مسّه الشوق فذابا
كرسي خشبي صغير بمدخل المطبخ كان مستقري وملاذي وموقعي الأهم في بيتنا، أجلس عليه كلما أردت مراقبة أمي أثناء قضائها ساعات طوال، تطهو أو تجهز الخضروات للطهو في اليوم التالي، أو تجلي الأطباق وتنظف المشعل بعد يوم عمل طويل.
صعب عليّا أنام أحسن أشوف في المنام
غير اللي يتمناه قلبي سهرت استناه
واسمع كلامي معاه وأشوف خياله قاعد جنبي
وبمجرد أن تدق الساعة التاسعة تدير أمي قرص المذياع المضبوط على اذاعة أم كلثوم، وبينما تصب كوب شاي التاسعة كالعادة، تبدأ أم كلثوم في شدو أغنيتها الطويلة الباعثة على الملل، هكذا كانت بنت السابعة تراها، ربما لأنها تقطع، بالضرورة، وصلة حديث دافئ بيني وبين أمي، بعيداً عن صخب الأخوات، بعد يوم مفعم بالتجارب والملاحظات التي وجب حكيها قبل النوم.
لم أكن أفهم ما تقول يوماً، لكن بعض تلك الموسيقى تبعث على النوم، لاسيما موسيقى أغنية "حلم" و"رق الحبيب" تحديداً، ربما ساورني هذا الشعور لأنى أستيقظ للمدرسة بالخامسة صباحاً كل يوم، فكان من الطبيعي أن يداعبني النوم قبل التاسعة.
من همسة حب لقيتني بحب
لقيتني بحب وأدوب في الحب
وأدوب في الحب وصبح وليل، وليل على بابه
عدت السنوات وصرت أنصت لما تقوله تلك المرأة، ولكن ما زلت لا أفهم كل ما يقال، وعندما وقع المحظور بقلبي، وصدفة سمعت "سيرة الحب" لأول مرة، رحت أضحك ملء فمي وقلبي، هذه السيدة تتحدث عني، تصف شعوري، تطير معي حيث لا يراني أحد غيرها، حفظت اسم الأغنية وطلبت من أحد البائعين بمحل شرائط الكاسيت أن يبحث لي عن تلك الأغنية مسجلة، أو حتى يسجلها لي مخصوص، كي أستطيع أن أسمعها مراراً وتكراراً دون حاجة لانتظارها بإذاعة الأغاني.
عيون كانت بتحسدني على حبي
ودلوقتي بتبكي عليّ من غلبي
وفين إنت يا نور عيني يا روح قلبي فين
فين أشكي لك فين
عندي حاجات و كلام وحاجات
فين دمعك يا عين
بيريحني بكايا ساعات
دوام الحال من المحال، هذا ما خبرته بعد أن أطلّت لوعة الحب على قلبي الطفل، الذي يحاول الحبو مازال على جسر الحب، عثرات وآهات ودموع وبعاد، مفردات أعرفها لأول مرة، تطبع صوراً وأختاماً ونقوشاً على قلبي وعلامات للزمن، أتعلم أن أقف مكان أمي بالمطبخ في التاسعة، أعرض خدماتي، مدعية طلب راحتها، كي أعقد صفقات مع المذياع وأعاين ما يحمله لي من رسائل على لسانها كل ليلة، حتى سمعت "بعيد عنك"، هكذا هو إذن عذاب الحب ولوعة العاشقين والنار المتقدة التي لا يمكن أن أفصح بها لأحد، لكن الآن صارت لي صديقة تؤازرني بصوتها، وتصدح وتبكي وتقطع مناديلها عندما يقهرني الحب بدلاً مني.
وعندما وقع المحظور بقلبي، وصدفة سمعت "سيرة الحب" لأول مرة، رحت أضحك ملء فمي وقلبي، هذه السيدة تتحدث عني، تصف شعوري، تطير معي حيث لا يراني أحد غيرها... مجاز في رصيف22
أفضّل جلي الصحون وتقطيع البصل، فأجد مبرراً دائماً لدموع الفراق وألم الخصام، ومخرجاً لثورة بداخلي لا تنفض إلا بعمل يدوي منهك، يفرغ طاقتي الثائرة الحائرة الحزينة.
عودت عيني على رؤياك وقلبي سلم لك أمري
أشوف هنا عنيا في نظرتك ليا
وألقى نعيم قلبي يوم ما ألتقيك جنبي
وان مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبش من عمري
مساحات التفاهم تتسع بيننا، أنا وهي نجد طريقنا خاصة في ليالي الصيف الطويلة، حيث لا حاجة للاستيقاظ باكراً، فقط أنا وهي وسماء أحاول تبيان نجومها كل ليلة.
أقابله وتجمع بيننا مرة أخرى، فأحب وأنتشي، ونتبادل أغانيها ونستمع ونتناقش، ونعاود الاستماع للاستمتاع، وكأنه يغنيها لي بصوته، ثم يدب الخلاف بيننا فأنزوي حزينة أقاسي آلام معركة الحب والكرامة. يساورني الحنين، فأعود ملبية، وعندما اتخذنا قرارنا، كان الإعلان على مدونته بمقطع لها من أغنيتها "عودت عيني" مع صورتي، فنستقبل تهاني المعارف والأصدقاء، ونكمل المشوار الذي اخترناه.
سهران لوحدي أناجي طيفك الساري
سابح في وجدي ودمعي ع الخدود جاري
نام الوجود من حواليا وانا سهرت في دنيايا
اشوف خيالك في عينيه واسمع كلامك ويايا
في ليلة صافية على سطوح بيتنا بالبلد، فرد أبي جسده ناظراً للسماء عندما ضبطته يختلي بسماعها وحيداً، ولا صوت يطوف بالمكان إلا صوتها في آخر الليل، تردد "سهران لوحدي"، جلست بجانبه أنظر إليه أحاول قراءة ملامحه، داعبته مؤكدة أن أفضل أغانيها هي "أنت عمري" فقط كي أستفزه، ونجحت بهدفي، اعتدل على الفور ولوح بيده مؤكداً أن ما لحنه لها محمد عبدالوهاب كان محض هزل بجانب ما لحنه لها السنباطي والقصبجي، كما أنه نال من احترامها لفنها ومن صورتها الوقورة أمام محبيها ومعجبيها، وأضر بتاريخها الفني في نظره، وأطلق ساخراً على ألحان عبدالوهاب لها، "أغاني الهشك بشك"، ثم أردف أنه لم يكن أبداً "لقاء السحاب: كما أسموه آنذاك، بناء على وصية من الرئيس جمال عبدالناصر بتعاونهما.
وأبات أنعي، أنا ودمعي
وأخبي دمع العين وأداري من اللايمين
لا يلمحوا عينيا ويشمتوا فيّ
ولحد إمتى، إمتى حتبقى إنت، إنت والشمتانين
ثم عاود الاسترخاء عندما تحدث عن أغنيتها "أروح لمين" التي لحنها لها السنباطي وكتبها الشاعر عبدالمنعم السباعي، وكيف أنها أغنية نابضة بكل معاني الشوق والخضوع والحب والحيرة بشكل استثنائي، وعرّج باستحياء على الملاحظة الأهم بالنسبة لي، أنها الأغنية المفضلة لحبه الأول، والتي قد توفت في ريعان شبابها وهي تسمعها، ولم يكن في قلبها سواه، فابتسمت معلقة: "لهذا أراك تسمعها كثيراً".
أعطني حريتي أطلـق يديّ
إنني أعطيت ما استبقيت شيَّ
آه من قيدك أدمى معصمـي
لم أبقيه ومـا أبقـى عليّ
ما احتفاظي بعهود لم تصنها
وإلام الأسـر والدنيـا لديّ
جلست بجانب أبي، أنظر إليه أحاول قراءة ملامحه، داعبته مؤكدة أن أفضل أغاني الست هي "أنت عمري"، فقط كي أستفزه، اعتدل على الفور ولوح بيده مؤكداً أن ما لحنه لها عبدالوهاب كان محض هزل بجانب ما لحنه لها السنباطي والقصبجي... مجاز
تخبرني أمي أنها كانت ابنة الليل الوفية، فلم تكن تبدأ مذاكرتها يوماً إلا بعد أن ينام الجميع، وبجانبها مذياع صغير ابتاعته من العتبة ذات يوم، حينما لم يكن هناك إلا هي وأم كلثوم والكتاب، حتى الصباح مع كوب الشاي الأثير، حتى في ليالي الشتاء الباردة كانت هي بجوارها، تؤنسها وتدفئها وترسم لها عالماً تتمنى لو أطلّت عليه يوماً.
في مرحلة سابقة كنت أفضّل أغانيها بالعامية على الفصحى، وفي إحدى المرات التي جلست فيها قبالة أمي في البلكونة، بجانب الشاي الخاص بها وطبق اللب الأسمر نراقب المارة بالشارع، بسطت أمي كفها وهي تردد وراء المذياع الصغير مقطع من "الأطلال"، فنظرت لها مندهشة عن سر إعجابها بهذا المقطع تحديداً، فقالت: "اسمعي هتعيدها".
استمعت للمقطع ثم أكملت بتركيز بقية القصيدة، كنت كمن ترقص على الدرج، تعلو وتهبط بحسب الصوت والمعنى والنغمة، قمت بعدها روحي تعبة منهكة كمن خرج لتوه من معركة/ رحلة/ مشوار.
آه من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني
كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء
آه رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء
أنا لو لا أنت، لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا لغد آن بأحلام اللقاء
فأت أو لا تأتي أو فافعل بقلبي ما تشاء
فرحة بكر تغمرني كلما استمعت لـ "أغداً ألقاك"، تلك الأغنية التي أشعر فيها أنها تناجي أملها في أيام وحياة عامرة بالتجارب والمشاعر سوف تهل عليها، ومندهشة دوماً أتساءل: كيف لكل هؤلاء الناس على اختلاف أطيافهم وطبقاتهم ولهجاتهم وخلفياتهم أن يجتمعوا على صوت سيدة واحدة، من المحيط إلى الخليج، وكيف يفهمونها ويتعاطون لهجتها وكلماتها، كيف؟
أعتقد أن رحلتي مع أم كلثوم لم تكتمل بعد، فمازال لدي العديد من الأسرار التي سأكتشفها عن نفسي من خلالها، هي امرأة أخلصت لما تحبه بحق فأعطى لها الفن عطيته وجائزته الكبرى "الخلود"، أعتقد أن فتحاً روحياً ما حل عليها في سن مبكرة، فأدركت أن كلمتي السر خاصتها هما الإخلاص والاستمرار، هذه امرأة لا يجود بها الزمن مرتين، وظاهرة لن تتكرر، وأظن أن صندوق أسرارها لم يفض حتى يومنا هذا، فمازال في جعبتها الكثير تدخره لأجيال قادمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع