ربما أجلب انتقادات مسبقة لهذا المقال، بدءاً من عنوانه إلى حوافه الأخيرة، فالعراقيون غالباً ما يكونون عاطفيين للغاية، وهذا يظهر في مشهد وداع الفنانين الذين يحبهم الجميع، ويجتمعون على رثائهم بكثير من الحزن والفقد.
ولكن بعيداً عن ذلك، يثور لدي سؤال مهني وموضوعي ربما لا أجد له إجابة: لماذا ينتهي مصير بعض الفنانين مبكراً بينما يستمر آخرون؟ وما هي عناصر النجاح في المجال الفني، والأدبي أيضاً؟ بالعربي: لماذا انتهى مصير كوكب حمزة مبكراً، بينما يعيش كاظم الساهر ويتداول أحفادنا أغانيه، نحن مواطنيه من العراق ومستمعيه من العرب كافة.
لماذا المقارنة؟ الجواب يكمن في تحليل شفرة النجاح، الاستمرارية، التكيّف، والتجديد مع المستهلك "المستمع" من عدمه.
صوت كوكب حمزة أصدق من كاظم الساهر في تجلياته، حيث يتصنّع الساهر المشاعر التي يفشل في معايشتها، بينما يتمتع كوكب بحسّ عال
هروب مبكر من الاستبداد
في مقابلته مع وكالة الأنباء العراقية "واع"، أكّد كوكب حمزة أسباب خروجه المبكر من العراق بحجّة حصوله على منحة دراسية من الحزب الشيوعي العراقي، وهروبه في 21 تموز/يوليو 1974 إلى تشيكوسلوفاكيا (سابقاً)، ثم انتقاله إلى كردستان وسورية وأميركا، واستقراره في الدانمارك منذ عام 1989 وحتى وفاته، مساء الثلاثاء 2 نيسان/أبريل 2024. وأرجع قرار هروبه إلى شعوره بالاغتراب في وطنه، بسبب مصادرة الحريات والاستبداد الذي أخذ يسود العراق.
وأوضح أن فترة الغربة سمحت له بالتعرّف على الموسيقى العالمية والتعمّق فيها، وأشار إلى الفوارق الجيلية والتميّز الذي كان يتسم به جيله بإيمانه بقضايا معينة، حيث كانت الأغاني لها علاقة وثيقة بالوطن والناس، وأضاف أن مستوى الأغنية العراقية، والإنتاج الفني العراقي عموماً، قد انخفض منذ التسعينيات، دون أن يذكر السبب.
صوت كوكب حمزة أصدق من كاظم الساهر في تجلياته، حيث يتصنّع الساهر المشاعر التي يفشل في معايشتها، بينما يتمتع كوكب بحسّ عال، حتى يبدو أنه ذائب فيها كل مرة، حين يعكس بصدق مشاعر ألم داخلي مكبوت، ربما خيبات أمل كذلك، رغم عدم وضوح مخارج الحروف ورداءة خامة صوته المجروح بالكحول والتدخين، كما يقول.
كملحن، امتلك كوكب حمزة القدرة على صناعة الأغاني بكل عناصرها المعروفة، النص، اللحن واختيار المؤدي. استلهم مقطوعات موسيقية من التراث الصوتي للمناسبات الحسينية في ناحية القاسم أو البصرة، أو من تراتيل الباعة المتجولين الذين يملؤهم التعب، فيجدون فسحة في الغناء الريفي للتسلية والتعبير عن الأحزان.
على الجانب الآخر، يتمتع كاظم الساهر بنفس خاص، حتى حين يطرّز أغانيه بمواد فلكلورية من تراث الموصل أو موسيقى الجوبي. لست بحاجة لإذن موسيقي لتلتقط مستشعرات جمال وتنوع ألحان الساهر. المدهش أن الرجل يصنع مادته بمهنية رجل المبيعات الناجح الذي يرضي ويلبي طلبات الجميع.
في أي سن كنت أو من أي مستوى معرفي أو مناطقي، ومن أي عرق أو جندر، الساهر صنع ويصنع ما يناسب ذوقك، وستجده فيك وتجد نفسك فيه. حتى في الغناء الوطني، لن تشعر بثقل أي خطاب تعبوي مباشر أو استنزاف مجاني لمشاعر فائضة تحت شعار الوطنية. لك أن تستمع لـ "كثر الحديث" أو "سلام عليك" لتعي أهمية عدم المباشرة ولعبة الطبقات البنيوية المتعددة للأغنية التي ستمسّك حتى لو كنت مواطناً في مستعمرات كوكب المريخ الشقيق، والأمر نفسه في غناء "الكلاسيك"، من النص إلى التوزيع تتويجاً للحن والصوت.
هل حنجرة الساهر مكتملة عراقياً؟ لا طبعاً، هناك مناطق صوتية ريفية أو مقامية عراقية، ليس عيباً أن الساهر لا يدخلها لضعفه فيها. هذه المناطق الرائعة تعد منحة "فطرية" وجدت لخاصة من المغنين، أشهرهم داخل حسن والقبنجي.
هل تم تدجين الساهر من الدولة البعثية؟ الجواب: نجا الساهر من وباء الأدلجة، وإن غنى كموظف حكومي بعض الأغاني التي يرد فيها اسم صدام حسين كمديح. هروب الساهر المتأخّر من سلطة البعث إلى الساحة العربية كان نجاحاً، بينما كان هروب كوكب حمزة مزاجياً ساهم بقتله فنياً.
هل حنجرة الساهر مكتملة عراقياً؟ لا طبعاً، هناك مناطق صوتية ريفية أو مقامية عراقية، ليس عيباً أن الساهر لا يدخلها لضعفه فيها. هذه المناطق الرائعة تعد منحة "فطرية" وجدت لخاصّة من المغنين
إدارة الموهبة
لم يظهر كوكب حمزة ذكاءً مهنياً في توجيه موهبته المفترضة. الفن مركب معقد، ذاتي التحصيل، والدعم مطلوب، لكنه ليس كل شيء. إذا لم يدر الفنان موهبته كصناعة، بل كأداة سياسية، فلن يستمر.
الاختيارات التي تتنوع بين تفضيلات الفنان وتفضيلات الجمهور، والتواجد على الساحة الفنية العامة وليس الخاصة، والبحث عما هو مواكب للزمان والمكان، يفضي إلى التجديد والابتكار، بالنتيجة ينال الفنان إعجاب الجمهور ولا يقتصر على محيطه المحلي. صحّة الفنان العقلية والجسدية ليست ملك مزاجه، بل يجب أن يوافق إيقاع محبيها ومستمعيها، وعلى هذا، كانت اختيارات كوكب الحياتية مجحفة بحق نفسه، بينما على النقيض، حافظ كاظم الساهر على حنجرته وجسده معافى من الدخان والكحول، يصرّ في كل لقاء أنه لا يشرب ولا يدخن ولا يسكر، وإن قيل همساً إنه يكتفي بكأس واحدة في جلساته المنزلية الخاصة.
الشغف
في فترة تألق كوكب حمزة الفني، من السبعينيات إلى الثمانينيات، لم يخلُ من الكسل والتراخي، مقارنة بالفترة التي كان يتمتع فيها بالشهرة كفنان يساري في ظل نظام صدام. في الدنمارك، لم تنعكس الرفاهية على إبداعه، بل استمدَّ انعزاله وحنينه للماضي منها.
إن الاعتماد الكبير على الذات وتجديد الذكريات يُصبح مخدراً خطيراً. إذا استيقظت ونمت على صور نجاحاتك السابقة، فإن النرجسية تُشبع بالثناء والتمجيد، لكن لن يُنتج ذلك أعمالاً، بينما
شغف كاظم الساهر الدؤوب فنياً، المتقد والباحث عن النجاح والمتمسّك بالزمن كحق طبيعي طيع له لا يخذل أحدهما الآخر، سيجعل صوته صالحاً للاستهلاك لقرون.
كيف يرى كوكب حمزة كاظم الساهر؟
كان كوكب لا زال مؤمناً أن الغناء قضية والتزام، حتى بعد الخيبات القاتمة القاتلة التي لطمت الجميع، وأولهم من آمن بقضية "وحشرها في الفن"، الغناء خصوصاً. لكن لماذا على المطرب أن يكون له قضية من الأساس؟ كل فن ينبغي أن ينعكس وينفتح على جمهوره بمحاكاة اهتماماته وتغيراته الاجتماعية والمزاجية والتناغم معه كما يتناغم السائق مع الطريق دون أن يخضع لشروط الابتذال والشعبوية المفرطة. الفن الغنائي تغذية راجعة ـ هو ليس لوحة تنتهي في غاليري نخبوي أو منزل ضمن مقتنيات شخصية. هو تبادلي وزمني وبشري وحسي جداً، والتقاء المغني والملحن بالجمهور في الغناء.
مفهوم "الفن الملتزم" أصبح محور تفكير الجمهور، حيث يرتبط بالمضمون والسرد، بدلاً من الجانب اللغوي في الشعر أو القيمة الموسيقية في الأغنية. تنوعت التصنيفات للفن الملتزم، مثل التسميات "تقدمي"، "ثوري" أو "عاطفي"، وهذا أثار العديد من التعليقات والانتقادات بشأن الإبداع والتصنيف، فيما يتعلق بطبيعة الفن الملتزم وكيفية الالتزام به، فإن التعريف الأولي يتطلب تحديد المفاهيم.
يجب أن يكون الفن تعبيراً حراً عن النفس، يحمل جرعة كبيرة من الإحساس، ويحمل قيمة جمالية. هذه العناصر الثلاثة هي أساس كل عمل فني، بغض النظر عن وسيلة التعبير أو مضمون العمل. من ناحية أخرى، يجب أن نفهم معنى الالتزام، وهو الاتفاق المسبق على فكرة أو قانون أو منظومة فكرية. إن الالتزام يفرض قيوداً على حرية الفنان وخياله الإبداعي، ما يؤثر على طبيعة العمل الفني وروحه الفنية.
يثير هذا التضارب بين المفاهيم انتباهنا، حيث يتناقض الفن الذي يسمح بالتنوع والحرية مع الالتزام الذي يفرض الثبات والالتزام. هنا يظهر التضاد واضحاً بين الفن والالتزام، حيث يشير الأول إلى التنوع والحرية، بينما يفرض الثاني حدوداً وقواعد. ما يثير التساؤل هنا، هو من أين جاءت فكرة الفن الملتزم؟ هل كانت هناك فعاليات فنية سابقة تناولت القضايا الوطنية أو الاجتماعية أو السياسية؟ هل كانت أغاني كبار الفنانين، مثل سيد درويش، تعبر عن واقع المجتمع بحرية وحرارة؟
بالطبع كانت، ولكن لم يُطلق عليها تسمية "فن ملتزم". كانت تلك التعبيرات حرة عن الذات والمجتمع، دون الالتزام بأي مذهب سياسي أو فكري. التسمية الجديدة للفن الملتزم قد تم تعميمها من قبل الأطراف السياسية أو العقائدية، لكنها في الواقع أضرّت بالأعمال الفنية بدلاً من أن تعزّزها.
يظهر التضاد واضحاً بين الفن والالتزام، حيث يشير الأول إلى التنوّع والحرية، بينما يفرض الثاني حدوداً وقواعد. ما يثير التساؤل هنا، هو من أين جاءت فكرة الفن الملتزم؟
يمكن للفن أن يتناول قضايا اجتماعية أو وطنية أو سياسية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون ذلك الفن ملتزماً بفكرة معينة أو أيديولوجيا، بل يجب أن ينبع الفن من صدق وحرية التعبير، وأن يحمل قيماً جمالية وإبداعية حقيقية. ما يُطلق عليه اسم "الفن الملتزم"، في كثير من الأحيان، يعتمد على الالتزام بفكر معين أو أيديولوجيا، دون أن يُولى الاهتمام الكافي للجانب الجمالي أو الإبداعي للعمل الفني، وهذا ما ينفيه الكثيرون من أصحاب المعرفة الفنية، إذ يرون إن الفن يجب أن يكون خالياً من القيود والتزامات، وأن يتمتع بالحرية التامة في التعبير والتجديد. الفنان ليس ساعي بريد بالمحصلة.
أعتقد أنّ من طرح هذه التسمية (الفنّ الملتزم) وعمّمها، ليس صاحب الرؤية الفنية، بل صاحب الالتزام، أي الجهة السياسية أو العقائدية التي كانت بحاجة إلى وسيلة إعلامية، إعلانية، تخدم الفكرة أو الأيديولوجيا، ولكنّها بهذا أجهضت العمل الفنّي.
تعريف متأخر
من هو كوكب حمزة؟ ملحن ومغنّ عراقي من مواليد محافظة بابل، ناحية القاسم في العراق. درس في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وأكمل دراسته في جامعة كييف (الاتحاد السوفيتي سابقاً). أصبح ملحناً معروفاً منذ ستينيات القرن العشرين، وكانت أولى ألحانه مقطوعة موسيقية بعنوان "آمال". اكتشف حسين نعمة، ستار جبار وسعدون جابر. لحّن للمطربة أصالة نصري في بدايتها، وللمغني الكويتي عبد الله الرويشد، إلى جانب مائدة نزهت وسعدون جابر، وفؤاد سالم وحسين نعمة وفاضل عواد، وغيرهم. قدم المطربة المغربية أسماء لمنور لأول مرة للجمهور، ولحن لها أغنية "دموع إيزيس" في عام 1997، وكانت الأغنية من كلمات الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم.
من هو كاظم الساهر؟ أنه كاظم الساهر ببساطة. كما لبيروت فيروزها وكما للقاهرة أم كلثومها وللجزائر وردتها، فلبغداد ساهرها الذي لمّا ينم بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع