كل شخص تقريباً، أو بشكل أدق كل منتمٍ يهمّه انتماؤه، وباللاشعور يتابع مجموعة أو صفحة فيسبوكية عن مدينته، أو قريته، حتى لو يعيش بعيداً عنها أو عن البلاد كلها. مدينتي مسقط رأسي جميلة بعيني كطبخ أمي الذي أشتاق، كأرجوحة أبي يشدّها لنا في العطل الصيفية، كالحلوى الملونة على طاولة آذن المدرسة في غرفة رطبة ضيقة.
أفعل ذلك أيضاً، بالرغم من كل التفاهات التي تنشر، إلا أني لا أقوى على مغادرة تلك المجموعة. تتقافز مناشيرها المحبّبة كلما أضاع أحدهم مفاتيح أو بطاقة عسكرية. أتبسم والمخيلة تنقل لي صور أزقتها وشجر الزيتون الذي يفرض أغصانه فوق رؤوس المارين. شأنه شأن كثير من الأشياء التي حلّت موقعاً في غير مكانها، إعلانات تنافسية لبائعي الخضار، صور أراضٍ مازالت تتنفس بعيداً عن البيتون برسم البيع... ومناشير واعظة تحثّ على الفضيلة.
في الأمس، لفتني منشور اختار مجهول الهوية أن يكتبه فوق جدارية حمراء، يطالب شيوخ المساجد، بل ويرجوهم، بأن يكرسوا خطب الجمعة والدروس الدينية لحثّ الرجال على كبح تبرّج زوجاتهم وبناتهم في الطرقات العامة. أجمعت التعليقات على ضرورة الأمر، وهناك من غالى فطالب بتطبيق ما يجري الآن في ليبيا، علماً بأن كل نساء بلدتي يلتزمن بالحجاب.
فكرت قليلاً: ماذا لو كان من ضمن ديمغرافية بلدتي تنوّعات أخرى تبيح سفور الشعر للنساء؟ لا أظن أن مجهول الهوية سيجرؤ على التوجّه بكلمة لإحداهن، لكن ماذا لو أُعطي السلطة، أي نوع من السلطة، وليكن الأمر بمعروف... هل سيكتفي بسلطة منحه إياها العالم الأزرق بالمجّان ليصيغ منشور فيسبوكي يصفق له محبو المعروف على جرأته، ويتمنون أن يصل كلامه للغاية النبيلة؟
هل نحمد الله على حظنا الذي وهبنا الحياة هنا في بلد يقارب العلمانية نوعاً ما؟ أم نشتم حظنا الذي جعل من فيسبوك منبراً للمتزمتين الذين لا يفهمون من الدين سوى الاستقواء على نون نسائهم لوأدها؟
هل نحمد الله على حظنا الذي وهبنا الحياة هنا في بلد يقارب العلمانية نوعاً ما؟ أم نشتم حظنا الذي جعل من فيسبوك منبراً للمتزمتين الذين لا يفهمون من الدين سوى الاستقواء على نون نسائهم لوأدها؟
لم أرَ منهم من يستنكر قتل أطفال غزة ويهدّد الشياطين الساكتة بنار السعير، ولا حتى ما يحدث اليوم في لبنان. حسناً ربما يكرّسون وقتهم للشأن الداخلي، ماذا عن فسادٍ يفترش الأرصفة؟ حفرات الصرف الصحي التي فاضت بالرشاوى، المدارس لم تعد سوى محشر، والمشافي عمرت صوامع للكفر طاولت بها عنان السماء السابعة. واليوم سيلقى الرجال في نار جهنم حكماً لأنهم ساكتين عن تبرج نسائهم، أجل فكل راع مسؤول عن رعيته!
قال لي أحدهم ذات يوم وقد بدأت الثورة بالتسلّح: "لا تصدقي معدناً يلمع، فإذا ما انتصروا لن تري هذا المشهد مطلقاً"، وأشار ببنانه لامرأة سافرة تقود سيارتها في ساحة العباسيين بدمشق. لا خيار لنا إذن سوى واحد من أمرين أحلاهما مرّ؟
لم تكن طالبة إيران الجامعية وحدها، هناك رجال خلعوا ما يسترهم ومشوا عراة في أسواق دمشق، منهم من كتب بأنهم كفروا من ضنك العيش، ومنهم من أشفق عليهم، فمن يعيش في التهلكة يخسر عقله، هل العريّ سبيل للاحتجاج؟ هل هو صرخة في وجه الطغيان؟ ربما لا يملك أحدهم سلطة سوى على ثيابه، إلا إن كانت ثياب مؤنثة، حينها ستُحرق صاحبتها في الدنيا والآخرة.
ففتاة إيران اليوم هي ذاتها في الأمس، عاجزة عن التصدّي لقدرها، عليها أن تأتمر بالمعروف، حتى وإن لم يُنهى من حولها عن المنكر. لماذا لا يغضّ صاحب الهوية المجهولة البصر كما أمره الدين الذي ينادي باسمه لكبح التبرّج؟ لماذا لا يتقبل الاختلاف الذي من شأنه ألا يلغي؟ والأهم لماذا لم يتجرّأ أحد ويرد عليه بتعليق يخلع فيه ثياب التسلط المحتمي بإبط الدين.
أليست غاية الدين هي السيطرة على النفس لا على الآخرين كما قال الرومي، أم أن قدر نون النسوة أن تقبع في أقسى اليمين أو اليسار؟ لمَ لا تنتقب وتضع حجابها في فرنسا كما يحلو لها؟ ولماذا لا تخلعه في إيران أيضاً كما يحلو لها؟ وكي لا يتهمني البعض بالانغلاق، ولا حتى بالتحريض على الفجور، إذ إن في كلا الندّين تطرف أعمى، بالتأكيد أن لكل مكان حرمته، فالحرم الجامعي مثلاً وفي كل العالم لن يستقبل طلابه بلباس البحر ولا حتى بلباس النوم؛ لكن الفتاة لم تكن لتتعرّى لولا استجابة جسدها لانتفاضة بوجه الضغط المتعدي على حريات الإنسان. باسم الدين فرضوا قانون الحجاب والعفّة غرامات مالية وأحكام سجن قد تصل لعشر سنوات، ألم يأتي الدين بمقولة: ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؟
لم تكن طالبة إيران الجامعية وحدها، هناك رجال خلعوا ما يسترهم ومشوا عراة في أسواق دمشق، هل العريّ سبيل للاحتجاج؟ هل هو صرخة في وجه الطغيان؟ ربما لا يملك أحدهم سلطة سوى على ثيابه، إلا إن كانت ثياب مؤنثة، حينها ستُحرق صاحبتها في الدنيا والآخرة
عبر العصور تدنّت منزلة المرأة من الآلهة المباركة شيئاً فشيئاً، حيناً تحمل إثم الخطيئة، وتارةً هي رجل غير كامل، لا إرث لها، بل قفل العفّة الذي يُثقل خصرها كي لا تجرّ أحد للرذيلة. وفي عصر التحضر والقوانين تنقّلت بين أحكامه، فمن قانون إنكليزي يبيح للرجل بيع زوجته أو إعارتها، إلى حرمانها من حقّ التصويت بعيد الثورة الفرنسية، لحرمانها من قيادة السيارة لوقت قريب في السعودية، انتهاك جسدها بالختان وبتزويج القاصرات، سوق نخاسة الأيزيديات الداعشي، وصولاً لاستمرار قانون تخفيف عقوبة الجاني في حال كانت جريمته تخصّ الشرف!
وأنا هنا لا أحصي ولا أكثّف جرعة الكره ولا أسلّط بقعة ضوء على مشكلة فتتضخم بفعل الظلّ المنعكس، هي شذرات نسوية تنتابنا نحن النساء حيث حالفنا الحظ وخُلقنا بأكثر الحقب التاريخية تقدماً. تضمّ أكبر عدد على مرّ العصور من منظمات داعمة لحقوق الإنسان والمرأة والمستضعفين من الأطفال واللاجئين وحتى الحيوان!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم