"المرأة بلا راجل ديما محكورة"، تقول السعدية، بأسفٍ لا تخفيه ملامحها، على خلفية مسطرة تطليق زوجها الذي يغيب عنها منذ ثلاث وعشرين سنةً، ما جعلها حبيسة وضعية لا هي بالمطلقة ولا هي بالمتزوجة، وحبيسة جواب "الرفض" الذي يُلقى على آذانها كلما طُلب منها إحضار وثيقة إذن الزوج لاستخلاص وثائق خاصّة.
هي "المْعْلقة" بالدارجة المغربية، وهو التوصيف المتداول في صفوف النساء اللواتي اختفى أزواجهن عن بيت الزوجية ولفترة طويلة جداً، مما صعّب مسطرة الطلاق المعروف قانونياً بـ"التطليق للغيبة".
قصة السعدية لا تختلف عن قصة لطيفة وغيثة، ثلاث نساء مغربيات "مْعْلقات"، يحكي عن قصتهن المؤلمة الفيلم الوثائقي "لمعلقات"، لمخرجته مريم عدو.
رحلة التطليق المعقّدة
وسط عروس الأطلس المتوسط، بني ملال، وخلال ثلاث وسبعين دقيقةً، تتعقّبُ عدسة الكاميرا خطوات النساء الثلاث خلال "رحلة" التطليق الشاقة في غياب الزوج، بمساعدة الكاتب العمومي المكلف بتحرير الوثائق اللازمة لرفع الدعوى القضائية، في مكتبه الصغير حيث تنكشف شخصيات النساء الثلاث وتتأرجح مشاعرهن بين الإحباط والأمل في الحصول على ورقة الطلاق، على الرغم مما يعيق ذلك بسبب الأمية والفقر وصعوبة إثبات غيبة الزوج.
تنطفئ أضواء سينما "النهضة"، الكائنة في قلب مدينة الرباط، فموعدُ عرض الوثائقي قد حلّ، لتنطلق أضواء مشاهد الفيلم وتتعالى معه أصوات النساء، وخُطاهن نحو الكاتب العمومي الذي يستقبل شكاواهن بسؤال: "ما مشكلتكِ؟"، لتنغمس أصابعه على آلته، يرقن ما تنطق به النساء بعد الأخذ والرد معهنّ.
لا هي مطلقة ولا هي متزوجة، وحبيسة جواب "الرفض" الذي يُلقى على آذانها كلما طُلب منها إحضار وثيقة إذن الزوج لاستخلاص وثائق خاصّة. المعلّقات فيلم يرصد معاناة نساء "اختفى" أزواجهن
السعدية تعاني في غياب زوجها مدة ثلاث وعشرين سنةً. لطيفة هي الأخرى طال انتظارها لزوجها الغائب ثمانية عشر عاماً، إذ تركها وهي حامل بابنها في شهره الثاني. تقول بأسف: "كافحتُ وحدي واشتغلت في غياب زوجي، ثم تمكنت من اقتناء بقعة أرضية خصّصتها لبناء المنزل حيث أقطن، وما دفعني إلى التفكير في التطليق، هو حين حذّرني الناس من أن أي عودة محتملة لزوجي ستجعل هذا البيت من نصيبه في الإرث بعد وفاتي، وهو ما لن أستسيغه مطلقاً".
غيثة هي الأخرى "مْعْلقة"، تجري بيأس خلف شروط مسطرة التطليق التي تفرض حضور اثني عشر شاهداً على زواج المرأة من الزوج الغائب من جهة، وخلف مسؤولية إعالة نفسها التي تُفجّر من وقت إلى آخر صعوبات وتعقيدات من جهة أخرى، من بينها امتناع مالكي منازل كراء غرف للنساء "لمْعْلقات"، ويبقى أملها كبيراً بأن تُسمِع صوتها على أثير الإذاعة الوطنية في ركن "المتغيب"، بحثاً عن زوجها وعنوانه حيث يتواجد.
"لْمْعلقات" في بني ملال
لماذا بني ملال؟ سؤال طرحناه على المخرجة مريم حول سبب اختيار فضاء المدينة للتصوير، لتجيب: "ذهابي إلى بني ملال للمرة الأولى كان من أجل اللقاء برئيس المحكمة ليساعدني على العثور على نساء معلقات، فحدث أن تصادف يوم مجيئي بحفل تعيين بعض القضاة، مما حال دون تحقيق هدفي. كنت حينها برفقة صديقتي التي اقترحت عليّ زيارة عين أسردون، كونها وجهةً سياحيةً، إلى أن انبهرت بوجود نسوة في الفضاء نفسه بحرّية يعكسها حديثهن العفوي ولباسهن المنزلي: البيجامة المغربية".
فرصة اكتشاف عين أسردون بالنسبة إلى المتحدثة كانت نقطة الحسم، إذ فيها تعرّفت إلى نسوة يمتهنَّ نقش الحنّاء المغربي، وهناك التقت بنقاشة قادتها إلى غيثة التي كانت في خضم رحلة البحث عن اثني عشر شاهداً، ساعدتها بعد ذلك على التعرف إلى السعدية. أما لطيفة، فهي التي بادرت بالاتصال بالمخرجة السنيمائية.
بداية الاشتغال على موضوع الوثائقي، تحكي مريم، تعود إلى سنة 2014، أي بعد مرور عقد كامل على إقرار مدوّنة الأسرة، فكان سؤال تقييم مسطرة طلاق الشقاق يشغلها حينها، إلى أن اصطدمت بشهادات نساء أبرزن معاناتهن خلال مسطرة التطليق للغيبة. حينها، انكبّت على هذه الأخيرة من خلال اللقاء برؤساء المحاكم ووكلاء الملك الذين "أنكروا وجود هذه المشكلة"، تقول المتحدثة نفسها.
رجال غائبون ونساء معلّقات لا هنّ بالزوجات ولا بالطليقات. وضع قانوني غريب ومؤلم يرصده الفيلم الوثائقي "المعلقات"
وتضيف: "كلّفني الفيلم سنوات لتطوير فكرته وتجويد طريقة تصويره، لكي يكون على ما هو عليه الآن، إذ نلمس العفوية التي تتكلم بها النسوة بوجه مكشوف، ومن دون خوف من ذلك"، موضحةً أنها بدأت بتصوير الوثائقي سنة 2015، توازياً مع تطوير فكرته خلال مشاركتها في ورشات خاصة بالكتابة السنيمائية.
نساء فقيرات وزوج غائب
كانت صعوبة العمل الوثائقي، تكمل المتحدثة، في البحث في مدن مغربية عديدة عن نساء يتكلمن أمام الكاميرا من دون إخفاء هويتهن، فبعدما التقت بمرأة "مْعْلقة" في طنجة، ثم بأخرى في مدينة القنيطرة، استقرّ الاختيار على البحث عن نساء أخريات في مدينة بني ملال، على خلفية ما كانت تسمعه عن وجود نساء أمّيات وفقيرات كثيرات يتعرضن لهجر أزواجهن لسنوات طويلة.
وإذا كان فيلم "لمعلقات" قد حصل على جائزة تنويه في المهرجان الدولي لفيلم المرأة في سلا سنة 2021، فإن بطلات الفيلم لم يحصلن كلُّهن على حلمهن، وهو الحصول على ورقة الطلاق. تقول المخرجة مريم إن غيثة قد حصلت على ورقة الطلاق الذي احتفت به مع أقاربها، أما السعدية فبعدما بحثت عن محامٍ يدافع عنها، حكم القاضي لها بالطلاق، لكن وكيل الملك رفض الحكم. وبخصوص لطيفة، فقد توفيت قبل أن تحصل على الطلاق بعدما تمكنت من جمع اثني عشر شاهداً.
نهاية أليمة لمعركة هي الأخرى أليمة على مستوى الجهد الذي بذلته، وعلى مستوى مشاعر الإحباط والتعب خلف مسطرة التطليق، تنسجم موسيقياً مع أغنية "نية" الشهيرة للمغنية المغربية "أوم"، ولسان حالها يقول: "ومصاب نصيب جهد لكل ما مقدر، ما نعذب ما نثقل ولا حد أنا نشقي، نرحل لدنيا أخرى وبالخير نتذكر، والحمد لله إذا أنا خذيت حقي"، من دون أن تنال لطيفة حقها في الطلاق.
مسطرة التطليق للغيبة
إنتاج فيلم "لمعلقات"، ثم عرضُهُ، عدّتهما فعاليات حقوقية ونسائية مسألةً بالغة الأهمية في إعادة فتح النقاش حول إصلاحات مدوّنة الأحوال الشخصية، وحول مدوّنة الأسرة، بعد مرور ثماني عشرة سنة على إقرارها.
نزهة كسوس، عضوة اللجنة الاستشارية الملكية لتعديل مدوّنة الأحوال الشخصية، تقول في حديث إلى رصيف22، إن "مشاهدة الفيلم الوثائقي من خلال عرضه على شاشة التلفزيون، هي مبادرة جيدة مكّنت الجمهور الواسع من المغاربة من متابعته، ومشاهدتي كانت مؤلمةً جداً، لأنه سلّط الضوء على الواقع المجحف والمضرّ بكرامة النساء وحقوقهن، من خلال تطبيق القانون الذي يحكم التطليق للغيبة".
وتؤكدُ كسوس أن مسطرة التطليق للغيبة "تؤثر على النساء بكيفية عنيفة جداً، إلى حد أنه لمدة عشر سنوات مصير عدد من النساء غير واضح، فلا هن متزوجات ولا عندهن الإمكانية لإعادة بناء حياة زوجية من جديد"، مضيفةً: "هذا يذكرني بالمثل الشعبي المغربي ‘مرات المنحوس لا هي مطلقة ولا هي عروس’".
تعلّقُ المتحدثة على مقتضيات المادة 104، التي تحدد مقتضيات التطليق للغيبة، بالقول: "المادة 104 من المدوّنة تشترط طلب تطليق الزوجة بغياب الزوج مدةً تزيد عن سنة، وهي مدة لا بأس بها، لكن المادة 105 تنص على أنه إذا كان الغائب مجهول العنوان، اتخذت المحكمة بمساعدة النيابة العامة، ما تراه من إجراءات تساعد على تبليغ دعوى الزوجة إليه، بما في ذلك تعيين قيّم عنه، فإن لم يحضر طلقتها، لكن الواقع الذي يوضحهُ الفيلم الوثائقي مؤلم".
وفي هذا الصدد تقول كسوس: "نرى أنه زيادةً على ما تقوم به النساء من إجراءات وإحضار الوثائق، يُطلب منهن أن يبحثن بأنفسهن عن العنوان الخاص بالزوج الغائب، فهل كانت السلطات غير قادرة على البحث عن العنوان، مع أنه توجد لديها كل المعلومات في قاعدة بيانات بطاقة التعريف الوطنية، وكل الإمكانات لمعرفة أين يوجد الشخص الغائب لإبلاغه بالموضوع؟".
المشكلة ليست في القانون، بل في تطبيقه، تستطردُ الفاعلة الحقوقية، وهذه المسؤولية مطروحة على عاتق النساء، واصفةً إياها بـ"المهزلة"، ومتسائلةً في المقابل عن إمكانات الزوج في حالة غياب زوجته بالقول: "المدوّنة لا تتطرق إلى هذه النقطة، ولا أظن أن يُطلب من الزوج أن ينتظر سنةً أو سنتين، أو أن يبحث عن عنوان الزوجة الغائبة، لأن بإمكانه أن يتقدم بطلب التعدد في الزواج بزوجة ثانية، وأتصور أنه قد يحصل على الإذن لذلك من دون أن يطلب الطلاق".
وتضيف كسوس: "قراءة القانون تسائل مبدأ التبادلية، يعني أن شخصين تزوجا وبينهما عقد زواج، يطبَّق عليهما قانون واحد، ولكن القانون نفسه يقول ماذا يجب أن يحصل في حالة غياب الزوج، ويبين في التطبيق أن الزوجة هي الضحية الأساسية مع الأبناء".
حاجة إلى تعديل قانون الأسرة
وبالعودة إلى سياق تعديل إقرار مدوّنة الأسرة، تقول كسوس، وهي مؤلفة كتاب "امرأة في زمن الفقهاء"، إنه "لا بد أن نضع هذه المقتضيات في الإطار الذي وُضعت فيه مدوّنة الأسرة، بالرجوع إلى التوافقات التي حكمت محتواها، وحُدِّدت من مدى تجاوب مقتضياتها مع التغيرات المجتمعية سنة 2000".
وفي هذا السياق، تؤكد المتحدثة أنه "كانت هناك إمكانيتان، الأولى أن ننطلق من مدوّنة الأحوال الشخصية ونحذف منها المساطر المنبثقة من أحكام فقهية يرجع بعضها إلى القرن الثامن ميلادي، كالتطليق للعيب، أو للإيلاء والهجر، التي لم تعد تتجاوب مع تطورات المجتمع، وأن ندقق أكثر مسطرة التطليق للغيبة، والإمكانية الثانية، وهي التي تمت، هي الاحتفاظ بالمساطر متجاوزةً مع إدماج مسطرتين جديدتين، وهما الطلاق الاتفاقي من جهة، والتطليق للشقاق من جهة أخرى الذي عالج مشكلات عدة، وأصبح المسطرة الأكثر تتبعاً حسب إحصائيات وزارة العدل، خاصةً في طلبات التطليق للضرر، على الرغم من أن هذا الأخير لم يُحذف من مدوّنة الأسرة".
وتُكملُ الفاعلة الحقوقية قائلةً إن وثائقي لمعلقات، "تطرق إلى تأثير المواد المتعلقة بالتطليق للغيبة، وهو ما يؤكد أن مدوّنة الأسرة متجاوزة، وتطبيقها يبيّن أن النساء اللواتي لديهن الإمكانية للجوء إلى طلب الطلاق والتطليق للشقاق، يمكنهن أن يتفادين بعض النواقص الموجودة في مدوّنة الأسرة، لكنَّ النساء في المناطق القروية ليست لديهن الإمكانية لمعرفة الحلول الأخرى، ما عدا اللجوء إلى مساطر مجحفة".
وتستطردُ كسوس: "آن الأوان لمراجعة شمولية وجذرية للمدوّنة لملاءمتها مع التغيرات المجتمعية، ومع التزامات الدولة المغربية في مجال حقوق النساء والأطفال، لتجاوز التناقضات والنواقص القانونية وعدم دقة المقتضيات، بالتطرق إلى بنودها التي لم تكن ممكنةً مراجعتها سنة 2004، بهدف واحد وهو المساواة بين الزوجين وإنصافهما وإنصاف كرامتهما وكرامة الأطفال وحفظ حقوقهم، لأنه لا ذنب لهم في هذه الوضعية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 7 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 7 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت