيا يختزن نسبةً كبيرةً من الأوكسجين وتتجمع فيه الأسماك والكائنات البحرية للتكاثر وقضاء مدة زمنية معينة في تلك المنطقة، ولكن تلوث المياه البحرية تسبب في تضاؤل مساحة الطحالب وتالياً أضعف القيمة الاقتصادية لخليج قابس من حيث الثروة السمكية، مضيفاً: "جزء كبير من الأسماك التي يتم اصطيادها في المتوسط أو في خليج قابس تنمو في البوزيدونيا، وتالياً هذا هو الخطر الاقتصادي الكبير الذي يهدد بحارة المنطقة".
طحلب البوزيدونيا يختزن نسبةً كبيرةً من الأوكسجين وتتجمع فيه الأسماك والكائنات البحرية للتكاثر وقضاء مدة زمنية معينة في تلك المنطقة، ولكن تلوث المياه البحرية تسبب في تضاؤل مساحة الطحالب
وعن انقراض بعض الكائنات البحرية بفعل التلوث، تحدث الخبير البيئي عن وضع جدلي، لأن البحر المتوسط، بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة في الماء، استقطب أصنافاً بحريةً دخيلةً قادمةً من البحر الأحمر عن طريق قناة السويس تبحث عن ماء ساخن نسبياً، فيما رحلت الأصناف الطبيعية والمتوطنة في البحر المتوسط، وهي أصناف لا تعيش في الحرارة وتتلاقى مع المياه الباردة نسبياً.
كما أكد الهنتاتي، أنه بفعل التلوث والتغيرات المناخية غادر عددٌ كبير من الكائنات البحرية في ظل عدم وجود دراسة دقيقة تحدّد هذه الأصناف، لافتاً إلى أننا نجد من بين الأصناف الدخيلة القادمة من البحر الأحمر، القريدس الذي جلب قيمةً اقتصاديةً جديدةً للمتوسط، ومن بين الأصناف المغادرة الجمبري الملكي الذي يُعدّ البحر المتوسط موطنه الأساسي.
ويرى الخبير البيئي أن البحر الأبيض المتوسط أصبح شيئاً فشيئاً يميل ليصبح بحراً مدارياً لارتفاع درجات الحرارة فيه، بسبب التغيرات المناخية، لافتاً إلى أنه كان قد كتب مقالاً علمياً بعنوان "المتوسط ينحو إلى أن يكون بحراً مدارياً".
وعن إمكانية التخفيض في مستوى تلوث خليج قابس، قال الخبير البيئي: لوحظ، بعد إغلاق مصنع "الفوسفوجيبس" في مدينة صفاقس قبل 15 سنةً، أن معشب "بوزيدونيا" عاد كما كان من قبل، مضيفاً: "العلم يقول إنه عند تقلص مصادر التلوث وانخفاضها من حيث تركزها، يعود الوسط البحري إلى طبيعته من جديد. لا توجد منطقة بحرية تموت نهائياً، لذلك نقول إنه عند الحد من انسكاب مادة "الفوسفوجيبس" في منطقة غنوش ربما يعود البحر المتوسط إلى طبيعته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...