"يا فرنسا قد مضى وقت العتاب"؛ على إيقاع هذه الكلمات جرت مراسم استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في تموز/ يوليو من العام الماضي، ضمن زيارة دولة الجزائر استغرقت ثلاثة أيام. النشيد الذي كان مثار جدل حاد في فترات تاريخية سابقة، بسبب هذا المقطع تحديداً، الذي أثار "غضب فرنسا" واعترض عليه الوفد الفرنسي المفاوض، قبيل توقيع معاهدة "إيفيان" مع الحكومة الجزائرية المؤقتة حينها التي اعترفت باستقلال الجزائر، لكن طلبها رُفض.
ثم حُذف في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، خلال ثمانينيات القرن الماضي، ثم أعيد نهائياً عام 1995، بقرار من الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال. دعوة الحذف ذاتها لـ"آية فرنسا"، تبنّتها جمعية جزائرية تُدعى حركة الشباب إيفيلي (MJE)، برئاسة نهلة بوحيرد، والهدف منها "إصلاح الدموع" و"تهدئة الذكريات".
مزاعم حول ملكية النشيد
قضية خلافية أخرى، تتعلق بالنشيد ظهرت إلى العلن في سنوات سابقة، وهي حقوق الملكية والنشر. ففي الثاني والعشرين من شباط/ فبراير سنة 2021، نشرت صحيفة "لوبزيرفير"، بقلم حكيم عارف، أن حقوق التأليف "في أيدي الشعب الفرنسي"، وأن "الدولة الجزائرية تدفع الحقوق في كل مرة تبثها فيها".
وبحسب SACEM، أي "الجمعية الفرنسية للمؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى"، فإن النشيد هو ملكية موسيقية محمية، وأصحاب الحقوق الحقيقية هم المنظمون الفرنسيون: ليونيل إستبالييه، وجيرارد ثوريت، وأنطوان لوتشيني، بالإضافة إلى دار نشر مقرها لوكسمبورغ، من دون أن تقدّم الصحيفة في بيانها أي دلائل تاريخية على ملكيتها المزعومة، والتي لا تضع كلاً من الملحن المصري محمد فوزي، والشاعر مفدي زكريا، ضمن قائمة أصحاب الحقوق في النشيد.
تعود المسألة ببساطة، إلى أن موسيقى النشيد "قسماً"، كانت مسجلةً في زمن الاستعمار الفرنسي. بعد الاستقلال، قررت السلطة الجديدة في الجزائر جعل القصيدة التي تحول اسمها من "اشهد" إلى "قسماً"، إلى نشيد وطني -باستثناء المقطع الذي يَرِد فيه اسم فرنسا- قبل أن يجري تعديله وتأهيله في السنوات الأخيرة، من دون أن يفكر أحد في شراء حقوق الملكية، حتى أثيرت القضية مجدداً.
هل حقاً حقوق تأليف النشيد الوطني الجزائري في أيدي الشعب الفرنسي، وأن الجزائر تدفع الحقوق في كل مرة تبثها فيها؟
استكمال السيادة
هذه المزاعم تعود إلى سنوات سابقة، وقد استدعت الرد غير مرة. ففي حزيران/ يونيو 2019، نشر موقع TSA-Algerie الناطق بالفرنسية، تقريراً للصحافي فيصل مطاوي بعنوان "من يملك حقوق النشيد الوطني قسماً؟".
فحوى التقرير تُبين أنه في العام 2017، دعا المكتب الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة (ONDA)، ورثة الملحن المصري محمد فوزي، لإعطاء اسمه للمعهد الوطني العالي للموسيقى في العاصمة الجزائر، ومنحه وسام الاستحقاق الوطني. خلال هذه الدعوة، تم التنازل من ورثة الملحن عن حقوقهم المعنوية والأدبية والتراثية ونقلها إلى الدولة الجزائرية.
في العام نفسه تحديداً، وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وقّع سليمان الشيخ وشقيقتاه، وهم من أبناء مفدي زكريا، على وثيقة تؤكد انتقال الملكية الأدبية والمعنوية إلى الدولة. وقد "تم إبلاغ الـSACEM الذي هنّأنا"، كما يؤكد بيان المكتب الجزائري. وتلك الحقوق كانت تُدار منذ ستينيات القرن الماضي بإشراف فرنسي بسبب عدم وجود هيئة وطنية تُعنى بهذا الخصوص، وقد تم نفي الأخبار الواردة حول دفع الجزائر أي مبالغ للمنظمة الفرنسية لمعرفة الأخيرة بـ"القيمة الرمزية" لـ"قسماً".
هذه التأكيدات جاءت وقتها إرضاءً للحساسية الوطنية تجاه الحقبة الاستعمارية، وكل ما هو "فرنسي". وما تضمنته القصيدة الشهيرة من عبارات تحدٍ وكبرياء دُفع ثمنها غالياً حتى أصبح النشيد ذاته جزءاً من الميراث الثوري للجزائر، ومن "التابوهات الوطنية" التي يُمنع المساس بها، لا سيما بعد استعادة الجزء المستقطع المتعلق بفرنسا.
ووفقاً للقواعد الدولية بهذا الخصوص، يقع العمل الفني أو الكتاب أو أي ابتكار آخر في الملكية العمومية إلى ما بعد خمسين عاماً من تسجيله، ولذلك تحركت الـONDA، بالتفاوض مع نظيرتها الفرنسية SACEM، لنقل ملكية النشيد الوطني في أطار ما يُسمى بـ"استكمال السيادة"، وهو بالفعل ما حدث في أثناء احتفال الجزائر بالذكرى الثامنة والستين للثورة الجزائرية، وتمت استضافة شاعرها مفدي زكريا كـ"شاعرٍ للثورة"، وتكريمه.
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
و طويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب
فاستعدي وخذي منا الجواب
كُتب بحبرِ الدم
يوصَف مُفدي زكريا بأنه أحد "الأبطال القوميين"، والمؤلف اللامع للنشيد الوطني الذي جمع أقاليم الجزائر في آيات نشيده الخمس، موحداً إياهم معنوياً حتى يومنا هذا. أما اسمه الحقيقي فهو الشيخ زكريا بن سليمان بن يحيى، وُلد وترعرع في بني أزغن، وهي بلدة صغيرة في منطقة مزاب في ولاية غرداية في حزيران/ يونيو سنة 1908. كذلك دُفن في مسقط رأسه في السابع عشر من آب/ أغسطس سنة 1977.
درس زكريا في شبابه في جامع الزيتونة الشهير في تونس. وبدأ الكتابة لصالح النضال الوطني لبلاده في مجلات الوفاق والحياة والمجاهد. دخل العمل السياسي منذ عام 1930، منتسباً إلى إتحاد طلاب شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب، لينضوي في عام 1955، في صفوف جبهة التحرير الوطني، ما كلفه النفي والتنقل بين خمسة سجون استعمارية.
بدأت قصة كتابته للنشيد في نيسان/ أبريل سنة 1955، حينما كان قابعاً في سجنه، بربوسا أو سركاجي السيئ السمعة في العاصمة الجزائر، واتصلت به الناشطة رباح الأخضر، بتكليف من الأخوة، أي آباء الثورة، وتحديداً كل من عبّان رمضان (صاحب فكرة ترنيمة الثورة)، وصديقه يوسف بن خدة. فوفقاً للأديب والمجاهد والوزير الجزائري الأسبق لمين بشيشي، الذي صرح في حوار للإذاعة الثقافية الجزائرية في الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو سنة 2020، أن عبّان وضع ثلاثة معايير أساسيةً لكتابة النشيد تمثلت في وجوب تضمّنه الدعوة إلى الالتحاق بصفوف جبهة التحرير، وعدم ذكر شخص بعينه في ثنايا النص، والأهم "إبراز الوجه القبيح لفرنسا الاستعمارية في أبياته الشعرية".
وصل الأمر إلى مفدي، في سجنه حيث لم يجد حبراً أو قلماً أو ورقةً لكتابة مقاطع نشيده التي تُعرف أيضاً بـ"الآيات"، فلم يجد سبيلاً إلى كتابته غير تدوينة بدمه مستخدماً "حيلةً ثوريةً" لتحقيق ذلك عبر كتابته
على حائط السجن، إذ استخدم دماً أساله من يده اليسرى ليكتب مطلع الترنيمة: "قسماً بالنازلات الماحقات"، حتى "ولقد عقدنا العزم أن تحيا الجزائر"، ولتحمل آمال أبناء الشعب الجزائري الحالمين والمصممين على دحر المحتل وطموحاتهم ويحثّهم على تحقيق الحرية والاستقلال لوطنهم. وقد تم اعتماد الترنيمة الثورية كنشيد وطني للجزائر منذ عام 1963، أي بعد عام واحد من انتصار الثورة.
تلحينٌ مصري للنشيد الجزائري
بعد الانتهاء من كتابة النشيد، عُهد إلى مفدي أيضاً باقتراح اسم قدير ومتمكن لتأليف الصيغة النغمية واللحن بعد خروجه من السجن. وكانت أولى المحاولات عام 1957، في استديوهات الإذاعة التونسية بعد وضع لحن له من قبل الملحن الجزائري محمد طوري، ولكنه لم يُعجب قادة الجبهة لافتقاده الحماسة المطلوبة.
المحاولة الثانية كانت للملحن التونسي محمد تريكي، وكان مصير اللحن كسابقه، قبل أن يتم الاتصال بالملحن المصري الشهير محمد فوزي، المعروف بـ"اسكتشاته"، وإرسال اللحن بشكل سرّي إلى مصر، ليتم التوافق على اللحن الذي وضعه الأخير. وفقاً لبشيشي في حواره آنف الذكر مع الإذاعة الثقافية الجزائرية، فقد أوضح أن تغيير اللحن غير مرة كان لرغبة عبّان رمضان ومن معه في منح الترنيمة "نفساً يقترب من الأغنية الثورية من جبالنا"، بحيث يكون "لحناً مجنِّداً للجماهير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
بلال -
منذ ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ ساعتينالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 4 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!