"بسرعة شغلي ماتور المي قبل ما تقطع، اتركي كل شيء بيدك واحملي جالون المي وسخنيها على النار وحضري لي الحمام لأتحمم، بعدين ملّي زجاجات المي بدنا نشرب بلاش تنقطع ونضل عطشانين".
تفتح المواطنة الغزية نور بشير عينيها صباح كل يوم على صراخ زوجها، الذي يجبرها على القيام بالمهام الموكلة إليها، فتروح هي تصارع عقارب الساعة لتفادي أزمة شح المياه في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ما يضاعف معاناتها خلال تولّي الأعباء المنزلية.
تعتبر النساء في قطاع غزة، لا سيما ربات المنازل، من أكثر الفئات تأثراً بالأزمات المتلاحقة في مجمل مناحي الحياة، على رأسها قطاعا المياه والزراعة، اللذان تأثرا بأزمة تغير المناخ العالمية بشكل مباشر، ليجعلهن تحت مقصلة ضغوط نفسية كبيرة تصل للتعنيف أحياناً.
المرأة في غزة تواجه وحشاً ثلاثياً من الأزمات المركبة، بسبب الاحتلال والحصار وأزمة المناخ.
"أعمل كالمكوك ليل نهار لإدارة الحصول على المياه للمنزل من عدة مصادر، أحياناً أضطر للاستيقاظ في الثانية فجراً للحاق بها تزامناً مع مجيء الكهرباء، وإن استمر انقطاع الكهرباء فترة طويلة أضطر للخروج لأقرب نقطة مياه لتعبئة المستوعبات الكبيرة، فأحملها وأحياناً أجرها على عربة نقل إلى البيت"، تقول نور (40 عاماً)، رصيف22.
وإلى جانب ما تشعر به نور من تعب جسدي للحصول على المياه، تتعرض لمضايقات في الشارع، وتمييز في المنزل، فالأولوية في استخدام المياه تذهب للرجل وليس للمرأة، فزوجها يعمل سائق سيارة أجرة، ومضطر للاستحمام بعد عودته من عمله كل يوم وتالياً توفير كميات المياه له، تفادياً لشتمها ونعتها بـ "المهملة، المقصرة ولا تصلح لتكون زوجة".
غياب للعدالة
ورغم أن النساء يحصلن على المياه في غزة فهن آخر من يستخدمه ويشربه، وهذا يمثل معضلة كبيرة بالنسبة إلى نور، ومشاكل تؤثر على صحتها الإنجابية، خصوصاً عندما تضطر لشرب مياه الصنبور الملوثة والمالحة، ولا تحصل على مياه كافية للاستحمام تحديداً في فترة الدورة الشهرية، مما يقوض استكمال أنشطتها الحياتية بالمنزل وخارجه.
تشكو نور تأزم وضعها المعيشي والنفسي الذي بات مرتبطاً بشح المياه، فلا وقت لديها لتعيش باقي تفاصيل يومها كاحتساء فنجان قهوة مثلاً، أو متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى الاسترخاء دون التفكير بمسؤولية توفير المياه لعائلتها إلى جانب الأعباء المنزلية الأخرى ليمضي يومها بسلام.
تقول إن المرأة في غزة تواجه وحشاً ثلاثياً من الأزمات المركبة، بسبب الاحتلال والحصار وأزمة المناخ، ناهيك بالعادات والتقاليد المجتمعية، التي تقسو على المرأة وتحرمها حقها في العيش بسلام بعيداًً عن أي عنف.
أعمل كالمكوك ليل نهار لإدارة الحصول على المياه للمنزل، أحياناً أضطر للاستيقاظ في الثانية فجراً للحاق بها تزامناً مع مجيء الكهرباء، وإن استمر انقطاع الكهرباء فترة طويلة أضطر للخروج لأقرب نقطة مياه لتعبئة المستوعبات الكبيرة، فأحملها وأحياناً أجرها على عربة نقل إلى البيت
وتشير دراسات إلى أن النساء يتأثرن أكثر من الرجال بسبب انعكاسات تغير المناخ، فتزداد أعداد الوفيات في صفوفهن، ويعانين من الأمراض التي تنتشر بينهن مثل الملاريا وحمى الضنك، وذلك نتيجة نقص المعلومات أو ضعف المهارات لديهن للتعامل مع هذا الأمر. وفي بعض المجتمعات تتحمل النساء مسؤولية الحصول على المياه والغذاء في ظل شح المواد الأساسية بسبب الكوارث المناخية والبيئية، الأمر الذي يشكل عبئاً كبيراً على صحتهن ويحرمهن من الحصول على الرعاية الصحية والإنجابية الضرورية، كما تزداد وتيرة تعرضهن للعنف الأسري والمجتمعي بسبب كل تلك العوامل.
فقدان للموارد الأساسية
لا يقتصر الأمر في انعكاسات أزمة التغير المناخي ضمن قطاع غزة على شح موارد المياه، بل على سبل العيش بشكل كامل، ويظهر الأمر جلياً على النساء تحديداً، لا سيما اللواتي يعشن في كنف أسرة ريفية تعتمد في مصدر رزقها على الزراعة، ففي حال تعرض المحصول لأي خسارة تنهار الموارد الاقتصادية للأسرة،ًوعلى رأسها المرأة.
تعيش هبة حسن (33 عاماً) تحت وطأة العنف والفقر، كأحد انعكاسات تغير المناخ التي أثرت عليها وعلى أسرتها، بعد أن فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، المعتمد على زراعة التمور في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
وكان محصول البلح المزروع على بضعة دونمات يمتلكها زوج هبة قد تعرض لتراجع كبير في الإنتاج، بسبب عوامل المناخ المتمثلة بتباين سقوط الأمطار في فصل الشتاء، فأحيانا كانت تهطل بكميات كبيرة أشبه بفيضان وأحياناً تتحول إلى صقيع، إلى جانب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في الصيف، مما كبدهم خسائر فادحة.
حالة العوز التي وصلت إليها العائلة وفقدان الأمن الغذائي جعلاها تعيش ظروفاً نفسية واقتصادية صعبة. تقول هبة لرصيف22: "بعد الكارثة التي حلت بنا اضطررت لإخراج اثنين من أبنائي الصغار من المدرسة للعمل في بيع الخضروات في السوق مع والدهم، لمساعدته في توفير لقمة العيش، خاصة أنه لم يعد بإمكاننا توفير متطلبات المدارس لهم من زي وقرطاسية ومصروف شخصي، فزوجي يرفض فكرة خروجي للعمل".
المرأة تدفع ثمن تغيرات المناخ كونها من الفئة الأكثر هشاشة.
وتروي أن حالة الضيق هذه جعلتها تدفع ثمناً مضاعفاً من صحتها الإنجابية والنفسية على السواء، فكونها في أشهرها الأولى من الحمل تحتاج لبعض العناصر الغذائية المهمة من بروتينات وفيتامينات وحديد لكنها محرومة من شرائها، عدا أنها لا تجرؤ على الطلب من زوجها حاجات أخرى مثل اللباس لها أو لأولادها، خوفاً من تعنيفها.
وتذكر: "في بداية العام الدراسي طلبت من زوجي المال لشراء زي مدرسي لطفلي الصغير في الصف الأول الابتدائي، لكنه رفض، وبدأ بتعنيفي لفظياًً، ثم انهال عليّ بالضرب متحججاً بأنني لا أراعي ظروفه".
أزمة مائية حادة
في مقابلة مع رصيف22، أوضحت الباحثة في الشؤون البيئية وعلاقاتها بقضايا المرأة سها أبو شعبان، أن الوضع البيئي الغزي شبه مدمر، إذ يعاني قرابة مليوني نسمة من السكان من أزمة كبيرة جداً تتعلق بالموارد المائية، وهي ناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الجفاف، بالتوازي مع تراجع كبير في سقوط الأمطار، مما زاد من الاستخدام الجائر لخزان المياه الجوفية الذي يعتمد عليه السكان بغزة بنسبة 97%، الأمر الذي زاد من خطورة الاعتماد على مياه البحار المالحة والملوثة.
وتشير تقارير أممية إلى أن أكثر من 90% من سكان قطاع غزة يفتقدون مصادر مياه الشرب الآمنة، ولا يتجاوز معدل استهلاك الفرد من المياه في القطاع يومياً أكثر من 30 ليتراً، في حين أن منظمة الصحة العالمية توصى بأن يكون الحد الأدنى هو 100 ليتر يومياً.
بدورها أثرت أزمة المناخ وتداعياتها على الجانب الزراعي، مع الحدوث المتكرر لموجات الصقيع والجفاف التي أدت لموت معظم المحاصيل، فخسر أصحابها مصدر رزقهم الوحيد، بعد أن جمعوه بعناء على إثر تعرض أراضيهم للقصف في الحرب الأخيرة على القطاع.
حالة الضيق هذه جعلتها تدفع ثمناً مضاعفاً من صحتها الإنجابية والنفسية، فكونها في أشهرها الأولى من الحمل تحتاج لبعض العناصر الغذائية المهمة من بروتينات وفيتامينات وحديد لكنها محرومة من شرائها، عدا أنها لا تجرؤ على الطلب من زوجها حاجات أخرى مثل اللباس، خوفاً من تعنيفها
وتضيف أن مجمل العوامل السابقة انعكست بالسلب على الوضع المعيشي لأفراد العائلة الغزاوية وعلى رأسهم النساء، اللواتي لم تعد منازلهن مصدر أمان لهن، بسبب زيادة حدة العنف الواقع عليهن من قبل الرجال. وتتابع: "المرأة تدفع ثمن تغيرات المناخ كونها من الفئة الأكثر هشاشة، والمسؤولة عن تحمل أعباء المنزل وواجباته وفق الموروث الثقافي المجتمعي، مما يضاعف سلباً من حالتها النفسية والصحية والإنجابية، في ظل الافتقار للعدالة الاجتماعية، كذلك غياب الدعم المؤسساتي والاحتضان من قبل الجهات المسؤولة".
وتختم بالدعوة إلى ضرورة التدخل العاجل لإيجاد حلول للتكيف والتخفيف من تغيرات وآثار المناخ على البيئة والنساء، بما يضمن لهن حياة كريمة آمنة خالية من العنف.
وما زالت المبادرات والأنشطة المجتمعية والمحلية المتعلقة بمواجهة التغير المناخي وتأثيره على المرأة في قطاع غزة، ضعيفة وفي مراحلها الأولى، إذ إنها مقتصرة على بعض مشاريع التنمية المستدامة الخضراء، كأحد الحلول الهادفة لتمكين النساء اقتصادياً، تزامناً مع جلسات توعوية وورشات عمل وبرامج دعم نفسي تنفذها مؤسسات نسوية للحد من العنف المبني على النوع الاجتماعي وحماية صحتهن النفسية وقت الأزمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم