"بينما كنت أتجول في إحدى قرى طرطوس، لفتني منظر المياه؛ كانت سوداء ولها رائحة كريهة، تمتد لمسافة ثلاث كيلومترات في مجرى النهر الذي اختفت الأسماك منه، فظننت أنها مياه مجارٍ، ولكن تبيّن أنها مياه للشرب ملوثة بمخلفات معاصر الزيتون"؛ هذا ما ذكره الناشط البيئي علي إبراهيم، المقيم في المحافظة السورية الساحلية.
ويتابع إبراهيم (35 سنةً)، في حديثة إلى رصيف22، أن هذه الظاهرة تتكرر كل عام مع موسم عصر الزيتون، عندما يعمد أصحاب المعاصر إلى التخلص من مخلفات العصر وماء الجفت في المجاري والسواقي، فينتهي بعضها في الأنهار أو في البحر، تاركةً تلوثاً كبيراً في هذه المناطق ومؤثرةً على الكائنات الحية، فضلاً عن حرمان الناس من نعمة الماء، خاصةً أن العديد من القرى في المنطقة تعاني من نقص المياه.
ظننت أنها مياه مجارٍ، ولكن تبيّن أنها مياه للشرب ملوثة بمخلفات معاصر الزيتون.
ويتحدث أسامة حميشة، وهو صياد في ريف اللاذقية، أن مياه المعاصر تترك أثرها على الأسماك أيضاً، ما يجعل موسم الصيد في هذه الفترة "غنياً"، فالأسماك تدوخ من التلوث وتطفو فوق سطح البحر، فيجمعها الصيادون بكميات كبيرة، لا يحققونها في الأيام العادية، من دون أن ينكر مساوئ هذا التلوث وما يتركه من مظهر سيئ في البحر.
مخلفات العصر
ينتج عن عملية فصل الزيت عادةً مكونان، هما الزيبار أي المخلفات العجينية، والجفت وهو المياه المرافقة، والزيبار يتكون من المواد الصلبة المتبقية بعد عصر الزيتون، ويُستعمل في بعض الدول كسماد عضوي، لكن استخدامه بشكل عشوائي يسبب أضراراً للتربة والمياه والهواء، إذ تضرّ حموضته بالخصائص الفيزيائية والكسميائية لغلاف التربة، وتالياً تلوث التربة التحتية، وتزيد من مخاطر تلوث المياه الجوفية.
أما مياه الجفت، وتُسمى أيضاً مياه صرف طواحين الزيتون، فهي سائل غامق اللون ذو رائحة مميزة، يشكّل 40% من وزن ثمار الزيتون، ويحتل الصدارة بين مخلفات معاصر الزيتون في الأضرار، لخطورته على التربة والمياه، فالجفت ذو تركيز عالٍ من الحموضة، مرّ الطعم، حامضي التركيب، ويحتوي مواد عضويةً وأملاحاً ودهوناً وعناصر منها الآزوت والبوتاسيوم والكلور والفوسفور والمنغنيز والنحاس.
من المياه الملوثة بمخلفات عصر الزيتون في محافظة طرطوس - تصوير علي إبراهيم
كلام سنوي
في كل عام يتكرر الحديث في سوريا عن التلوث نتيجة عمل معاصر الزيتون، وهذا العام عادت الأصوات للظهور ثانيةً، خاصةً أن الموسم الحالي حقق إنتاجاً جيداً. يلتقط علي إبراهيم مجموعة صور تظهر التلوث الذي خلّفته المعاصر في المياه، والتي أصبحت سوداء اللون وكأن تلوثاً نفطياً أصابها.
وتوضح عبير جوهر، مديرة مكتب الزيتون في وزارة الزرعة في حماه، أن إنتاج سورية بلغ هذا العام 820 طناً، وهو إنتاج يُعدّ جيداً جداً مقارنةً بالسنوات الفائتة، وتتركز غالبيته في محافظتي طرطوس واللاذقية بنسبة 40%. وتتابع المهندسة قائلةً إن الزيتون يخصَّص جزء منه للمائدة وهو الأخضر بنسبة 15%، والقسم الأكبر يذهب لإنتاج الزيت والعصر وسينتج عنه هذا العام قرابة 125 ألف طن من الزيت.
هذه الظاهرة تتكرر كل عام مع موسم عصر الزيتون، عندما يعمد أصحاب المعاصر إلى التخلص من مخلفات العصر وماء الجفت في المجاري والسواقي، فينتهي بعضها في الأنهار أو في البحر، تاركةً تلوثاً كبيراً في هذه المناطق ومؤثرةً على الكائنات الحية
وعن توزع المعاصر وعددها، تشرح أنها تبلغ 500 معصرة من أصل 900، كانت تعمل قبل اندلاع الحرب، قرابة نصفها موجودة في محافظة طرطوس، ما يسبب زيادةً في نسبة المخلفات في هذه المحافظة، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة توزيع المعاصر في مناطق الإنتاج.
وبرأي المهندسة جوهر، يمكن لهذه المخلفات أن تكون ثروةً لو تمت الاستفادة منها، وتقول: "نحن نسميها تجاوزاً مخلّفات، لكن لو استثمرناها بشكل جيد ستكون منتجات ثانويةً لعملية العصر. يمكن استخدام تفل الزيتون أو ما يُسمى ‘بيرين’، لتوليد الطاقة بعد استخلاص الزيت منه، ونستفيد من الزيت المتبقي منه والمسمى زيت البيرين في صناعة الصابون، كما يمكن الاستفادة من الأوراق التي يتم تخليصها من ثمار الزيتون من خلال شفاطات، واستخدامها كعلف للحيوانات".
إمكانية استثمار مياه المعاصر
وبالحديث عن مياه المعاصر التي يشتكي منها كثيرون، تشير إلى أن سبب الضرر البيئي المنسوب إليها هو ارتكازها في منطقة معينة أو التخلص منها بطرق غير مناسبة في مجاري الأنهار أو في بقع معينة من الأراضي الزراعية، إذ يمكن أن تشكل خطورةً على التربة وتؤثر على نشاط المعالجات لمياه الصرف الصحي في حال رميها فيها.
وأوضحت جوهر أنه يمكن استثمار هذه المياه في حال ضُبطت آلية تجميعها، مع مراقبتها بشكل جيد وتخصيص جهة لإدارتها، لأنه يمكن استخدامها في الري والرش بين أشجار الزيتون بنسب محددة، فهي غنية بالبوتاسيوم والمغنيزيوم وغيرهما من العناصر المفيدة للتربة.
ينبغي إخضاع الجفت إلى مزيد من الدراسات والأبحاث، واعتماد طرق علمية للتعامل معه بعيداً عن الشائعات.
ويشرح مصدر في مديرية الزراعة، أنه يتم الإيعاز للمعاصر لنقل المياه عبر صهاريج وتوزيعها على الأراضي الزراعية مجاناً، ومع هذا يرفض البعض استخدامها خوفاً من تجربة أي شيء جديد، ولأن البعض تعرضت مزروعاته للحرق بسبب سوء استخدامهم لهذه المياه، إذ يجب رشها بما يعادل 8 أمتار مكعبة في الدونم الواحد.
وعن آلية التخلص من هذه المياه، تشرح المهندسة جوهر أن أصحاب المعاصر يتعهدون في أثناء إقامة المعصرة بوضعها في أحواض إسمنتية كتيمة، ومن ثم ترحيلها إلى مكان مناسب كحرم الحراج أو مناطق غير زراعية، ولكن هذه الآلية تعيبها تجاوزات أصحاب المعاصر أنفسهم، وصعوبة ضبطهم، إذ يجب أن تكون هناك جهة مهمتها جمع المياه من المعاصر مقابل رسوم معينة وطرحها للاستثمار لإنتاج الأسمدة العضوية أو الغاز الحيوي أو استخدامها للري.
لكن أصحاب المعاصر يرفضون هذه التهم، ويشرح أبو غدير وهو صاحب معصرة في ريف حماه، أنهم لا يجرؤون على رمي مياه الجفت في المجاري أو الأنهار خوفاً من الإغلاق، كما أنها تحقق لهم عائداً جيداً، إذ تتم تنقيتها وبيع المواد الناتجة منها وهي تُستخدم للتدفئة، أما بقية المياه فتوضع في أحواض كتيمة وتُترك للتبخر في الصيف، كما يُستخدم جزء منها لري الأراضي الزراعية.
ويوضح المتحدث أن مياه الأمطار تجرّ معها عادةً مخلفات العصر الموجودة في ساحة المعصرة، وهي ليست أبداً مياه جفت، وبرأيه لو أن مياه الجفت تخلص منها أصحابها بشكل غير نظامي، فهي ستلوث المياه الجوفية والآبار، وهو تلوث لا يمكن إخفاؤه، ويمتد أثره لمسافات بعيدة.
من المياه الملوثة بمخلفات عصر الزيتون في محافظة طرطوس - تصوير علي إبراهيم
مخاطر عديدة وفوائد
يشرح محمد سلمان إبراهيم، وهو باحث في قضايا البيئة والاقتصاد البيئي، أن للجفت خطراً على الإنسان كيفما وصل إليه، كما أنه يُعيق نشاط الكائنات الحية ويؤذيها، وتشكّل المواد الحمضية خطراً على الأراضي الزراعية والمناطق الحرجية، كما أنها ترشح إلى الحوض الجوفي، بسبب وجود طبقات جيولوجية ذات فوالق وصخور متصدعة ومتشققة.
ويشرح إبراهيم أضرارها على المياه، بأنها تسبب تراجع نسبة الأوكسجين فيها، وتزيد العكارة والمواد العالقة والأملاح المنحلة فيها، كما تزيد نسبة المنغنيز والرواسب والكبريتات، وتجعل المياه أكثر قساوةً ما يؤخر عملية طهي الطعام ويغيّر مذاقه، فيما تزيد حموضة المياه بفعل حمض الكاربوليك وارتفاع قيمة PH وكبريت الهيدروجين والعناصر الملونة في المياه، وتزداد نسبة الأسيد تبعاً لنوع المعاصر، بالتزامن مع نوع الأشجار والتربة والظروف المناخية والتضاريس، وظروف عقد الثمار ونوع المادة التي يخزَّن فيها زيت الزيتون وتعرّضه لأشعة الشمس.
يمكن استثمار هذه المياه في حال ضُبطت آلية تجميعها، مع مراقبتها بشكل جيد وتخصيص جهة لإدارتها، لأنه يمكن استخدامها في الري والرش بين أشجار الزيتون بنسب محددة، فهي غنية بالبوتاسيوم والمغنيزيوم وغيرهما من العناصر المفيدة للتربة
وتزداد كمية مياه الجفت وتتراكم مخاطرها عاماً بعد آخر، مع زيادة الكمية المطروحة من دون علاج، ما يجعل المياه والأراضي التي تصل إليها خارج دائرة الاستثمار.
لكن يمكن الإفادة من مياه الجفت ومخلفات عصر الزيتون، إذا أُحسن استخدامها مرّةً واحدةً كل 8 إلى 10 سنوات، بطرحها على التُرب الزراعية البور أو التي فيها أشجار مثمرة متباعدة حتى لا تتأثر الجذور وأوبارها الماصّة، بشرط ترك الجفت راكداً في خزانات أو برك لمدة لا تقل عن يومين، والشرط الآخر ابتعاد مصبّات الجفت 1،000 متر عن مصادر المياه والتجمعات السكنية.
وفي حين تشكّل أملاح الجفت ودهونه وحموضته عائقاً أمام استخدام رواسبه كسماد، يمكن الإفادة منه بإضافته إلى ترب الغابات المتدهورة والتي تعاني من كثافة عددية لمرّة واحدة كل عقد من الزمن، أو إضافته إلى أراضٍ متصحرة أو ترب ملحية تُزرع بالشعير أو البندورة أو بمحاصيل تتحمّل الملوحة.
ويختم الباحث إبراهيم، بأنه ينبغي إخضاع الجفت إلى مزيد من الدراسات والأبحاث، واعتماد طرق علمية للتعامل معه بعيداً عن الشائعات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...