مسّه الشوق فذابا
لا تحبها؟! كيف لا تحبها؟ من يجرؤ على ذلك؟!
إذن أنت لا تحبني! حبها من حبي!
لم أحب أمل من الأساس، ولكن لم أعرف يوماً لِم هذا الربط بين مشاعري تجاهها وحبي للسِت!
كانت قصتي مع أمل تجربة سريعة، مؤقتة، خالية من الحب الحقيقي ووهج القلب ولوعة الشوق، أرسلت لي يوماً شريطاً أزرقاً مكتوب عليه بقلم أزرق "أنا".
لم أفهم!
أمل حياتي يا حب غالي ما ينتهيش
يا أحلى غنوة، غنوة سمعها قلبي ولا تتنسيش
أمل حياتي يا حب غالي ما ينتهيش
أنصت باهتمام، وأترك لنفسي مساحة محاولاً الاستمتاع بهذه التنهدات والآهات التي تشهد على عبقرية الكلام المكتوب واللحن الشجيّ.
خليني جنبك خليني في حضن قلبك خليني
جملة لحنية موحية، بها من الرجاء الكثير، ومن التوسل ما يجعلني أراجع نفسي مرات ومرات قبل أن أخذل أمل، ولكني أدركت بعد سماع الأغنية أنني لن أستمر مع أمل، وأن هذه المشاعر التي وصلتني من أداء السِت أعلى بكثير مما أحمله بداخلي لها، رغم محاولتها غوايتي بهذه الموسيقى المتقنة.
شرحت لها أنني لا أحب "السِت"، ولم أحاول أبداً أن أستمع إليها بإيعاز من ذاتي وحدها. تشنجت أمل، واعتقدْتُ أنني لو أخبرتها بعدم حبي لها سوف يكون أهون بكثير من عدم تذوقي لفن "السِت".
طلبت مني الشريط بعد أن تركتها بأشهر عدة، ربما ظنّت أن الحنين قد يعيدني إليها فقررت أن تتركه للتذكير، ربما تقنعني السِت بأن أعود لها، ولكن الحقيقة أنني لم أستمع للأغنية أبداً سوى المرة الأولى الوحيدة.
خليني جنبك خليني في حضن قلبك خليني
أسمعها وأردد خلفها بعد ذلك بأعوام بينما ينساب الصوت من شاشة التليفزيون في غرفة أمي، وألقي نظرة عليها وأبتسم لها، فتفهم أنني أوجه رسالتي لها بأن تظل بجواري، وأفهم أنها تطلب مني نفس الشيء!
لم تأت أمل في خاطري أبداً يومها وأدركت أن السِت تحبني وأن أمي تحبني!
ويظل الخاطر يسافر في عقلي كلما تقدم بي العُمر، تزورني السِت بحب وود زيارات لم أختر أنا موعدها ولا مكانها، قهوة شعبية في حي الجيزة، وصوتها يصدر من راديو قديم…
وعمري ما اشكي من حبك
مهما غرامك لوعني
لكن أغير م الي يحبك
ويصون هواك أكتر مني
أحاول التركيز في الحديث مع صديقي ولكن الكلمات تسرق أذني فلا أسمع شيئاً مما يقول! عندما تغني السِت ينصت الرجال على المقهى وفي المنازل، وقتما تصدح السِت تتعطل مَلَكة الرجال ويتوقفون عن الثرثرة اليومية التافهة ويشردون في المطلق، يعلو صوتها في سماء وطني وكأنها آلهة إغريقية تلقي بالوحي على الأرض، بينما تحاول الآذان أن ترتقي لها.
عندما تعلو آهات السِت تنخلع قلوب النساء في بلادي ويتذكرن حب قديم أو يحلمن بحب جديد أو يندمن على شوقِ ضاع، عندما تعلو آهات السِت فإنها تقتل كل النساء وتحييهم مرة أخرى! يدخلن ليتزيّن لأزواجهن ليلة الخميس بعد حفلتها المسجلة على قناة التليفزيون الحكومي.
ثم تأتي لتؤنس وحدتي وأنا أشرب عصير القصب في محل عم جرجس بمنطقة نصر الدين، حيث يخرج صوتها من الكاسيت المغلف بكيس بلاستيكي يحميه من الماء المتناثر من حوض الغسيل. حلاوة مذاق السكر في حلقي تتضاعف…
وفين حلاوة قربك فين... فين الوداد والحنية!
كان بيعاتبها يا أستاذ. يقطع صوت عم جرجس شرودي.
مين ده؟
رامي... رامي كان بيعاتبها... كانت واكله مخه.
شكلك بتحبها يا أستاذ. وحياة حبك اللي باين في عيونك ده ما أنت دافع حق شوب القصب!
لا أرد!
عندما تغني السِت ينصت الرجال على المقهى وفي المنازل، وقتما تصدح السِت تتعطل مَلَكة الرجال ويتوقفون عن الثرثرة اليومية التافهة ويشردون في المطلق، يعلو صوتها في سماء وطني وكأنها آلهة إغريقية تلقي بالوحي على الأرض، بينما تحاول الآذان أن ترتقي لها... مجاز في رصيف22
تدعوني "عيون الرشا" إلى مشروب صيفي مثلج، وتدس في يدي ورقة وتطلب مني المساعدة في تزويدها بالكتب والمواد البحثية المطلوبة لكتابة موضوع مطلوب منها في قسم علم الاجتماع- كلية الآداب!
تختارني كأستاذ في أكاديمية الفنون أم كحبيب؟ لن أسأل عن إجابة تظهر بوضوح في حيائها واحمرار وجنتيها ورعشة الخد، وسرعة المصافحة! ربما تكون قد لمحت هي الأخرى إعجابي بها، وجعلت الأمر يسيراً على كلانا. تعرفت عليها في حفل تخرج أختها العام السابق، ولم تغادر خيالي لحظة!
فتحت الورقة: "أم كلثوم… نبض المجتمع المصري في الخمسينيات والستينيات".
لا تحبها؟
لا تحب السِت؟!
لا عليك، سوف أطلب المساعدة من شخصٍ آخر.
خطَفَت الورقة وركضت كما يفرُّ الغزال من أمام أسد جائع!
كانت عيناها زرقاوين، تلمعان بخضرة خفيفة، تجعلني أدور في مكاني، عينان تستحقان أن أحاول مرة أخرى. استشرت زميلي فؤاد، الحاصل على الدكتوراة في المقامات الموسيقية في أغانيها، عن الأغاني التي غنتها السِت وبها إشارة إلى العيون، ثم اخترت منها:
ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني
إلا عُيونك إنت
دول بس اللي خدوني
وبحُبك أمروني
أحببت الأغنية بشدة، وتأثرت بها، أرسلتها لها كاملة بعد أن حفظتها عن ظهر قلب ربما يأخذنا الحديث عنها، ولكنها تجاهلت الرسالة، قرأتها ولم ترد، وطلب مني فؤاد أن "حِب السِت من قلبك"، قلت له بنبرة متحسرة: "السِت هي اللي بتحبني، بتحبني قوي".
يقودنا أبي في سيارته الزرقاء إلى المدرسة، وفي كل يوم أسفل كوبري ميدان الجيزة في تمام الثامنة صباحاً، كان يصدح صوتها…
يا صباح الخير ياللي معانا
الكروان غنّى وصحانا
يعلم أبي عشقي للشِعر في هذه السن الصغيرة، فيذكر اسم كاتب الأغنية أولاً، بيرم التونسي، ثم الملحن، القصبجي.
أدندنها سراً، وأصرح له بأنني أحب الأغنية ولكني لا أحب السِت. يبتسم بينما تصعد السيارة الكوبري: "ماذا تعرف عن الحب؟ السِت هي أصل الحُبْ. الشِعرُ سوف يهديك إليها".
أكثر من محاولة يبذلها أبي لكي أتعرف مرة أخرى على السِت في مرحلة المراهقة والجامعة، فيشتري لي أربعة كتب عنها، أقرأهم جميعاً بشغف، ويصطحبني إلى "فرقة أم كلثوم" بدار الأوبرا المصرية، حيث يؤدي أغانيها مجموعة منتقاة من أمهر وأطرب مطربي بلادي، واستمع وأنصت أحياناً بلا اكتراث، وأحياناً لكي أرضي أبي، والتحق بأكاديمية الفنون وأدرس المسرح والدراما، وأُعين معيداً، وتحبني السِت في حفل التخرج، عندما يعزف ويغني لها زملائي من كلية التربية الموسيقية:
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماض من الزمان وآت
الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهات
الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهات
بعد حين يبدل الحب دارا
والعصافير تهجر الأوكارَ
أسير في الشارع الصامت مبتهجاً وأنا أردد بنفس التنغيم: "هذه ليلتي". لم تأت أمل في خاطري ولم تزر عيون الرشا بالي.
يقودنا أبي في سيارته الزرقاء إلى المدرسة، وفي كل يوم أسفل كوبري ميدان الجيزة في تمام الثامنة صباحاً، كان يصدح صوتها: يا صباح الخير ياللي معانا، الكروان غنّى وصحانا... مجاز في رصيف22
يسرقني الليل وأسأل هل فات الميعاد؟ كبرت الآن ولم يدُلني الشِعر إليها كما تنبأ أبي, هل فات ميعاد أن أَحِبُ وأُحَب! فقدت أمل، وهربت مني الظبية عيون الرشا، وأسير وحيداً بمحاذاة كورنيش منيل الروضة، فيأتي صوتها من عربة تبيع "حمص الشام" الساخن…
الليل
ودقت الساعات تصحي الليل
الليل وحرقة الآهات في عز الليل
وقسوة التنهيد
والوحدة والتسهيد
لسه ما همش بعيد
وعايزنا نرجع زي زمان
قول للزمان ارجع يا زمان
وهات لي قلب لا داب ولا حب
ولا انجرح ولا شاف حرمان
أبكي بجوار البائع وأُخفي مدامعي. كان أبي قريباً بسيارته الزرقاء على بُعد نصف كيلومتر وثلاثون عاماً، ويرن في أذني: يا صباح الخير ياللي معانا"، وأنا في منتصف سواد الليل الحالك وخلفي النيل.
من أي عهد في القرى تتدفق وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من عليا الجنان جداولا تترقرق
أحبها النيل وأحبته وأحبتني. باع أبي السيارة الزرقاء، ولم أعد أمر من فوق كوبري ميدان الجيزة، وفقد الراديو بهاءه، ولكن لا تزال الأغنية تُذاع في نفس الموعد منذ ذلك الحين. تُلقي لي ربة الشِعر قصيدة، بينما يهديني بائع الحمص كوباً ساخناً:
شكلَك ولهان بـ السِت يا كابتن.
أنظر له بنصف ابتسامة، وأختار العنوان: "السِت التي لا أحبها وتُحبني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت