"سرعان ما ابتعد عنّي زوجي بعد اكتشاف ورم في صدري، وصار يتجنب الأكل معي على المائدة، ويتحجج للنوم بعيداً عنّي، وحين توالت مصاريف علاجي، سلّم الدكان لصاحبه وهرب إلى حيث لا أعلم"؛ تقول فوزية (39 سنةً)، التي تقطن في حي شعبي في مدينة الرباط، وهي تروي ما حصل معها بعد هجر زوجها لها، وتركها تواجه قدرها برفقة طفلين.
تضيف فوزية في حديثها إلى رصيف22: "كنا نعيش بشكل بسيط، إذ كان لزوجي دكان بقالة، وكنا نستأجر شقةً صغيرةً في الحي نفسه، ونعيش باستقرار إلى أن أصابني ورم سرطاني في صدري، وتوالت زياراتي إلى المستشفى والوصفات الطبية، فهرب بحجة أنه لا يستطيع العيش مع امرأة بثدي واحد".
سألت فوزية عن زوجها كثيراً، لكن من دون أن تنجح في الوصول إلى خبر عنه، إلى أن أخبرها أحد أصدقائه بأنه سمع منه سابقاً عن رغبته في الهجرة إلى أوروبا، وبدء حياة جديدة هناك. "هل نجح في ذلك؟ هل توفي في الطريق؟ لا أعلم، ولم يعد يهمني، فقد تركني وأنا في أمسّ الحاجة إلى الدعم المعنوي والمادي، شهور طويلة من الكراء لم أدفعها بعد، ومصاريف العلاج بعضها من الجمعيات وأخرى من المحسنين"؛ تسترسل فوزية في حديثها، مشيرةً إلى أنها عاشت لمدة سنتين على أمل أن يتراجع عن قراره ويعود إلى أطفاله، لكن دون جدوى، مما دفعها لطلب الطلاق عن طريق المحكمة، "كي لا يترسخ في داخلي شعور الرفض والهجر وتركي للمرض ومسؤولية الأطفال"، تقول المرأة.
يُواجِهْنَ مصيرهن وحيداتٍ
على غرار فوزية، نساء كثيرات تخلّى عنهنّ أزواجهن بعد المرض، مثل سميرة (اسم مستعار) التي تقول: "أنا لم أختَر المرض، إنه ابتلاء من الله وأنا راضية بقدري، لكن نظرة الشفقة واليأس التي كنت أراها في عين زوجي كانت تعذّبني، وبعدها حين تحولت تلك النظرات إلى شيء من القرف والتهرب من الحديث والجلوس معي، كنت أشعر بالوجع، أكثر من وجعي بسبب المرض".
تشير سميرة لرصيف22، إلى أن وجع الإهمال الزوجي بعد المرض "صعب جداً، ولا يمكن لامرأة تحمّله"، وتحكي أن أطفالها هم أسباب تعلقها بالحياة، وهم ما يدفعها للاستمرار في العلاج من الفشل الكلوي.
تُنعت فوزية وسميرة في المغرب بـ"المْعْلقات"، وهن النساء اللواتي هجر أزواجهن منزل الزوجية واختفوا لمدة طويلة، حيث لم يتبقَّ أمامهن سوى خيار طرق أبواب المحاكم وتفعيل المساطر القانونية الخاصة بـ"التطليق للغيبة"، ناهيك عن نظرة المجتمع إليهن، وتبريره هجر الرجل لأسرته من دون معرفة أي خبر عنه. فالرجل في نظر المجتمع يبحث دوماً عن امرأة مكتملة الصحة والعافية لكي تتمكن من أداء واجباتها الأسرية والعائلية كافة. وبذلك تجد هؤلاء النساء أنفسهنّ أمام خيارات أحلاها مرّ، حيث لا شيء سهلاً في حياة امرأة متزوجة على الورق، والواقع يقول إنها "مْعْلقة" ما لم تحصل على ورقة الطلاق.
كنا نعيش باستقرار إلى أن أصابني ورم سرطاني في صدري، وتوالت زياراتي إلى المستشفى والوصفات الطبية، فهرب بحجة أنه لا يستطيع العيش مع امرأة بثدي واحد
تغيب الدراسات العلمية عن أسباب هجر الرجال لزوجاتهم في المغرب، وهي ظاهرة تشمل نساء معاقات أيضاً ولا تقتصر على المبيضات فقط. لكن دراسةً
في المغرب، وبرغم وجود جملة من القوانين التي تُراعي مصالح النساء، إلا أن الطريق نحو القضاء لا يزال طويلاً، حيث كشف "البحث الوطني حول انتشار ظاهرة العنف ضد النساء" أن "4.6 ملايين امرأة يتعرضن للعنف النفسي"، إلا أنهن نادراً ما يقمن بالتبليغ عن هذا العُنف غير الظاهر للملأ.
ماذا يقول القانون المغربي؟
يقول المحامي في هيئة الرباط والناشط الحقوقي محمد المو: "العنف النفسي والخيانة الزوجية ضرران كافيان لإنهاء الحياة الزوجية، لكن المُشرِّع قد يرى العكس نظراً إلى صعوبة الإثبات، إذ إن التطليق للهجر وعدم الإنفاق كذلك، لهما مسطرة خاصة، لكن المشكلة في الإثبات، وهاتان النقطتان المهمتان يجب على المشرع أخذهما بعين الاعتبار في تعديلات مدونة الأسرة المُرتقبة".
يضيف المو في حديثه إلى رصيف22: "بصفتي محامياً، أرى أنه من حق الزوجة المريضة والمُهملة المطالبة بالتعويض عن الضرر إن تخلى عنها زوجها في أثناء رحلة العلاج، أو جرّاء ما يمكن تسميته بالغدر الماكر، لأنه آنذاك تُسعفها الظروف كلها لإثبات الضرر، خاصةً أن الزوجة حين تكون قيد زواجها تُعالج بالاعتماد على التغطية الصحية (حماية حكومية) لزوجها، وتفقد هذه الميزة بناءً على رغبته، أو بعد تطليقها".
يمنح القانون المغربي المرأة حق التقدم بطلب تطليق زوجها في حالة غيابه لمدة تزيد عن سنة، وذلك وفقاً للمادة 104 من مدوّنة الأسرة، إذ إن الطلاق في المغرب لا يتمُّ إلا عبر الإجراءات القانونية، وغير ذلك لا يُعتّد به، وعلى الرجل سلوك القواعد القانونية نفسها التي تسلكها المرأة لطلب الطلاق.
من حق الزوجة المريضة والمُهملة المطالبة بالتعويض عن الضرر إن تخلى عنها زوجها في أثناء رحلة العلاج، أو جرّاء ما يمكن تسميته بالغدر الماكر، لأنه آنذاك تُسعفها الظروف كلها لإثبات الضرر
في السياق ذاته، يؤكد الباحث في علم النفس الاجتماعي محمد حبيب، "أن المرض ليس مبرراً لتخلي الزوج عن زوجته، لكن للأسف عدداً كبيراً من الرجال يتخلون عن زوجاتهم لهذا السبب، والعكس غير صحيح، إذ إن الرجل إن مرض يجد زوجته بجانبه"، مشيراً إلى أن "صدمة الفقد بطبيعة الحال تؤثر على الزوجة ويتضاعف شعور الألم عندها إن كانت مريضةً، لكن الزوجة المتروكة قد تكتسب الصمود والصلابة النفسية، فقد يكون هذا التخلي برغم مرارته مفتاحها للعودة من جديد إلى صحة أفضل".
أما بخصوص نعتهنّ بالمعلقات، فيعترض الباحث في علم النفس الاجتماعي في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "إنهن الزوجات المُهملات ولسن بالمُعلقات، وبرغم قساوة هذا المُسمى، إلا أن الزوجة المهملة ليست فقط من تعاني من مرض أو اضطراب نفسي، بل منهن فقط من ارتبطت بشخص عديم المشاعر وعديم المسؤولية، ويُسمى هذا الأمر كذلك بالطلاق العاطفي المرتكز على الإهمال الوجداني؛ إذ وفقاً للمادة 104 من مدوّنة الأسرة (قانون الأسرة المغربي)، يحق للمرأة التقدّم بطلب تطليق زوجها في حالة غيابه لمدة تزيد عن سنة؛ ولأن الصعوبة تكمن في كيفية الإثبات، تنص المادة 105 من المدونة نفسها، على أنه إذا كان عنوان الغائب مجهولاً، فإن المحكمة بمساعدة النيابة العامة، تتخذ ما تراه مناسباً من إجراءات بغية تبليغ دعوى الزوج إليه، بما في ذلك تعيين قيّم عنه، فإن لم يحضر طلقتها".
قصص النساء لا تنتهي
ونحن نفتش عن قصص النساء اللواتي تخلّى عنهن أزواجهن في لحظة نهش المرض أجسادهن، نفضنا الغبار عن جروح لم تُشفَ برغم مرور الزمن، إذ كان حجم الألم الذي سبّبه بعض الرجال لزوجاتهم المريضات هائلاً، مثل سمية التي روت لرصيف22، بعضاً من معاناتها: "عشت مع زوجي أفضل أيام حياتي، لكنه تركني يوم الولادة، بسبب خطأ طبي، كُنت أعرف أن جزءاً من قراره هذا هو خوفه من تحمّل نفقات العلاج". وتضيف المتحدثة وملامح الوجع صارخة في عينيها: "خلال العامين الماضيين لم يسأل عن نفقات ابنته الوحيدة، لم يسأل حتى ولو من بعيد كيف أوفّر نفقاتها مع نفقات العلاج، لم يطلب رؤيتها ولو لمرة واحدة".
بعد أكثر من سنة من الانفصال والابتعاد من دون طلاق، وكّلت سميّة محامياً لمطالبة زوجها بالنفقة. عندها فقط حاول إصلاح العلاقة بينهما كي لا يدفع المال: "كنت غبيةً حينها. عدت إليه لكن من دون التنازل عن النفقة. ألحّ كثيراً كي أُسقط الدعوى وحين رفضت، طلّقني، ورفض دفع النفقة، وفضّل الدخول ستة أشهر إلى السجن بدلاً من ذلك"؛ تقول سميّة.
خلال العامين الماضيين لم يسأل عن نفقات ابنته الوحيدة، لم يسأل حتى ولو من بعيد كيف أوفّر نفقاتها مع نفقات العلاج، لم يطلب رؤيتها ولو لمرة واحدة
وفيما يعمد الأزواج إلى الاختفاء دون ترك أثر يرفع بعضهم الآخر قضية طلاق ضد زوجاتهم، وحتى إذا حكمت المحكمة ضدهم بأداء نفقة الأبناء، يرفض أغلبهم الحكم بحجة العسر وقلة الحيلة، كما فعل زوج سميّة، مفضلين دخول السجن مرات ومرات، إلى حين أن يُخلى سبيلهم بشكل نهائي، لتبقى المرأة في الأخير وحدها تواجه أمواج بحر الحياة القاسية بلا عون.
كيف تتجنب النساء فخ التخلي؟
تقول الباحثة في العلوم السياسية مريم إبليل، وهي مديرة مشروع في جمعية "سمسم"، إن "هناك مبادرةً تشريعيةً من أجل تقسيم الزوجين للأموال المكتسبة بعد الزواج، لتكون المرأة بذلك مساهمةً في الأموال التي اكتسبها الرجل في أثناء الزواج؛ لكنني صراحةً لا أميل إلى فكرة إيجاد قوانين تخدم النساء في حالة الطلاق للضرر، لأن هذا الأمر ليس حلاً جذرياً، حيث على النساء العمل جدياً في التفكير في وضعهن المهني، ويتوجب عليهن الاستقلال المادي، وهذا هو الحل الإستراتيجي".
تؤكد إبليل في حديثها إلى رصيف22، أنه "يتوجب على النساء قبل الزواج التفكير ملياً في وضعهن الاقتصادي، حتى لا تنتظر المرأة رحمة المعيل، لأن التفكير في كيفية الحصول على المال من الشخص الآخر في حالة المرض أو الطلاق أو الهرب، يظل حلاً ترقيعياً فقط، والحل المنطقي هو إقناع النساء بكونهن لسن قاصرات أو جاريات حتى ينتظرن المعيل".
في ظل غياب أرقام رسمية عن عدد حالات "التطليق للغيبة" في المغرب، لنساء تخلّى عنهن أزواجهن بعد مرضهن، سجلت مختلف محاكم الأسرة في المغرب نحو 300 ألف حالة طلاق عام 2022، أي بمعدل 800 حالة كل يوم؛ الأمر الذي يوضح تضاعف حالات الطلاق في المغرب نحو ثلاث مرات بين عامي 2019 و2022، وفي 2019 وحده سجلت المحاكم 131،100 حالة طلاق.
إلى ذلك، تظل معاناة النساء المتخلّى عنهن مُستمرةً، خاصةً مع توالي وجود صور نمطية مرتبطة بالنساء، وأوصاف تجعل أوجاعهن تتزايد، حيث يظل "التخلي" عن الزوجة من أشد أنواع العنف النفسي الممارس ضد المرأة؛ وهو ما يعمل عدد من الجمعيات على تخفيف وقعه لدى النساء، من قبيل "نساء شابات من أجل الديمقراطية" و"تحالف إصرار"، وهي منظمات لنساء يعملن على تنظيم جلسات استماع إلى النساء، وكذلك على ورش تكوين في تخصصات مُختلفة، لجعل النساء يحظين باستقلالية مادية، تحميهن من غدر الزمن والأزواج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...