كانت قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها قرابة 4000 متر مربع هي كل ما يملكه الشاذلي السيد، الرجل الأربعيني في قريته كومير التابعة لمركز إسنا بمحافظة الأقصر، التي تشتهر بزراعة قصب السكر. وبسبب كبر مساحتها قسّم السيد أرضه إلى نصفين: أجّر النصف الأول لمزارعين، والنصف المتبقي كان يزرعه هو ويحصل على إنتاجه.
يقول: "منذ سنوات قليلة بدأ إنتاج الأرض في الانخفاض، إلى أن توقفت الأرض التي أزرعها عن الإنتاج تماماً وتحولت إلى أرض قاحلة، إذ نمت فوق سطحها طبقة سوداء تشبه العفن تجعلها غير صالحة للزراعة، بسبب الصرف الزراعي الذي بات يصب فيها، وترسب الأملاح التي لا أعرف مصدرها". ومع توقف الأرض كلياً عن إعطاء محصولها المنتظر، اضطر السيد إلى إنهاء التعاقد مع المؤجرين للنصف الآخر منها، كي يزرعها هو ويستفيد ولو بالقليل، وبدلاً من قصب السكر زرع البرسيم كغذاء للمواشي.
في الفترة الأخيرة زادت شكاوى عدد من المزارعين المصريين من تصحر أراضيهم وانخفاض إنتاج محاصيلهم.
يوضح المتحدث لرصيف22 أنه منذ توقف الصرف الزراعي في الأرض والأراضي المجاورة، بدأت في التصحر نتيجة زيادة الأملاح فيها، وأصبحت كل عام تبور شيئاً فشيئاً، مضيفاً أن الأرض كانت تعطي 30 طناً من قصب السكر لكن هذا الرقم انخفض إلى 20 طناً ثم أقل.
وفي الفترة الأخيرة زادت شكاوى عدد من المزارعين المصريين من تصحر وبوار أراضيهم وانخفاض إنتاج محاصيلهم، والسبب وفق ملاحظاتهم هو زيادة ملوحة التربة، التي أثرت على كمية الإنتاج الزراعي، إلى أن انتهت بتصحر مساحات واسعة من الحقول.
تراجع الإنتاج بمقدار الثلثين
لم يختلف الوضع كثيراً في أرض طلحة بدوي حمدين الموجودة ضمن حوض عزب في قرية حاجر كومير في الأقصر، والتي زادت المياه الجوفية في باطنها، ومع ارتفاع درجات الحرارة تبخرت المياه وترسبت الأملاح في الأراضي إلى أن تصحرت، وتوقف نمو المحاصيل، ومهما اهتم بها وعمل على ريها، لم تعد تكبر كما في السابق.
ورغم أن أرض حمدين الزراعية يفترض أن تنتج 60 طناً من المحاصيل وخاصة قصب السكر، لم يعد يحصل منها إلا على 20 طناً فقط، ويقول: "أكثر من 70% من الإنتاج ضائع بسبب زيادة ملوحة التربة".
ويؤكد طلحة لرصيف22 أن زيادة المياه الجوفية وتصحر الأراضي حدثا بسبب توقف عمليات الصرف الزراعي، واشتكى هو وجيرانه المتضررين إلى مهندسي الري التابعين للوحدة المحلية، ورغم الوعود بإصلاح الصرف لم تتخذ أي خطوات فعلية، فالشبكة تحتاج إلى تجديد عاجل وضروري، وهو أمر لم تتم معالجته حتى اليوم.
يقول طلحة: "نحن بلد زراعي، وأكثر من يتضرر اليوم من هذه الإجراءات هو المزارع المصري، فعدم توافر الصرف الزراعي في الأراضي أثر سلباً عليها، وفي الشتاء تتعرض الأرض لموجات صقيع تصيب النباتات، إلى جانب زيادة نسبة الحشرات الضارة".
وفي ورقة بحثية للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، توقع أن "تنخفض غلة المحاصيل الغذائية في مصر بأكثر من 10 بالمئة عام 2050، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وندرة المياه وزيادة ملوحة مياه الري"، وأشار إلى أن "التأثير في منطقة الدلتا قد يكون أعلى من ذلك بكثير".
منذ سنوات قليلة بدأ إنتاج الأرض في الانخفاض، إلى أن توقفت الأرض التي أزرعها عن الإنتاج تماماً وتحولت إلى أرض قاحلة، إذ نمت فوق سطحها طبقة سوداء تشبه العفن تجعلها غير صالحة للزراعة، بسبب الصرف الزراعي الذي بات يصب فيها، وترسب الأملاح التي لا أعرف مصدرها
ارتفاع درجات الحرارة وتبخر المياه
عن أسباب زيادة ملوحة المياه في التربة الزراعية، يجيب الدكتور عباس الشراقي، أستاذ الموارد المائية والجيولوجيا بجامعة القاهرة، شارحاً أن هناك أسباباً عدة، منها درجات الحرارة المرتفعة في بعض المناطق، فالأراضي الزراعية في شمال الدلتا تختلف عن أراضي وسط الدلتا أو صعيد مصر.
ويوضح الشراقي في حديثه لرصيف22، أنه على الرغم من محاولات الحكومة المصرية تحفيز المزارعين على تقليل الاعتماد على الري بالغمر للأراضي الزراعية، نتيجة استهلاكه كميات كبيرة من المياه، فإن هذه الطريقة هي الحل المثالي لمعالجة زيادة الملوحة، إذ تعمل على غسل لتربة وتقلل الأملاح التي تنتقل مع مياه الصرف الزراعي إلى المصارف.
ويرى أن هذا الحل لن يكون مفيداً إذا كان الصرف الزراعي لا يعمل بالشكل المطلوب، فالمياه التي تغسل بها التربة من الملوحة، يجب أن تنتقل خارج الأراضي، وإلا فستؤثر سلباً على التربة من جديد.
يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة البخر وبالتالي زيادة الأملاح.
وذكر المتحدث بأن الأرض الزراعية في الساحل الشمالي أو شمال الدلتا قريبة من مياه البحر، وبالتالي يكون هناك تداخل بين المياه الجوفية تحت سطح الأرض ومياه البحر، فتزداد الملوحة فيها وتصبح غير صالحة لزراعة محاصيل كثيرة. ويتابع: "في هذه الحالة تخصص هذه الأراضي لزراعة الأرز الذي يتحمل الملوحة، ويحتاج كميات كبيرة من المياه".
وعن العامل الثالث المؤثر في زيادة ملوحة التربة، يوضح الشراقي أن التغير المناخي له دور في ذلك، إذ يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة البخر وبالتالي زيادة الأملاح، خاصة إذا زادت الحرارة عن معدلاتها الطبيعية وهو أمر بات متكرراً في مصر في السنوات الأخيرة.
ومن ضمن المخاطر المناخية التي تتعرض لها مصر، ارتفاع منسوب مستوى البحر، وهو أمر سيؤدي إلى دخول المياه المالحة على الجوفية وتلوثها، وتملح التربة وتدهور جودة المحاصيل وفقدان الإنتاجية، وبالتالي تراجع الإنتاج الزراعي وتأثر الأمن الغذائي.
المياه الجوفية
يشرح الشراقي أيضاً بأن المياه الجوفية لها دور في ملوحة التربة الزراعية، وعادة يتم اختيار المحاصيل وفق نوع هذه المياه، فمنها العذبة ومنها المالحة، وهي عادة تخزن ضمن خزانات أو حاويات كبيرة على شكل آبار تحت الأرض.
ويشير إلى أن زيادة استهلاك المياه الجوفية تستنزف الخزان وتعجّل بزيادة ملوحته، وعادة يتم تحديد كمية المياه التي يمكن سحبها من كل خزان يومياً، إلا أن بعض المزارعين يحفرون آباراً بدون ترخيص للحصول على كميات إضافية، فيسحبون المياه المالحة من المناطق المجاورة دون التزام بخصائص المياه الجوفية في منطقتهم، فتتملح مياه الخزان وتؤثر على أرضهم.
ويستكمل: "أحياناً يلجأ المزارعون إلى مخالفة الكمية التي نصت عليها وزارة الري في حجم المياه المسحوبة من البئر، فيشغلون الخزان على مدار اليوم بأكمله، وبالتالي يسحبون كمية مياه أكبر، ويصبح الخزان غير قادر على استعادة خصائص المياه الموجودة فيه".
هناك أجهزة تعمل على معالجة الملوحة، بإذابة الأملاح من حول جذور النبات، فتعطيها حيوية فائقة، لكن ليس بمقدور جميع الفلاحين اقتناءها بسبب ضعف إمكانياتهم المادية، فلا بد من علاج المشكلة من جذورها بإصلاح الصرف الزراعي وإدارة الموارد المائية بالشكل الأمثل
التأثير على إنتاجية الفدان
عن التأثير السلبي لملوحة التربة الزراعية على الإنتاج الزراعي، يجيب الدكتور يحيى متولي، أستاذ الاقتصاد الزراعي بالمركز القومي للبحوث الزراعية، شارحاً أن المياه التي تروى بها الأراضي الزراعية يجب أن لا تزداد ملوحتها عن ستة ملي موس، ويتم تحليل المياه من خلال التوصيل الكهربائي لقياس الأملاح الذائبة في التربة، وفي حالة زيادة الملوحة عن هذه النسبة تقل إنتاجية الأرض الزراعية لعدم حدوث التوازن المطلوب داخل خلايا النباتات، ويمكن أن تنخفض هذه الإنتاجية إلى النصف أو ما دون، كما يمكن أن تتراجع جودة المحاصيل.
يوضح متولي لرصيف22 أن هذه العوامل، مضافاً إليها التغيرات المناخية، يمكن أن تؤدي إلى عدم نمو أنواع معينة من المحاصيل، في حين أن أنواعاً أخرى يمكن أن تعيش وتتحمل الملوحة الزائدة في التربة، وهو أمر على الفلاحين الانتباه إليه عند الزراعة.
ويشير إلى وجود أجهزة تعمل على معالجة الملوحة، بإذابة الأملاح من حول جذور النبات، فتعطيها حيوية فائقة، ويمكن أن تكون حلاً لعلاج المشكلة، لكن ليس بمقدور جميع الفلاحين اقتناءها بسبب ضعف إمكانياتهم المادية، فلا بد من علاج المشكلة من جذورها بإصلاح الصرف الزراعي وإدارة الموارد المائية بالشكل الأمثل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...