لم تكن رغبة الكاتب الكبير ماهر عواد في الانعزال والتواري عن الأضواء جديدة عليّ، فقد لمستها مبكراً حين ذهبت في كانون الأول/ ديسمبر 1992 لحضور العرض الأول لفيلمه الخامس (الحب في الثلاجة) في قاعة بقصر المؤتمرات في مدينة نصر كانت تستضيف فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الخامس عشر، وكان يسمح لنا وقتها كطلبة إعلام بحضور عروض المهرجان، وكنت قد بدأت وقتها التدريب الصحفي في أحد مكاتب الصحف العربية التي كنت أقوم بتغطية فعاليات المهرجان لصالحها، وفوجئت يومها أن ماهر عواد لم يحضر عرض فيلمه ولا الندوة التي أقيمت بعده والتي حضرها مخرج الفيلم سعيد حامد وبطله يحيى الفخراني ومنتجه حسين القلا.
تلقى سعيد يومها سيلاً من الانتقادات الحادة التي اتهمت الفيلم بالإلغاز والغموض والتغريب والتشتت الفني، كنت من القلائل الذين أعجبهم الفيلم، أو بالتحديد أعجبهم ثلاثة أرباعه، لأن ربعه الأخير بدا متأثراً بضعف التكلفة الإنتاجية وهو ما قال سعيد بعد ذلك في حوارات صحفية إنه أثر على الجزء الأخير من الفيلم، واحتاج الأمر إلى إعادة المشاهدة بعدها لأدرك أهمية وجمال النهاية التي طرحها ماهر عواد في (الحب في الثلاجة)، والتي أظهرت تطور تفكيره وموقفه بعد فيلم (سمع هس) الذي انشغل بطلاه حمص وحلاوة بفكرة مصيرهما في عالم المدينة المتوحش، لينتهي صراعهما في الفيلم دون انتصار، فقط بأمل عريض بأن قدوم سنة 2000 سيحمل لهما مستقبلاً أفضل.
كنت من القلائل الذين أعجبهم فيلم (الحب في الثلاجة)، أو بالتحديد أعجبهم ثلاثة أرباعه، لأن ربعه الأخير بدا متأثراً بضعف التكلفة الإنتاجية وهو ما قال سعيد بعد ذلك في حوارات صحفية إنه أثر على الجزء الأخير من الفيلم
أما مهدي بطل (الحب في الثلاجة) فقد اكتشف خطأ اعتقاده بأن تجميد نفسه ووضع أحلامه في الثلاجة وتجميد نفسه حتى سنة 2000 سيكون أفضل من مواجهة الواقع "المعفّن"، ولذلك قرر أن يغير طريقته ويواجه العفن والمعفّنين، حتى لو كان يدرك استحالة الانتصار، قائلاً بعزم ما فيه: "خلاص ما عادش فيه وقت نضيعه... العفن فارش الطريق... عار علينا نموت على دكك مسوّسة قدام تليفزيون مشطب... العفن طايلنا طايلنا... لازم نتحرك... يمكن ما نقدرش ننتصر عليهم لكن أكيد نقدر نمرمغهم معانا في الوحل".
كنت أعلم أن الندوات ليست مكاناً لإسباغ الإعجاب والثناء، بل لتوجيه الملاحظات والانتقادات، لكنني رأيت أن الانتقادات التي تلقاها سعيد حامد كانت عدائية ومبالغاً فيها، لدرجة أن بعضها شكّك في صحة اختيار الفيلم لكي يمثل السينما المصرية في مهرجان القاهرة الدولي، مشيرين إلى وجود فارق كبير في المستوى الفني بينه وبين الفيلم المصري الآخر في المسابقة، فيلم (ليه يا بنفسج) للمخرج رضوان الكاشف، وقد أربكت تلك العدائية سعيد الذي خرج إلى الأضواء بعد سنوات طويلة قضاها في الظل مساعداً لعدد من المخرجين آخرهم صديقه وابن أيامه شريف عرفة، ولذلك حاول شركاءه في الندوة مساعدته في صد الهجوم الحاد الذي تلقاه بالإشارة إلى أن الأسئلة الخاصة بالسيناريو يجب أن توجه إلى كاتب السيناريو الذي لم يتمكن من الحضور، لكن سعيد كان يصر على الرد معبراً عن اقتناعه الكامل بالسيناريو وإيمانه بكل حرف في الحوار.
بعد انتهاء الندوة رأيت سعيد وهو يقف وحيداً في ركن من أركان قصر المؤتمرات، وقد بدا عليه الحزن الشديد، وشعرت بالتعاطف معه، فذهبت إليه وعرفته بنفسي وقلت له إنني أحببت الفيلم جداً، وحدثته تحديداً عن بعض المشاهد التي وقعت في غرامها مثل مشاهد المصلحة الحكومية التي يعمل فيها بطل الفيلم يحيى الفخراني وبحثه هو وحبيبته عبلة كامل عن شقة ومعاناته مع أهلها، وأعدت على مسامعه بعض الجمل الحوارية التي حفظتها، ولم أكن أجامله، لأن تلك المشاهد والعبارات لا زالت تعيش معي حتى الآن. تأثر سعيد بما قلته وبدا لي أنه كان يتمنى لو قلت هذا الكلام في الندوة، فقلت له إنني حاولت الحصول على فرصة للحديث لكن منظم الندوة لم يخترني، ثم طلبت منه أن يبلغ تحياتي لكاتب الفيلم ماهر عواد الذي أحب كل أعماله وأتمنى له أن يقوم بالسلامة، فقال سعيد إن ماهر ليس مريضاً وأنه لم يحضر الندوة لأنه لا يحب حضور العروض الخاصة والندوات، ثم قال ساخراً إنه أصبح يتفهم موقفه بعد ما تعرض له في ندوة اليوم، ثم سلم علي وشكرني ومشى.
فقال سعيد حامد إن ماهر عواد ليس مريضاً وأنه لم يحضر الندوة لأنه لا يحب حضور العروض الخاصة والندوات.
بعد فترة قصيرة من عرضه في المهرجان، نزل (الحب في الثلاجة) إلى عدد قليل من السينمات، ومع الأسف تعرض لفشل ساحق، أذكر أنني شاهدته في أحد سينمات شارع عماد الدين ومع أنني شاهدته في حفلة التاسعة مساء إلا أن السينما كانت خاوية إلا من مشاهدين قلائل أعجبهم الفيلم في بدايته ثم جاهروا بسبه ولعنه مع زيادة جرعة الفانتازيا فيه، وسمعت بعدها أن سعيد حامد دخل في نوبة اكتئاب جعلته يحاول الانتحار، لكنه حصل على دفعة معنوية حين تم عرض الفيلم في المهرجان القومي الثالث للسينما المصرية في خريف 1993، وفاز سعيد حامد بجائزة أحسن عمل أول، وفاز الفيلم بجائزة ثاني أفضل فيلم ليحصل منتجه على خمسين ألف جنيه، وبرغم أن الكل كان يتوقع فوز الكاتب الكبير وحيد حامد بجائزة أحسن سيناريو عن تحفته (الإرهاب والكباب)، إلا أن لجنة التحكيم التي رأسها الكاتب لطفي الخولي وشارك في عضويتها نادية لطفي وحسام الدين مصطفى ويوسف فرنسيس منحت جائزة أحسن سيناريو لماهر عواد عن (الحب في الثلاجة)، وكالعادة لم يحضر ماهر عواد لاستلام الجائزة، كما لم يحضر ندوة الفيلم وعرضه في المهرجان.
المؤسف أن البيان الذي ألقاه لطفي الخولي قبل إعلان الجوائز، والذي هاجم فيه مستوى أفلام السينما المصرية وحذر من تراجع هذا المستوى، صرف الانتباه عن الفائزين الجدد مثل ماهر وسعيد والفنان حسن حسني الذي أثار ضجة إعلامية كبيرة بعد فوزه بجائزة أحسن ممثل عن دوريه في فيلم (دماء على الأسفلت) وفيلم (ليه يا بنفسج)، لتنشغل الصحف والمجلات بالحديث عن الظلم الذي تعرض له الكاتب وحيد حامد والكاتب أسامة أنور عكاشة والنجمان عادل إمام ونور الشريف الذين كانا أحق بالفوز عن أفلام (الإرهاب والكباب) و(دماء على الأسفلت)، ليحرم ماهر وسعيد وفيلمهما المظلوم من الحفاوة بفوز مستحق جاء من لجنة انحازت لجرأته ورغبته في التجديد والتطور.
سمعت بعدها أن سعيد حامد دخل في نوبة اكتئاب جعلته يحاول الانتحار، لكنه حصل على دفعة معنوية حين تم عرض الفيلم في المهرجان القومي الثالث للسينما المصرية في خريف 1993، وفاز سعيد حامد بجائزة أحسن عمل أول
تماسك سعيد حامد بعدها وعاد للعمل في الإعلانات وحقق فيها نجاحاً لا بأس به، وسمعت في تلك الفترة كثيراً عن مشروع فيلم يعتمد على الجرافيك والرسوم المتحركة يقوم سعيد بالإعداد له من تأليف ماهر يحمل عنوان (سلامات يا سيما)، وهي عبارة كانت ترددها شخصية الممثل محمد يوسف في فيلم (يا مهلبية يا)، وكان ماهر وسعيد يرغبان من خلاله في توجيه تحية للسينما، حيث تدور أحداث الفيلم داخل دار عرض سينمائي، لكن المشروع واجه الكثير من العقبات الإنتاجية، فقرر سعيد في عام 1997 أن يجرب الإخراج التلفزيوني من خلال الفوازير الكوميدية (أبيض وأسود) التي اشترك محمد هنيدي وعلاء ولي الدين وأشرف عبد الباقي في بطولتها مع لوسي، وبعد نجاح التجربة تم تصوير حلقات جديدة من بطولة نفس المجموعة مع الراقصة دينا، وحين ذهبت إلى تصويرها في استديو الأهرام بدعوة من محمد هنيدي، التقيت بسعيد حامد، وحين ذكرته بنفسي وبالموقف الذي جمعنا في مهرجان القاهرة قبل سنوات، فوجئت أنه يتذكر ما جرى بتقدير، لكنه تحدث بمرارة مغلفة بالسخرية عن الفيلم ورد فعل الجمهور عليه، متأسفاً على فشل التجربة التي عرقلت إنتاج فيلم من تأليف ماهر بعنوان (نورماندي تو)، تدور أحداثه على متن سفينة تسافر من أسوان إلى بور سودان، وكان يفترض أن يلعب محمد هنيدي دور البطولة، وكنت قد سمعت الكثير من عبارات الإعجاب والتقدير من كل من قرأ الفيلم الذي لم ير النور حتى الآن.
في صيف عام 1998 وبعد أن حضرت العرض الأول لفيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) في سينما التحرير، بدا لي ولكل من حضروا العرض أننا بصدد فيلم سيكرر النجاح الجماهيري الساحق الذي حققه محمد هنيدي في فيلم (إسماعيلية رايح جاي) وسيكرس نجومية هنيدي ويفتح الباب لنجومية أبناء جيله، وأمام باب السينما فوجئت بسعيد حامد الذي كان يتلقى التهاني من الجميع، يتقدم نحوي ضاحكاً، وحين احتضنته مباركاً على النجاح المستحق، قال لي بنبرة مليئة بالمرارة: "أهوه يا سيدي، آديني باعرف أعمل لهم اللي يبسط الجمهور ويخليه يسقف ويضحك، مش صعبة الحكاية يعني"، فبدا لي أنه لا زال متأثراً بما حدث في تجربة (الحب في الثلاجة) قبل خمس سنوات، وحين أشرت إلى الواقعة في مقالي الأسبوعي في (الكواكب) حاول البعض الوقيعة و"التسويس" وتصوير ما قاله سعيد بوصفه تعبيراً عن عدم تقديره لفيلمه، مع أنه كان فرحاً بنجاحه، لكنه كان يتحدث عن الثمن الغالي الذي دفعه بعد فشل فيلمه الأول، دون الالتفات إلى قدراته الفنية الواضحة، حتى أن بعض المنتجين كان يطلب تغييره لكي يتم تنفيذ مشاريعه مع ماهر عواد، وهو ما كان ماهر يقابله بالرفض، لأنه كان يراه الأقدر بعد شريف عرفة على تنفيذ رؤيته السينمائية.
تقدم نحوي سعيد حامد ضاحكاً، وحين احتضنته مباركاً على النجاح المستحق لفيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية)، قال لي بنبرة مليئة بالمرارة: "أهوه يا سيدي، آديني باعرف أعمل لهم اللي يبسط الجمهور ويخليه يسقف ويضحك، مش صعبة الحكاية يعني"
في أيلول/ سبتمبر 1998، وبعد أن نشرت في (الكواكب) دعوتي لرد الاعتبار لفيلم (الدرجة الثالثة)، التقيت بماهر عواد بالصدفة، حين كنت بصحبة صديقنا المشترك المخرج وحيد مخيمر في أحد مقاهي وسط البلد، ولأنني كنت قد سمعت ما فيه الكفاية عن رغبته في الانعزال عن الصحافة والإعلام، فقد أحجمت عن إعلان رغبتي بإجراء حوار صحفي معه، واكتفيت بأن أعبر له بحرارة عن محبتي لأعماله وتقديري لها، فقابل ما قلته بارتباك أكّد لي طبيعته الخجولة والانعزالية، ثم اعتذر بعدها عن الجلوس معنا لأنه مضطر للحاق بمشوار عائلي مهم، فظننت أنه يتهرب من الجلوس مع صحفي فضولي، لأعرف بعد عام أنه لم يكن يتهرب وأنه لم يكن يستطيع أن يعتذر عن ذلك الموعد العائلي المقدس فأزداد له محبة وتقديراً، وحين شعر الصديق العزيز وحيد بحرجي وارتباكي، أخذ يحدثني عن عزلة ماهر التي اختارها منذ أن قرر الدخول إلى عالم السينما، لأنه وهو الصحفي السابق وخريج كلية الإعلام لا يشعر بأن هناك جديداً يمكن أن يقدمه للناس غير ما يكتبه في أفلامه التي تستغرق كل وقته وجهده، والتي لا يتوقف عن كتابتها برغم كل العثرات والظروف الإنتاجية.
في تلك الفترة كانت مقالاتي التي تنشر أسبوعياً في (الكواكب) تحت عنوان (مشاغبات فنية) قد تسببت في عدد من المشاكل والأزمات للمجلة ورئيس تحريرها أستاذنا رجاء النقاش، فقال لي ساخراً: "ما تيجي تجرب تكتب عن الناس اللي بتحبهم عشان تريحنا شوية من المشاكل"
في تلك الفترة كانت مقالاتي التي تنشر أسبوعياً في (الكواكب) تحت عنوان (مشاغبات فنية) قد تسببت في عدد من المشاكل والأزمات للمجلة ورئيس تحريرها أستاذنا رجاء النقاش، فقال لي ساخراً: "ما تيجي تجرب تكتب عن الناس اللي بتحبهم عشان تريحنا شوية من المشاكل"، فبدأت في كتابة باب أسبوعي بعنوان (الموهوبون في الأرض)، وكان أول مقال أكتبه في الباب عن ثاني نجماتي المفضلات، بطلة (الحب في الثلاجة) الأستاذة عبلة كامل، وقد اخترت له عنوان (عبلة.. كامل من مجاميعه)، ثم نشرت بتاريخ 22 كانون الأول/ ديسمبر 1998 مقالاً مفعماً بالمحبة بعنوان (ماهر عواد المبدع الذي ظلمناه) قلت فيه الآتي:
"بالتأكيد أنت مثل حالاتي واقع في غرام الفيلمين الجميلين (سمع هس) و (يا مهلبية يا)، صح؟ لكني أشك كثيراً أنك تذكر ملامح كاتبهما السيناريست الساحر الساخر ماهر عواد، مع أنك تحفظ إلى حد الزهق ملامح مؤلفي أفلام تافهة لا يكل ولا يمل التلفزيون من الالتقاء بهم واستعراض فلسفتهم في الحياة، ليس هذا فحسب، بل أنا متأكد أن الزملاء في إدارة تحرير (الكواكب) سيجدون صعوبة في العثور على صورة جيدة أو حتى صورة من أصله لماهر عواد.
والسبب أن ماهر عواد لا يظهر في برامج التلفزيون ليتحدث عن رأيه في أزمة السينما، مع أنه واحد من أبرز ضحاياها، ولا حتى ليجيب على أسئلة حقيرة مثل ذلك السؤال الملعون "إيه أطرف موقف تحكيه للسادة المشاهدين؟"، هو أن ماهر نفسه من شدة غيظه من هذه البرامج وأسئلتها القاتلة أبدع في السخرية منها في فيلم (سمع هس) بصياغة سؤال "إيه رأيك نصرِف في البر ولّا في البحر؟" الذي تسأله المذيعة للمواطنين فيجيبونها في مرارة "إن ما فيش صرف من أصله".
ماهر عواد لا يظهر في الصحف أيضاً ليهاجم الجمهور "ابن الذين" الذي لم يقبل على أفلامه نفس إقباله على أفلام نادية الجندي، لأنه يؤمن أن المبدع ليس منظّراً ولا محللاً لنتائج إبداعه، وأن كلمته لا بد أن تصل يوماً ما للناس، وهو ما حدث بالفعل لفيلميه الجميلين (سمع هس) و (يا مهلبية يا)، اللذين ما إن عرضا في التلفزيون حتى أصبح لهما جمهور عريض يعشقهما ويقبل عليهما بشغف، وهو ما سيحدث بالتأكيد لإبداعات ماهر الأخرى (الأقزام قادمون ـ الدرجة الثالثة ـ الحب في الثلاجة)، وتذكروا ما حدث ليوسف شاهين في فيلم (باب الحديد) ولصلاح أبو سيف في (بين السماء والأرض) عندما انشتما من طوب الأرض ثم رُفعا على الأعناق بعد سنوات تقديراً لفنهما.
لست متأكداً إلى حد اليقين أن ماهر عواد يتفق معي تماما في هذا الرأي، فربما يكون مُحبَطاً نوعاً ما لما تعرض له من هجوم كاسح مُحبِط، والحق أنني حاولت الالتقاء به كثيرا للتعرف على رد فعله الحقيقي وعلى تكوينه الفكري والثقافي الذي أنتج أعمالاً بهذه الروعة، لكنني فشلت بسبب حرص ماهر على العزلة، ربما كما قال لي أحد أصدقائه لأن الصحفيين عادة يحاصرونه بأسئلة حمقاء حول علاقته بزوجته العظيمة السيدة سعاد حسني.
التقيت بماهر مرة واحدة بالصدفة عندما كنت بصحبة صديقه وزميل دفعته المخرج وحيد مخيمر، وعندما طالعت ملامح ماهر قلت لنفسي: يااه إذن هذا الجسد النحيل ذو الوجه الحزين المرهَق هو الذي أنتج كل هذا الإبداع وكل هذه البهجة وكل هذه السخرية التي شرّحت بدقة ماضينا وحاضرنا. لم تُتَح لي الفرصة لأن ألتقي به ثانية، لكنني ألتقي به يومياً عبر (سمع هس) و (يا مهلبية يا)، نعم. يومياً، ولا تعجب، فمن شدة غرامي بهما تعودت كل يوم قبل ذهابي إلى عملي أو عند عودتي منه أن اشاهد مقاطع منهما، هذا إن لم يتسببا في تأخري عندما يسرقني الوقت وأشاهدهما كلهما، وهو ارتباط حميم لا أحسه إلا مع أفلام مثل عودة الابن الضال والأرض وأسمر وجميل والإرهاب والكباب والهروب والكيت كات.
لكنني فشلت بالالتقاء بماهر عواد بسبب حرص ماهر على العزلة، ربما كما قال لي أحد أصدقائه لأن الصحفيين عادة يحاصرونه بأسئلة حمقاء حول علاقته بزوجته العظيمة السيدة سعاد حسني
كما أنني أتشرف بأنني أول من دافعت بشدة عن فيلم (الدرجة الثالثة) وطالبت في مقال نشرته (الكواكب) برد الاعتبار لهذا الفيلم الجميل، كما تحمست جداً للتجديد المهم الذي قدمه فيلم (الحب في الثلاجة) والذي لم يجد من يتجاوب معه في واقع سينمائي راكد أصبح مدمناً للأشكال السينمائية الجامدة، وأصبحت أي محاولة للتجديد ترعبه وتقلقه، وهو ما يبدو أنه أصبح تراثاً سينمائياً في التعامل مع محاولات التجديد، انظر مثلا التجاهل المرير لبعض أعمال عباس كامل الفذة مثل (أسمر وجميل) والذي قدم فيه صورة رفيعة من تأليفه وإخراجه لتعامل المواطن المصري مع طبقة الأثرياء وتعامله مع الفنون الأوروبية مثل الأوبرا، كل ذلك في إطار ساخر مليء بالحب وليس بذلك الشكل المقزز الذي قدمته أسماء البكري في (كونشرتو درب سعادة) والذي خيّب آمالنا بشدة نحن عشاق فيلمها البديع (شحاذون ونبلاء).
انظر أيضاً ما حدث لأفلام مثل (الحريف ـ عودة الابن الضال ـ بداية ونهاية ـ بين السماء والأرض ـ المستحيل ـ البوسطجي...) وغيرها من روائع السينما التي لم تلاق نجاحاً كبيراً عند نزولها إلى دور العرض لكنها نجحت بشدة عند عرضها في وسائط أخرى مثل الفيديو والتلفزيون وشاشات الفضائيات.
انظر أيضاً ما حدث لأفلام مثل (الحريف ـ عودة الابن الضال ـ بداية ونهاية ـ بين السماء والأرض ـ المستحيل ـ البوسطجي...) وغيرها من روائع السينما التي لم تلاق نجاحاً كبيراً عند نزولها إلى دور العرض لكنها نجحت بشدة عند عرضها في وسائط أخرى مثل الفيديو والتلفزيون وشاشات الفضائيات
ما يستوقفني بشدة في مشوار ماهر عواد السينمائي القصير والمشرف هو الفيلمان الساحران (سمع هس) و (يا مهلبية يا) لأنني أعتبرهما أرقى تجليات الفيلم الغنائي في تاريخ السينما المصرية والذي ظل دائما ما يقدم قصة في اللذاذة لمطرب فقير يحب بنت الباشا ويطفح الكوتة حتى يصبح غنياً ونزيهاً فيذل الباشا ويحط رأسه في التراب. خذ عندك مئات التنويعات على هذه القصة، بعضها لذيذ وأغلبها يغيظ، لكن هذين الفيلمين لماهر عواد وشريف عرفة يعتبران سبقاً سينمائياً فريداً، ربما اختبأت واحتمت الأفكار الجريئة المهمة التي يحملانها خلف شكل غنائي أو "استعرادي" كما تحب مذيعات الربط في التلفزيون المصري أن تصفهما، لكن ذلك على العكس زاد تلك الأفكار وضوحاً ووصولاً للناس.
وربما لن تجد كثيراً بعدهما ذلك التكامل السينمائي بين المؤلف والمخرج وكاتب الأغاني وواضع الموسيقى التصويرية والممثلين مثلما حدث في هذين الفيلمين، حيث تُبرز موسيقى مودي الإمام أجمل انفعالات ليلى علوي وممدوح عبد العليم وهشام سليم وأشرف عبد الباقي وعلاء ولي الدين ومحمد يوسف، وتُجلي أشعار بهاء جاهين أفكار ماهر عواد وتحلق بها أكثر، ويربط توجيه شريف عرفة للممثلين من أصغرهم إلى أكبرهم كل هذا الجهود في سيمفونية جميلة، وكل هذا يجعلك تظن مثلما ظننت أن ماهر وبهاء وشريف ومودي عسكروا معا سنوات طويلة لكي يحدث بينهم هذا الانصهار، ولذلك أدهشني جدا ما عرفته من بهاء جاهين المبدع الجميل أنه في (سمع هس) اكتفى بقراءة السيناريو وكتب الأغاني في المواضع المحددة، وأنه لا يكاد يعرف ماهر عواد معرفة وثيقة، ربما صدمني ذلك لكنه زاد إعجابي بقدرات هذا الطاقم الفريد.
ما يستوقفني بشدة في مشوار ماهر عواد السينمائي القصير والمشرف هو الفيلمان الساحران (سمع هس) و (يا مهلبية يا) لأنني أعتبرهما أرقى تجليات الفيلم الغنائي في تاريخ السينما المصرية.
هذه السيمفونية الساحرة التي يعزفها الفيلمان ترتكز على أرض راسخة هي أفكار ماهر عواد الجميلة وكتابته الساخرة التي تمزج بين الشجن والعبث والأمل واليأس واليقين والعدمية، وهو مزيج لا ينتجه إلا فنان شديد الحساسية والعذوبة، نراه في (سمع هس) يتحدث عن المواطن المصري البسيط الذي يسرقون حلمه ويصادرون فرحته، نرى ذلك من خلال حكاية حمص وحلاوة، زوجان جميلان يحبان الفن ويحلمان بخير اسكندرية الذي ناله حسنين ابن أخت أم خالة حلاوة، وكل ما يتمنيانه أن يصبح لديهما مكان يغنيان فيه أغانيهما البسيطة التي يشدو فيها حمص شاكياً حظهما من الفن: "الفن نفّضنا.. من بكره لامبارح يا قلبي قول هاأو". لكن المدينة المتوحشة تأمره بأن "يسدّ خاشمه"، لأنها تريد "رقص مشفّي مشفّي"، تريد جسد زوجته حلاوة وتطارده في كل مكان، على الشط وداخل ستوديو تسجيل الكاسيت وفي فيلا الغندور بيه، تستكثر عليه هو وحلاوة أن يكون لهما حلم جميل بسيط، فيسرق الغندور الموسيقار الوطني العظيم لحنهما البسيط ليستبدله بكلمات تغني وتطنطن وتتباهى بمجد "الوطنطن"، وتنقلب الآية ليصبح حمص وحلاوة مجرمين آثمين كلامهما "مش حلو".
حتى البسطاء الذين حولهما والذين استند (حمص وحلاوة) عليهم، خذلوهما إما بشقة في وسط البلد يريد محرز المحامي أن يخاف عليها حين يمتلكها، أو بالاكتفاء بالنواح والتعديد على الربابة من أبو سريع، أو التضامن الأخرس من شارلي، وحتى القاضي الذي يفترض أن يمنحهما العدل والذي يغضبه أن "اللي خدته القرعة تاخده أم شعر" لا يتعاطف معهما لأن الغندور أقوى "ومتغندر وعلى كل شيء يقدر"، وهكذا بدأ حمص وحلاوة حلمهما بأربع حيطان يستطيعان فيهما إنجاب طفل بمفعول "بطروخ السمك والجمبريايتين" وانتهى بهما الحال فريسة لمجتمع متوحش.
لكن حمص وحلاوة "أشكال غريبة تطفح الدردي وتنتفش زي الديندي"، ولذلك فهما يصران على تحدي المجتمع والوقوف أمامه بصمود وثبات، صمود البسطاء الذين لا يعرفون التنظير، والذين يظنون أن حالهم سيتغير عندما تأتي سنة ألفين، وأنهم سيكونون وقتها "فوق فوق فوق"، وأطول واحد من أعدائهم "هيبقى تحت اكتافهم كده بشبرين"، لكن سنة ألفين أصبحت على الأبواب وسيجيئ من بعدها سنة ثلاثة آلاف، وسيبقى الوضع على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء للحائط ليخبط دماغه فيه.
طيب، هل رأيت تعبيراً عن هذه المأساة بشكل ساحر وساخر كالذي فعله ماهر عواد وشريف عرفة؟ إنها عبقرية الضحك الذي هو كالبكاء والذي تفردت به مصر من أيام زوسر المدرّج؟
طيب، هل رأيت تعبيرا عن هذه المأساة بشكل ساحر وساخر كالذي فعله ماهر عواد وشريف عرفة؟ إنها عبقرية الضحك الذي هو كالبكاء والذي تفردت به مصر من أيام زوسر المدرّج؟
انظر أيضاً إلى عبقرية الضحك الذي كالبكاء في الفيلم الجميل (يا مهلبية يا) الذي يفضح ادعاء وزيف المناضلين بالشعارات والأوهام، أتحدث هنا عن مفهومي للفيلم وماهر عواد ليس مسؤولاً عن هذا الفيلم الذي يشرّح آفة الفهلوة التي لازمت الشخصية المصرية منذ فترات طويلة، وهو تشريح محبٍ متعاطف لا متعالٍ متعجرف، ولذلك ستشاهد نفسك وربما ستشاهد ماهر عواد أيضاً في شخصية "مليم فقر الناشف" المواطن الغلبان الذي وجد نفسه فجأة طرفاً في لعبة نضال يمارسها غلابة مثله، ودخل في ممارسة اللعبة معهم إلى أن أخذ هو وزملاؤه خبطة فوق دماغهم فوّقتهم كلهم من الوهم الذي مارسوه، وأدركوا أنهم "مذلّون مهانون" لحساب أطراف أخرى أرسلتهم إلى الحرب من غير سلاح، ففقدوا فيها رفيقهم زلّومة أجمل ما فيهم بكل ما فيه من البراءة والصدق والغُلب اللي في الدنيا.
عندها قرروا مثلما قرر المؤلف والمخرج بطلا الفيلم الذي بداخل الفيلم أن يواجهوا رأس الفساد ويقولوا للكل من الملك إلى عباس الحلو إلى بعكوك الملك الجديد إنهم خلاص ذاقوا الهزيمة وفاقوا وقرروا ألا يستسلموا لطعم المهلبية الغريب الممتزج بملح الدموع والذي يجعل الإنسان غريبا عن ذاته ونفسه. إنها ليست فقط مأساة مليم فقر الناشف ولا مأساة "عنّاب ذات الشرف اللي من أصله"، ولا مأساة أجيال كاملة تدفع أثمانا باهظة فوق الاحتمال لأخطاء ارتكبها الكومي المناضل، ولا مأساة زلومة، ولا مأساة المؤلف والمخرج "بتوع التعليم العالي والتربية الواطية".
إنها مأساة أجيال سابقة تاجرت بفلسطين "اللي هيّ زي أختنا الصغيّرة ولازم ننقذها من المعتدي"، أجيال لا تعرف شعار (الله.. الشعب)، لا، لازم يبقى حد في النص سواءً كان الملك أو الزعيم أو مراهم، أجيال ضائعة لا تمتلك فرصة تقرير مصيرها، بل لا تملك مصيرها من أصله، وهؤلاء هم الذين يتحدث عنهم ماهر عواد في (يا مهلبية يا) في سيناريو بلغ ذروة التجلي في شكل كتابته، طرح فيه مستويات متعددة كلها متشابكة ومتشابهة، ليقدم لعبة يمارسها المتفرج حين يتأمل حياته في قالب ساخر يدفعه للتحدي لا لليأس، ويحرضه على أن يكون لحياته قوام متماسك بدلا من المهلبية السايبة التي لا تعرف لها رأساً من رجلين.
أما أن يأتي من يوجع دماغهم بأشكال سينمائية جديدة متطورة وخلاقة فذلك غير مضمون، وما دام الأمر في يد هؤلاء فستظل مثلي تقرأ بشغف عن مشاريع سينمائية جديدة كتبها ماهر عواد وينتظر تنفيذها مع سعيد حامد أو مع شريف عرفة
والمؤسف أو الجميل ـ لا أدري ـ أن ما أراد ماهر عواد أن يقوله وصل لبسطاء الناس الذين أحبوا أفكاره وأحبوا تنفيذ شريف عرفة لها، لكنه لم يصل ـ ربما عن عمد ـ للسادة القراصنة الذين يسمّون خطئاً بالمنتجين، والذين يكبسون على أنفاس السينما، وقد وصفهم عن حق النجم أحمد زكي بأنهم "مشهّلاتية"، كل ما يريدونه "كصة حلوة على كام منظر على رقصة وفخدتين وخلاص"، أما أن يأتي من يوجع دماغهم بأشكال سينمائية جديدة متطورة وخلاقة فذلك غير مضمون، وما دام الأمر في يد هؤلاء فستظل مثلي تقرأ بشغف عن مشاريع سينمائية جديدة كتبها ماهر عواد وينتظر تنفيذها مع سعيد حامد أو مع شريف عرفة، آخرها مشروع (نورماندي تو) الذي ننتظره بفارغ الصبر، وربما تلوح بارقة أمل لتنفيذه في شركات السينما الجديدة أو منتج فنان يكرمنا ربنا به أو حكومة تدرك أهمية السينما كسلاح قومي خطير لا بد من دعمه والاهتمام به وتؤمن أن ستوديو السينما أهم من مخزن الدقيق.
عزيزي القارئ: كنت أتمنى أن أحكي لك أكثر عن ماهر عواد الإنسان وأن أعرف معك كيف يفكر هذا الفنان، وهل ما زال محتفظاً بقدرته على الصبر والسخرية من واقعه، لكنني أستطيع من خلال فن ماهر أن أؤكد لك ومعك أنه سيظل ساحراً ساخراً، وأنه سيحتفظ بقدرته على الصمود مثلي ومثلك وأنه يغني في ثقة مثلنا "هتشوفوا طريقنا مودّي لفين.. على ما تهلّ سنة ألفين"، وحتى لو جاءت وعدّت سنة ألفين "هنكون فوق فوق وأطول واحد فيكو هييجي تحت اكتافنا كده بشبرين".
بالطبع، لم أتلق أي تعليق من ماهر عواد على ما نشرته عنه، لكنني تلقيت رداً مشجعاً ومتحمساً من سعاد حسني بجلالة قدرها، وكانت مقيمة وقتها في لندن حيث تتلقى العلاج المكثف لآلام ظهرها
وكما توقعت، كتب الأستاذ رجاء النقاش أسفل هذا المقال ملاحظة طلب أن تًنشر في برواز مميّز اللون جاء فيها: "لم تعثر الكواكب على أي صورة لماهر عواد لنشرها مع هذا الموضوع الجميل عنه"، وقد كان المقال الوحيد في سلسلة المقالات التي كتبتها خلال عدة أشهر، والذي يُنشر دون أن تصاحبه صورة للموهوب الذي يتحدث عنه المقال.
بالطبع، لم أتلق أي تعليق من ماهر عواد على ما نشرته عنه، لكنني تلقيت رداً مشجعاً ومتحمساً من سعاد حسني بجلالة قدرها، وكانت مقيمة وقتها في لندن حيث تتلقى العلاج المكثف لآلام ظهرها، وقد وصلني رد فعلها عن طريق صديقتها الحميمة الأستاذة بهيجة جاهين شقيقة الفنان العظيم صلاح جاهين والتي كانت قد توسطت لدى سعاد في نيسان/ ابريل 1998 وأقنعتها أن تشارك في سهرة أعددتها احتفاءً بصلاح جاهين وأذاعتها قناة راديو وتلفزيون العرب ART وقدمتها الفنانة صفاء أبو السعود، وشاركت سعاد فيها بمكالمة هاتفية طويلة كرست نجاح "السهراية" التي كانت من أهم الإنجازات في حياتي المهنية كمعد برامج، ومع أنني سعدت بسعادة الجميلة سعاد بما كتبته عن حبيبها ماهر، إلا أنني كنت أتمنى أن يشجع ما كتبته ماهر على اللقاء بي ليجيب على بعض ما أمتلكه من أسئلة عن مشواره الفني وتكوينه الإنساني، وهو ما حدث بالفعل بعدها في عام 1999 بدل المرة مرتين.
...
نكمل الأسبوع القادم
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...