شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أم كلثوم، المرأة الّتي غنّت للقباحة

أم كلثوم، المرأة الّتي غنّت للقباحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 28 يناير 202311:31 ص


مسّه الشوق فذابا

 

بالإذن من فرويد، نحن لا نمرّ بمرحلة الطّفولة مرّة واحدة. شيء ما يبقى عالقاً في هذه الدّوامة إلى الأبد، لذلك نراكم عقداً نفسيّة لا تنتهي، بل هي قصص قابلة للتّجدّد. ليست كلّ العوائد سيّئة، مثل ممارسة الحبّ الأولى واستكشاف آذاننا الموسيقيّة بأغنية أولى. لا يهم متى يحدث كلّ ذلك، المهم أين يحدث ذلك، وأنّنا سنبقى دائماً أطفالاً بنظر الأشياء الأولى حتّى لو مارسناها في السّبعين.

اكتشفت أم كلثوم في السّابعة عشر. كانت تلك طفولتي الثّانية، مرحلة خلق جديدة. كانت السّت بالنسبة لي صوت ضخم، غير مفهوم، ورغم سماعي المتكرّر لها كنت أبحث دائماً عن شيء ينقصني في أغانيها. أستمع لأغانيها مرّة تلو الأخرى، أجهدها في الغناء، أستعجل اللّحن بعد عمليّة السّمع الثّانية لأسمعها تتحدّث، تتمتم... لا يهم بما تتمتم، تحرّك شفاهها مع الأغنية ولكنها تبقى ثابتة بعينيها وشكلها ويديها. تهزّ كتفاً واحداً، تقترب بهيبة نحو جمهورها وتبتسم وكأنّها تمازحنا من نهاية النّفق، تستنزفنا.

لم يكن حبّي لها متوارثاً كما تقول قصص وأساطير الكثيرين، فأمّي كانت تميل إلى فيروز. أسمعتنا "يا طير" حتّى كرهتها كُرهاً غير مبرّر، رغم عظمة ما كتبه الأخوان في الأغنية، "وتعنّ ع بالو ليالي الولدنة يا طير"... لم يصف أحد الحنين إلى الولدنة كما وصفه عاصي ومنصور. أعطياه صفة الأنين، أنين الرّغبة في العودة، أو تذهب والدتي أكثر إلى الإكستريم، فتستمع صباحاً إلى "يا مال الشّام". هذه الأغنية التي تناسب جلسة عصر هادئة لا استيقاظ صباحي منزعج دائماً. أمّا والدي فلم يكن يستمع إلى أحد، يكتفي بأخبار المساء على قناة تلفزيونيّة ما ويخلد باكراً إلى النّوم. لم أفهم أبداً ذائقته الموسيقيّة، ربّما لأنّه لم يملك واحدة، لذلك لم يكن حبّي لأم كلثوم إلا إرثاً من حبّ أوّل.

الخميس الّذي ما فات ميعاده

كانت ليلة خميس، حين أرسل لي أغنية أم كلثوم ومرسي جميل عزيز وبليغ حمدي "فات الميعاد"، وقال لي أن أتخيّل نفسي لابسة فستاناً أحمرَ، مستعيراً جسدي ليجلس بي في مسرح قصر النّيل، لأستمع إلى الأغنية بعرضها الأول سنة 1967 في 2 فبراير. كنت سأفهم تفاعل النّاس للمرّة الأولى لأنّهم أيضاً يسمعون الأغنية لأوّل مرّة من ثومة. في لحظات الأغنية الّأولى يتصاعد تدريجيّاً لحنُ بليغ، وفجأة في بداية مقطع منها يصمت اللّحن، وتبقى كوكب الشّرق ساكتة حتّى يطلع صوت ثلاث آلات تشيلو بالتّزامن تكمل اللّحن. وبعد الصّمت السّائد يفهم الجمهور ما يحدث، فيصفّقون بحرارة.

لا أعرف من أين أتوا بثقافتهم الموسيقيّة حتّى لاحظوا لعبة بليغ التي أدخلها بجرأة ومن باب واسع في الأغنية الشّرقية إلى التّخت الشّرقي لأم كلثوم. وتُعاد الموسيقى ثلاث مرّات، وفي كل مرّة تُعاد التّصفيقات بالحرارة ذاتها. وقال: "قرّبي الأغنية إلى الدّقيقة أربع وستّين وتجاهلي كلّ ما سبقها"، وقرّبت الأغنية واستمعت إلى التشيلو.

ثمّة أربعة تسجيلات لها، في كلّ حفل كان يُعاد المقطع ثلاث مرّات، فأُعيد بالمجموع اثني عشر مرّة، أكثر من الأغنية ذاتها. يقول لي إنّها ترسم الكلام مع الموسيقى رسماً، وأنّه مع ثومة فقط يصير قادراً على سماع كلّ كلمة. الـ "ياما" و"يا ريت كمان تنساه". وقال: "تخيّلي أن يُقال هذا الكلام بعد انفصال حبيبين، ضعي موسيقى على المشهد"، ووضعت.

ليست كلّ العوائد سيّئة، مثل ممارسة الحبّ الأولى واستكشاف آذاننا الموسيقيّة بأغنية أولى. لا يهم متى يحدث كلّ ذلك، المهم أين يحدث ذلك... مجاز

كان مثل الجميع يحبّها بشكل عاديّ، عندما كبرَ وصار يقرأ فيها صار بإمكانه رؤية تفاصيل لا ينتبه إليها أحد. دخل في حياة الجميع، لم يقرأ فقط في عالمها. تعرّف إلى فرقتها واحداً واحداً حتّى صار قادراً على فهم ما يفعلون في الموسيقى. صار في كوكبها، حتّى أنه صار يملك طقوساً يوميّة، يحضر كلّ يوم صديقاً أو صديقة عند السّاعة الخامسة، ويستمعون إلى أغنية من أغانيها. "فات الميعاد" قصّة كبيرة، كانت الدقيقة الرّابعة والستّون جزءاً صغيراً منها، وكنت أعرف أنّه قصد إسماعي حفلة الأغنية الأولى، كي أكون واحدة من الجمهور وأفهم التّفاصيل ذاتها والآلات الموسيقيّة الّتي استُخدمت لأوّل مرّة بجنون بليغ.

"بعيد عنك" مثلاً من أجمل أغاني أم كلثوم، وهذا أمر يتّفق عليه الجميع على الرّغم من أنّ تاريخ ثومة كان حافلاً بأغان تتفوّق على "بعيد عنك" في اللّحن والكلام والمغنى. ورغم ذلك أنا لا أوافق على التخفيف من وقع ما غنّته على مرّ السّنين من صباها حتّى السّبعينيات. مِن "أفديه إن حفظ الهوى" التي لحنها أبو العلا محمد، حتّى أغنيتها الأخيرة "حكم علينا الهوى".

على مرّ كلّ تلك السّنوات، لم تتوقّف ثومة عن إعطائنا ذات القيمة الجماليّة، فهي من اخترعَت عالمها الموسيقي الّذي لم يتشبّه به أحد، وأوجدَت لنا آذاناً جديدة من أجلها. الشّعر العربي يمتلك أسساً وقواعد من زمن آدم إلى يعرب بن قحطان إلى المهلهل حتّى زمن الخليل وحتّى زمن القرآن الّذي امتدّ إلى كلّ الأزمان. هذه أساسات واضحة. أم كلثوم هي الأساسات في غنائها وفنّها، ولا أقول في زمنها لأنّني مع الحرّيّة المطلقة في الفنون أجمعين، ولا أقول إنّ كوكب الشّرق كانت الاستثناء في ذلك الزّمن المصريّ الرّمادي، لأنّه هناك استثناءات عديدة إذا أردنا الدخول في ذلك الجدل، مثل أسمهان ومنيرة المهديّة ونجاة علي.

ولكنّني أقول إن أم كلثوم صنَعَت لنفسها كوكباً خاصّاً ووضعتنا جميعاً في كوكبها، من أحبّها ومن لم يحبّها فقرّر منافستها، وهذه الحرب حقّ في كلّ الفنون على الأقلّ، ولكنها كانت خاسرة.

"بعيد عنك" أغنية جميلة جدّاً في كلّ حفلاتها ولكن في حفلة تونس بالتّحديد غنّتها بسلطنة خياليّة، حتّى أنها ولأوّل مرّة كانت تستخدم يديها في الغناء وتضعهما على قلبها من الفرح ربّما أو من النشوة. في تلك الحفلة بالتّحديد، لم يتخلّ بليغ عن جنونه الذي يجعله من الملحّنين الاستثنائيّين، فاتّفق معها على تطويل حرف النّون في الغناء وهي تؤدّي كلمة "كنت": "كنت بشتقلك وأنا وانت هنا".

حملت النّون بحنجرتها مثل وترٍ ما، وهذا ما كتب عنه محمود عوض في ما بعد مقالاً سمّاه "النّون المغنّاة". محمود عوض الصّحفي الّذي كان من الأقربين إلى السّت وحتّى عبد الوهاب، ويمكنني الجزم أنّه كان الأقرب رغم أنّ القرب من أم كلثوم، خاصّة من صحفيّ، كان شبه مستحيل، ولكن محمود عوض كسر هذا الحاجز من أوّل لقاء بينهما. لقد كان موهوباً واستثنائيّاً، لا يشبه أيّ صحفيّ شاب في جيله، ولنا دليل على ذلك من كلّ ما كتب عن ثومة ثمّ عبد الحليم في ما بعد، رغم اختلاف عوالم الاثنين اختلافاً واضحاً.

والنّون المغنّاة ليس المقال الوحيد الّذي كتبه محمود، بل كتب كتاب "أم كلثوم الّتي لا يعرفها أحد"، ولكن كيف يمكن أن يتحوّل الحرف الأبجدي إلى وتر مثلما يحوّل الشّاعر الأفكار إلى كلمة جماليّة وعمليّة خلق جديدة بهذا الإتقان؟ وكأنّها كانت تستخدم في مغناها قواعد التّجويد في القرآن وهو ما ابتدأت به فاطمة كي تصير أم كلثوم في ما بعد.

عندما كان يستمع إليها، كان يسمعها مثل كلّ النّاس في المسرح، مثل المحبّ. يرتدي التوكسيدو، يتعطّر، ويتلعثم في التّعبير عن حبّه. فذهب ليجلس في زاوية المسرح مكان أحمد رامي بعد أن يشرب كأس ويسكي بلا ثلج.

بالإذن من فرويد والبلاد والمسجونين والصّحارى والسّجّان وديّوث الشّام وهدهده ووريثه... ومن أم كلثوم التي غنّت للجمال ومناصريه ولم تعرف أنّها غنّت للمساجين وللقباحة والوقاحة... مجاز

أم كلثوم خلف القضبان

تغنّي أم كلثوم "فات الميعاد" بانكسار هائل، تصيب بوخزٍ في القلب عند الجانب الأيسر بالتّحديد. تفتح صوتها فجأة، تلوي عنقها مع الكلمة بكسرةٍ، ليخرج بليغ حمدي المفتري الّذي أوقع تهم الحب بيننا بأجمل ألحان العالم، يرشّ الوجع رشّاً وكأنّه يهبط على قلوبنا من السّماء. نحن هكذا ، ننكسر بانحناءةٍ ما في الرّأس، بإشارة ما في اليدين، بتلويحة سريعة، لذلك هذه المرأة جسّدت انكساراتنا كلّها رغم ضخامة صوتها وجبروتها العنيد. صنعت لنا أذناً ثالثة، بنت فيها ذائقة سمع جديدة، صوّبت لنا السّمع.

لا يمكن أن تستمع من بعدها إلى أغنية عاديّة وتشعر بنشوة جماليّة عالية، مثلما لا يعود الشّعر في أوراق الشّاعر كما كان بعد لقاء الحبيبة. لا يمكن أن تستمع من بعدها إلى أغنية جميلة حتّى. لقد صنعت فصلاً غائراً بين الشّيء الجميل والأجمل، وأجبرتنا على الميل إلى الأجمل. وفي النّهاية هذا هو اللّوتو الأكبر من الحياة: الوصول إلى الأجمل، وهذا ما أورثني إيّاه. رأيت الجانب الأجمل من أم كلثوم وآمنت أنّها رسولة الجمال في الغناء، لا أحد بعدها، أمّا في عالم موازٍ، هناك من عرفها بطرق أخرى.

لم أعرف شيئاً عن السجون السّوريّة إلّا من كتاب قرأته أيام الثانوي لكاتب سوريّ عانى خلف القضبان. نسيت اسم الكتاب والكاتب الآن، فتّشت عنه، جرّبت أن أقرأ روايات في أدب السّجن السّوري علّني أجده، ولكن هذا ما لم يحدث. أظنّ أنّني قرأت كتاباً ممنوعاً من النّشر ولم يصدر إلّا في بلدان مجاورة بنسخ قليلة. الآن، تلاشت الصّور الأدبيّة الّتي قرأتها فيه إلّا صورة واحدة للكاتب نفسه وهو يجلس أمام البحر في نهاية الرّواية على أحد المقاعد، وبذلك كان يرمز إلى الحرّيّة فهو لم يلفظها في سرده، لم يخبرنا عن شعوره يوم خروجه ولا عن فرحه المخفيّ بالحرّيّة.

كان الكتاب مخيفاً، فظّاً، وقحاً، جرّدني من مشاعر لم أعرفها فيما بعد واختفت. على الرّغم من المشهد الوحيد الّذي بقي معي من الكتاب حتّى الآن، إلا أنّني لم أنسَ المشاهد القاسية كالآلات والآليات الّتي كانت تُستخدم للتّعذيب البشري. لم يبدُ الأمر بشريّاً أبداً، حتّى الحيوان لا يُعامَل هكذا. في الخميس الماضي وبينما أجلس في غرفتي مشغّلة أم كلثوم وهي تغنّي "ثورة الشّكّ" طرق وسام الباب ودخل عليّ بعينيه الزّرقاوين. لم أكن أؤمن أنّ وسام، الشّاب السّوري اللّاجئ خُلق بازرقاق عينيه هذا، آمنت أنّه ورثهما من غطسة ما في البحر الّذي أحبّه دائماً.

يقول لي إنه عاش مدّة طويلة في البحر وليس حوله. استأجر بيتاً في كسب باللّاذقيّة وكان يعيش في البحر طوال نهاراته، لا يستخدم البيت سوى للنّوم. حين عرّفني على شغفه العجيب بالبحر عرفت أنّ وسام لم ينجُ أيضاً من السّجون ذاتها، وفعلاً هذا ما حدث. نظر صوب الجدار لا في عينيّ، وبدأ يتحدّث، وكنت أعرف أنّه خُيّل له الجوّ الّذي يقصّه عليّ، جوّ خالٍ من كلّ شيء إلّا الجدران. لم يخبرني بالتّهمة ولكنّه بدا نادماً على شيء فعله سعياً للمال، وأنا حاولت استنتاج تهمته التي لم يجاهر بها صراحةً.

لم يندم على ما فعله ولكنّه ندم على السّبب. لذلك التقيت به في حانة عاملين بمعاش لا يتعدّى مئتي دولار. وهو عكس ما كان يسعى إليه الشّاب تماماً، وكأنّه كان ينتقم من ندمه ذلك. كان ينام في غرفة مع أربعمئة إنسان. تمنّى في لحظتها لو أنّه كان يملك كاميرا ليلتقط لي صورة فوتوغرافيّة للمشهد. أربعمائة إنسان ينامون كعباً إلى وجه على جنب واحد طوال اللّيل. وفي الصّباح يحاولون اختراع الخمر الّذي كان ممنوعاً في الدّاخل. صنعوا خمرهم من التّمر المطحون، يذوّبونه ويضيفون إليه كمّاً معيّناً من المياه، ثم يكملون المهمة بوضع الخليط في غالون مع خبزة متعفّنة أو بندورة متعفّنة لا فرق، والقليل من اليانسون.

لم يحب وسام أم كلثوم أبداً، بل كان يميل إلى رقّة فيروز في فنّها. ما زال يسمع فيروز حتّى اليوم، ولكن تغيّرت نظرته إلى السّتّ من حينها. عند السّاعة الثّامنة من كلّ ليل، وبينما الجميع منشغل في حرفة اخترعها، البعض نائم، والبعض الآخر يضع الخمر الّذي صنعوه في إبريق شاي كيلا تُكشف الخدعة، وبينما يزور السجّان سجناءه ليتفقّد عصيانهم لأوامره، يجلس وسام في زاوية ما وهو يصنع حرفاً من أدوات متوفّرة.

ما زال رجلاً يعرف كيف يخترع شيئاً من شيء مختلف تماماً. يفتّش، يبحبش، مثل طفل لجوج. حتّى يصدح صوت السّت من التّلفاز من قناة مصريّة. يقول، يصمت الجميع ويلتفتون إليها. الجميع، القاتل والمغتصب والعميل والمعارض والسّارق والبريء. ما زال وسام على عادته، ما إن يسمعها حتى يترك كلّ شيء ويأتي إليها رغم أنّه لا يحبّها. وهذا ما جلبه إلى غرفتي. هي هكذا، لا تأتي إلينا بل تخترع صوتاً كي نلحق بها. أم كلثوم ليست صوتاً جميلاً ولا فنّاً اخترعته بنفسها وليست قامةً وظاهرة لا تتكرّر. أم كلثوم لم تغنِّ فقط في مسرح النيل وفي الأزبكية وفي إيزيس وهياكل بعلبك. هذه المرأة غنّت لأقبح أماكن العالم، لأقذرها وأكثرها صلافةً، غنّت في أكثر الأماكن المنسية.

يصدح صوت السّت من التلفاز من قناة مصريّة. يقول، يصمت الجميع ويلتفتون إليها. الجميع، القاتل والمغتصب والعميل والمعارض والسّارق والبريء... مجاز

بعدما كان وسام رجلاً محكوماً عليه بالإعدام خرج أخيراً بعد الرّأفة في الحكم بعد تسع سنوات، ولكنه لم يجلس مثل ذلك الكاتب المنسي بوجه البحر على مقعد حجري، بل جلس سنة كاملة في الصّحراء لأداء الخدمة الإجباريّة. الرّجل المهووس بالبحر كانوا يعطونه ثلاثة غالونات مياه للشّرب، كان يُحتّم عليه أن يطبخ ويشرب ويغسل آثار بوله منها لمدّة أسبوع كامل. وأتى بعدها تهريباً إلى جونية بخمسين دولاراً فقط. وهذا الرّقم عجيب، لأنّ كلّ عمليّات التهريب من سوريا كانت بأسعار خياليّة أكثر من ذلك بكثير، وهو ما عرضوه عليه عدّة مرّات قبل أن يلتقي بهذا الشّاب الّذي أخرجه من الصّحراء إلى مدينة فيها بحر اشتراه بخمسين دولاراً فقط لا غير.

بالإذن من فرويد والبلاد والمسجونين والصّحارى والسّجّان وديّوث الشّام وهدهده ووريثه... بالإذن من كلّ شاعر يمجّد الوزن والقاعدة والسّليقة ومن أم كلثوم التي غنّت للجمال ومناصريه ولم تعرف أنّها غنّت للمساجين وللقباحة والوقاحة. بالإذن من عوض ومن حبّي الأوّل ومنّي ونحن نسمعها في البحر وعلى الشّرفات وفي السّهول ونلبس التّوكسيدو وفستاناً أحمرَ سارحين في خيالنا إلى الأزبكية. بالإذن من الكتّاب المنسيّين ومن العينين الزّرقاوين ومن البحر الّذي صار مزاداً علنيّاً. لو أنّه ما فات الميعاد لما قتلتنا هذه البلاد بطرق استثنائيّة، بكلفةٍ أقلّ. لما ورثت أم كلثوم وأنا أضع رجلاً على أخرى من حبّ أقول عنه أوّلاً، صار في الذّكرى. لما ورث أحدهم أم كلثوم في الطّرف الآخر من العالم في سجنٍ وأحدهم يضع رجلاً في وجهه. فوات الميعاد، هذا كلّ ما يتركنا خارج لعبة الحياة.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard