تبدو القرون الثلاثة الأولى من عهد السيطرة العثمانية على سوريا، خاصةً ساحلها، أشبه بثقب أسود، نظراً إلى قلة التفاصيل والمعلومات لدى المستشرقين الواردة عنها، وحتى في الذاكرة الشعبية الضعيفة في تلك الفترة، والتي عادت لتنشط بدءاً من أوائل القرن التاسع عشر.
غالباً يعود الأمر إلى قلّة الاهتمام بالوثائق والدفاتر العثمانية، فهي المصدر الأهم لتلك المعلومات، نظراً إلى ندرة وجود مؤرخين أو رحالة عرب في تلك الفترة، كالمقريزي وابن بطوطة... فقد كان الشرق عموماً يعيش عصراً ظلامياً (قروطسياً)، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ.
وهنا يعود المؤرخ الكندي ستيفان وينتر، صاحب كتاب "تاريخ العلويين" إلى الواجهة. فستيفان وينتر الذي عمل أستاذاً في جامعة "بيلكنت" في أنقرة Bilkent University، اطّلع على كمّ عظيم من الوثائق الرسمية العثمانية، وبرغم أنني وجدته عثماني الهوى، إلا أنه يبقى المرجع الأكثر ثقةً لفهم تلك المرحلة الغامضة من تاريخ علويي الساحل السوري.
حروب العلويين
التمرّد الأول
تسود في الذاكرة الشعبية قناعة مفادها أن مجازر طائفيةً كبرى ارتكبها العثمانيون بحق الشيعة عموماً، والنصيريين منهم خصوصاً، في مدينة حلب، وذلك مع دخول العثمانيين سوريا سنة 1516، إثر معركة مرج دابق، وتسببت في هجرة أقوام علوية جديدة إلى جبال الساحل.
لا يجد وينتر، هذا الكلام سليماً، فهو يستند إلى أن أغلب سكان حلب من الشيعة انتقلوا إلى المذهب السنّي خلال العهد المملوكي، فحلب كحاضرة كبرى لا يمكن التساهل مذهبياً مع سكانها، وإن بقي بعض وجهاء المدينة ذوي ميول شيعية مثل الأشراف. وفي ما يخصّ العلويين النصيريين، كما أسلفنا في الجزء الأول، فالهجرات الكبرى حدثت عندهم قبيل وبعيد بداية القرن الثالث عشر، ومنها طبعاً هجرات من حلب وجوارها كحرّان.
تسود في الذاكرة الشعبية قناعة مفادها أن مجازر طائفيةً كبرى ارتكبها العثمانيون بحق الشيعة عموماً، والنصيريين منهم خصوصاً، في مدينة حلب، وذلك مع دخول العثمانيين سوريا سنة 1516. لا يجد وينتر، هذا الكلام سليماً، فهو يستند إلى أن أغلب سكان حلب من الشيعة انتقلوا إلى المذهب السنّي خلال العهد المملوكي
بل على العكس تماماً، وهنا يستند وينتر إلى دفاتر الضرائب العثمانية وهوامشها؛ خاصةً ضريبة الدرهم للرجال (المملوكية)، والتي استمرت مع العثمانيين، فقد بدأ التمرّد العلويّ مع غزو العثمانيين لسوريا، أو بعده بقليل، سنة 1518، وظهر بشكل أساسي في قضاء جبلة، ولم يمتد إلى أماكن بعيدة، إذ تركز في قرى عامودا (العامود)، وبكراما، وبسين، وحلة عارة، ومتور، وقرن حلة، وريحانة متور، وكان التمرد قوياً وطويلاً امتدّ زمنياً حتى سنة 1547. وكذلك جاء الردّ عليه قاسياً، فقرية إستفالين مثلاً، اختفت؛ أُحرقت تماماً.
لا يذكر وينتر أسباب التمرّد، لكنه يشير إلى عمليات تهجير من الساحل إلى حلب، كي يبقى المتمردون تحت أعين السلطة، من دون أن يذكر مصير المهجّرين الجدد وما إذا غيّروا مذهبهم أو لا.
ويشير وينتر أيضاً إلى أنه برغم استخدام الدفاتر العثمانية للمصطلحات الطائفية (غلاة، نصيريون، متمردون... إلخ)، فقد استخدموا لأول مرة التقسيمات العشائرية "من قرى المتمردين الكلبيين النصيريين"، حسب "تاريخ العلويين" (ص 135). وهنا نستنتج أنه برغم وحشية الردّ العثماني، إلا أنهم حاولوا منذ اللحظة الأولى إدخال العلويين في النظام البيروقراطي للسلطنة، وذلك كرعايا دافعي ضرائب، لكن منقوصي المواطنة.
تشكّل طبقة "ملتزمي الضرائب" المقدّمين
منذ أواخر القرن السابع عشر، حصل تغيّر نوعي في صفوف قيادات المجتمع العلوي، فانتقلت القيادات المحلية ولو بشكل جزئي، أو كلّي أحياناً، من كونها قيادات روحية ذات صبغة دينية صوفية، لتصير قيادات أكثر علمانيةً. يعود هذا الأمر إلى التماسّ المباشر مع الجهاز البيروقراطي للسلطنة العثمانية، فقد ظهر أفراد علويون كملتزمين، أي "جباة ضرائب"، لصالح الدولة "العلية" العثمانية، وكان "التزام المالكانة" التزاماً مدى الحياة، الأمر الذي خلق سلالات حاكمةً في سوريا؛ ليست سنّيةً فحسب كآل العظم، بل علوية في طول المناطق العلوية وعرضها، وفي الحقيقة لم يكن نفوذهم سوى تجسيد لسلطة الدولة "العليّة" في إسطنبول.
العائلات صاحبة الامتيازات الضريبية تلك، لم تصل إلى الزعامة أو ما دُعي بـ"المقدّمين"، من تدافع أو اصطفاء ذاتي في المنظومة الاجتماعية المحلية، بل حققت تلك القفزة جرّاء ارتباطها بالإدارة الإقليمية العثمانية، وفي النتيجة ظهرت "طبقة جديدة من الأعيان المحليين، ليست طبقةً أرستقراطيةً كاملة النضج"، والتعبير لوينتر، فهي برأيه "امتدادات قروية للمؤسسة الإمبراطورية العسكرية والإدارية" (ص 198).
كل تلك التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها العلويون كانت عملياً تحت إشراف ولايات الدولة العثمانية؛ كولاية طرابلس وكذلك لا ننسى ولاية دمشق غير البعيدة والمنافسة اللدودة لسلطات ولاية طرابلس وصيدا أحياناً، وقامت على علاقات حتماً شابها الفساد والتقاتل أحياناً. لا يمكن فهم طريقة إدارة الدولة العثمانية بالقياس إلى شكل الدول المركزية الحالية، لأنه كان أقرب إلى ممالك العصور الوسطى -أقلّه حتى مرحلة "التنظيمات" التي تلت خروج المصريين من سوريا- أي "لامركزية" تستند إلى الولاء والاستعانة بالزعامات المحلية، وخلقها أحياناً.
بين بربر آغا وصقر محفوض الشبلي
دُمغت حياة العلويين وكامل الغرب السوري، بهذين الشخصين لمدة تقرب من نصف قرن، نتيجة اعتمال قرنين من طريقة الحكم غير المباشر للسلطنة، المرتكز على صلاحيات غير محدودة للولاة، وقانون الالتزام بجباية الضرائب، ومع نهايتهما بدأت السلطنة بتنفيذ قانون جديد.
فصقر محفوض الشبلي، كان سليل أقوى العائلات العلوية أواخر القرن الثامن عشر، آل شمسين حكّام صافيتا، الذين وصلوا إلى تلك المكانة والحظوة عبر عقود طويلة من تراكم الثروة والنفوذ، كونهم ملتزمي جباية الضرائب لكامل الجزء الجنوبي من جبال اللاذقية.
لُقّب صقر محفوض (توفي عام 1814)، وأحياناً تُكتب محفوظ، بشيخ جبل النصيرية، وكانت له قلاع تخضع له، وجيش يأتمر بأمره، وعلاقات وتحالفات تمتد على مساحة سوريا الطبيعية، من والي الشام إلى الأمراء الشهابيين، حتى امتدت علاقاته إلى القناصل الأوروبيين، ويعدّه مؤرخون كثر، أهم شخصية علوية من أيام المكزون السنجاري وصولاً إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، أي أنه تجاوز حتى الشيخ صالح العلي.
أما مصطفى بربر آغا، متصرف طرابلس العثماني، فبرغم أنه من عوام سكان طرابلس، لكنه بفضل طموحه وجبروته وصل إلى أعلى المراتب، وشخصيته القلقة والشرسة تذكّرني بالحجاج الثقفي، وكأنه نسخة مصغّرة عنه، ومكمن الشبه بينهما ليس فقط في القسوة وكره الرعية، بل في إصرار السلطات في إسطنبول على استخدامه في مواجهة منطقة بدأت تظهر التمرد والعناد، كحال العراق أيام الأمويين. محاولات التمرد والتهرب من دفع الضرائب، بدأت من أيام محفوض الشبلي، والد صقر، وسبقت الحملات العثمانية التأديبية، بربر، فنحو سنة 1769 كانت أولى الحملات وقد عدّ منير صقر في كتابه "تاريخ صافيتا" أنها قبله بنحو عشر سنوات.
بدأ بربر حياته جندياً انكشارياً، حيويته ونشاطه أجبرا والي عكا أحمد الجزّار، على تسميته حامياً لقلعة طرابلس، وهنا أخذ لقب آغا، واستطاع نيل شعبية حقيقية في مدينته طرابلس لمعارضته زيادة الضرائب على السكان، والذود عن المدينة في وجه هجمات القبائل.
عملياً بقي بربر باشا، لثلاثة عقود واجهة السلطة العثمانية التي يتعامل معها العلويون، فمنذ أن ترقّى وظيفياً وأضحى "قائم مقام"، أي نائباً للوالي في طرابلس واللاذقية، أظهر عداءً وعنجهيةً. يذكر القنصل الفرنسي عن بربر، أنه "لم يراعِ أي حدود. فسابقاً كان يكتفي بأن يرسل إلى أصحاب الإقطاعيات خطابات التفويض الخاصة بهم، غير أنه الآن يطالبهم بالقدوم إلى طرابلس لاستلامها وكأنه باشا. وقد جاء شيخ النصيرية الذي كان أول من تمّ استدعاؤهم على رأس خمسين فارساً ليقدّم فروض الطاعة"، عن وينتر (ص 255)، نقلاً عن مراسلات القنصلية الفرنسية في طرابلس.
حروب العلويين
الحملة الثانية، وكانت أول مواجهة بين بربر وصقر محفوض، وقعت سنة 1806. وقتها أحرق جند بربر أراضي كثيرةً، وكان الوقت وقت حصاد، ثم نهبوا المنازل ونزلوا عند نهر الأبرش (تاريخ صافيتا، ص 194)، ما اضطر صقر محفوض إلى التفاوض معه ودفع مبالغ إضافية بعد خيانة حلفائه (المرجع نفسه).
الحملة الثالثة وقعت سنة 1806، وكانت بعد أن سيطر المقدم صقر محفوض على القدموس، ولم تختلف في النتائج عن سابقتها، لكنها عُدّت نجاحاً لصقر محفوض، وإن انسحب من القدموس كونها انتهت إلى اتفاق يقضي بعدم اعتداء متبادل مع أمراء القدموس الإسماعيليين.
الحملة الرابعة وقعت سنة 1808، وكانت بقيادة الكنج يوسف باشا والي دمشق، واستمرت أكثر من عام، واضطر صقر بن محفوض إلى تسليم ابنه وأخيه للوالي لعقد السلام، لكن هناك روايات تتحدث عن تسليم صقر نفسه وبقائه في السجن لسنوات.
عام 1811، وصلت إحدى الحملات وكانت بقيادة بربر إلى اللاذقية، حيث قتل المئات وأحرق عشرات القرى. وهكذا استمرت حملات مكافحة التمرد بمعدل شبه سنويّ، حتى بعد وفاة صقر محفوض، وتسلّم ابنه دندش، وكان آخرها سنة 1819.
انتهت تلك المرحلة القاسية بأن أعلن دندش بن صقر محفوض وإخوته، التحول إلى المذهب السنّي، وفعلاً بنوا جوامع إضافيةً في قضاء صافيتا وجوارها، وهذا ما يفسّر الهدوء النسبي قبل عاصفة غزو إبراهيم باشا المصري، لسوريا في مناطق صافيتا وجوارها، لكن الجزء الشمالي، أي جبلة واللاذقية، ظلّ ملتهباً.
لا يمكن تلخيص تلك النزاعات المتكررة بالسمات الشخصية لبربر وصقر محفوض فحسب، بل كانت إعلاناً عن أن طريقة الحكم السابقة لم تعد مقبولةً، لا للزعامات التي وجدت نفسها أكبر من "زلمت" أي تابعاً للمتصرف، ولا للفلاحين الذين عرفوا أهميتهم في الدورة الاقتصادية، خاصةً مع زيادة انتشارهم وأعدادهم. وبرغم أن الاقتصاد أحياناً يصلح ما أفسدته السياسة، فمدينة اللاذقية عرفت نهضتها الجديدة بفضل انتشار زراعة التبغ وتصديره من مينائها، وفعلاً عانت الأمرّين نتيجة حملة بربر على ريفها، لكن أنتجت تلك الحوادث والأجواء المسمومة وإرهاب السلطة، كاستخدام الخازوق وإرسال رؤوس المتمردين، ثم عرضها على أبواب المدن البعيدة كعكا وإسطنبول، تراكم الحالة المذهبية وزيادة حدّة التطييف، وهو أمر كان يروق لبربر ومن خلفه.
من أسباب تلك الوحشية المفرطة ليس فقط شخصية بربر، بل شعور عام لدى السلطات العليا في ذاك الوقت بأن السلطنة بدأت تتهالك وتتفكك، خاصةً مع ثورة اليونان التي انتهت باستقلالها، وقيام الدولة السعودية الأولى (الوهابية)، فكان العنف شديداً خاصةً مع منطقة رخوة قريبة من المركز.
ومن الغريب أن تلك الأحداث الموثقة التي هي حتماً الأكثر بطشاً في تاريخ العثمانيين، سقطت من الذاكرة الشعبية، لصالح روايات مؤامراتية ضعيفة عن سلطان (السلطان سليم الأول)، حكم الشام أربع سنوات فقط؛ قضى جلّها في مطاردة المماليك في مصر، والسيطرة على الحجاز، وتقلّد لقب خادم الحرمين -توفي السلطان سليم الأول عام 1520-.
الحملة المصرية على سوريا
لا يمكن فهم ردة فعل عموم العلويين على حملة جيش محمد علي بمقاييس اليوم، فمحمد علي برغم أنه أدخل الدولة الأوروبية الحديثة ذات الشكل الإمبراطوري "النابليوني"، والتي تؤمن بسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وتؤمن بمواطنة متساوية لجميع المواطنين، إلا أنّ استعجاله في تطبيق تلك الإصلاحات سبب حنقاً كبيراً ليس فقط في جبال الساحل السوري، بل في كثير من الأرياف المهمشة كنابلس والمناطق الكردية في حلب وجنوب لبنان ومناطق الدروز. فرفع الضرائب الكبير وسحب السلاح من سكان الأرياف والتجنيد الإجباري، كانت أموراً ملموسةً أكثر من الوعد بمواطنة كاملة وإنشاء مدارس.
لكن تبقى ترقية بربر آغا إلى باشا -المكروه جدّاً علوياً- من قبل إبراهيم باشا، بعد أن نقل بربر ولاءه من العثمانيين إلى المصريين، السبب المباشر للتمرد، فبربر أعلن انضمام طرابلس إلى المصريين في حين كان إبراهيم باشا ما زال يحاصر عكا.
التمرّد الأول والمجزرة في حق آل شمسين
في شباط/ فبراير 1832، اتصل المقدم ضاهر ابن صقر محفوض -يستخدم اسم صافي صقر أحياناً وهو الشخص نفسه- وهو ملتزم ضرائب صافيتا، بعثمان باشا اللبيب، حاكم طرابلس المعيّن من السلطان العثماني، ووعده بثلاثة آلاف مقاتل في معركة استعادة طرابلس من بربر باشا. لكن دخول قوات الأمير بشير الشهابي حليف إبراهيم باشا المصري إلى جانب بربر باشا، قلب المعركة لصالح الأخير، حيث أصيب ضاهر محفوض إصابةً قاتلةً، وهزم التحالف العلوي العثماني، وتولى التزام الضرائب خضر محفوض بعد أن ضوعفت سبع مرات.
في كتابه "تاريخ صافيتا"، يقدّم منير عبد الحميد صقر، روايةً أكثر دقةً عن معركة احتلال طرابلس الفاشلة، التي طالت بين كرّ وفر. لكن الأهم ما أشار إليه عن مصير آل شمسين؛ "ففي أوائل آب/ أغسطس 1834 (أي بعد سنتين من التمرد)، قام إبراهيم باشا بواسطة سليمان بيك، قائد جنده، بإلقاء القبض على خضر صقر مع بعض أقاربه، متهماً إياهم بالتحريض على الثورة والقيام بها مع أهالي المقاطعة، ولم يُعلم عنهم شيء من حينها إلا أنهم نفوا إلى قبرص مع عيالهم..." (ص 289، عن كتاب "إبراهيم باشا في سورية" لسليمان أبو عز الدين ص 183-184)، والغالب أنهم أُعدموا جميعهم في قلعة طرابلس، وهذا ما يؤكده حسان القالش في كتاب "قطار العلويين السريع" (ص 50).
التمرّد الثاني
يمكن اعتبار التمرد الثاني الأقوى والأكثر انتشاراً في تاريخ العلويين. بدأ في خريف 1834، حين جرّد الضابط المصري سليم بيك، حملةً لسحب السلاح. بدأت الحملة في 21 أيلول/ سبتمبر، وسيطرت بسرعة على مناطق عين شقاق، ومن الواضح أن الطريق بات سالكاً بجوار صافيتا بعد تصفية آل شمسين تماماً، ثم اتجهت الحملة إلى معقل الكلبية في ريف اللاذقية الجنوبي. غالبية القرى رفضت تسليم السلاح، وهكذا انتشر التمرد. المواجهة الكبرى الأولى كانت في منطقة البهلولية قرب اللاذقية، حيث اعترض عدد كبير من المتمردين رتلاً مصرياً متجهاً من حلب إلى اللاذقية، وانتهت المعركة بهزيمة للجيش المصري (وينتر ص285، من وثائق مراسلات القناصل في تركيا)، وبعد يومين انقضّ المتمردون على مدينة اللاذقية، التي كانت شبه خالية من الجند، وقوبل المتمردون العلويون بالترحاب من أهل المدينة السنّة الناقمين على الحكم الجديد، ودعموهم في الهجوم على المستودعات الحكومية ونهبها، ثم الهجوم على السجون وفتحها وإخلاء السجناء.
يمكن اعتبار التمرد الثاني الأقوى والأكثر انتشاراً في تاريخ العلويين. بدأ في خريف 1834، حين جرّد الضابط المصري سليم بيك، حملةً لسحب السلاح. بدأت الحملة في 21 أيلول/ سبتمبر، وسيطرت بسرعة على مناطق عين شقاق، ومن الواضح أن الطريق بات سالكاً بجوار صافيتا بعد تصفية آل شمسين تماماً
عاد المتمردون إلى قراهم الجبلية للدفاع بسرعة، فالأسوأ لم يأتِ بعد... ثم طوال شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، عانى الجيش المصري من مستنقع حرب "الغوار"، في مناطق جبلية قاسية، لم يألف التعامل معها، وما صعّب الأمور عليه تعاضد نادر بين أغلب المقدمين العلويين، خاصةً بعد سلسلة إعدامات قام بها سليم بيك في القرى القليلة المهادنة، ثم امتد التمرد إلى قرى الأكراد شمال اللاذقية، الذين سيطروا على جسر الشغور وأنطاكية بالتنسيق مع العلويين.
تأمّل العلويون مساعدةً حقيقيةً من الدولة العثمانية المشجعة فقط، ففي تعليق للرحالة الفرنسي بابتستان بوجلا، "كان بإمكان إمبراطور إسطنبول (السلطان العثماني)، دحر تابعه المرتد (محمد علي باشا) في سوريا بسهولة، لو كان أرسل جيشاً سنة 1834 لحماية أهالي فلسطين وسوريا الذين كانوا يمدّون أيديهم بالرجاء نحوه"، وينتر (ص 288)، عن كتاب للرحالة نفسه.
انتظر الجيش المصري وصول الدعم من حليفه الأمير خليل الشهابي، وفعلاً جاء آلاف المحاربين المتمرسين في قتال الجبال من جبل لبنان، واجتاح الجيش المصري المدعّم، "البهلولية" بسهولة، ثم اتجه إلى قلعة صلاح الدين، التي لاذ بها المتمردون، وكانت أيضاً معركة سهلة، ثم بدأ سليم بيك حملة نهب وحرق للقرى العلوية قريةً قرية. وبرغم محاولات مقدّمي الكلبية والمهالبية وبني علي (كبرى العشائر العلوية)، الاستسلام والصلح، لكن يبدو أن سليماً كان مصرّاً على النهب لسبب اقتصادي أيضاً، وهو ملء مخازنه بالقمح والشعير والعسل وأعداد كبيرة من المواشي من قرى العلويين. وظلّ الأمر هكذا إلى أن أتت الأوامر من إبراهيم باشا بالتوقف، شرط تسليم المتمردين السلاح، وتسديد الضرائب، وردّ ما نهبوه في انتفاضتهم الأخيرة، وهكذا بدأ سليم بيك عملية حصر دقيقة لأعداد الرجال وأجبر الجميع على تقديم قطعة سلاح، حتى لو كان أعزل؛ أي على كل رجل شراء سلاح، وتقديمه ليستفيد من صك الاستسلام.
ثورة إسماعيل آغا وعصر "التنظيمات"
في كتاب غير مترجم بعنوان "تاريخ العلويين (النصيرية) في سوريا العثمانية 1831-1876" The History of Nusayris ('Alawis) in Ottoman Syria, 1831-1876؛ وهو أطروحة تخرّج في جامعة "أركنساس" لشاب من أصل تركي يُدعى علي كبر، يشرح عليّ مدى العراقيل لتطبيق الإصلاحات التي دُعيت بـ"التنظيمات". عملياً حاولت السلطنة خاصةً في سوريا بعد خروج المصريين إعادة سلطتها، لكن بطريقة مختلفة عن طريقة الالتزام القديمة، وهي الإمساك مباشرةً بالأمور الضريبية والاعتماد على الموظفين الصغار، مع جملة إصلاحات شبيهة بإصلاحات المصريين كالمواطنة الواحدة، وهذه كانت مغازلةً للدول الغربية، وطبعاً التجنيد الإجباري للجميع. لكن مع سوء التنظيم وفساد صغار الموظفين عملياً، ارتفعت الضرائب بما يقارب العشر إلى النصف أحياناً، فهجر فلاحون كثر أرضهم لعدم الجدوى الاقتصادية، وعمل البعض منهم كقطّاع طرق، ما اضطر السلطة أحياناً إلى إعادة طريقة الالتزام القديمة، لكن مع تغيير التسميات، وهذا ما حصل مع إسماعيل بن عثمان خير بك آغا.
شخصية إسماعيل آغا، كما صوّرها وينتر، ونهايته الفظيعة كما صوّرها التركي علي كبر، مركّبة بشكل درامي. فهو كما يصفه نائب القنصل الفرنسي في طرابلس إيسيدور بلانش: "قاطع طريق بارع ورهيب، أمضى حياته في عصيان أوامر الباب العالي. وقد عُرفت عنه في طول البلاد وعرضها، الخصال نفسها التي يتحلى بها قاطع الطريق الحقيقي في الصحراء: غازٍ (بغرض النهب) لا تفترّ عزيمته، ولا يدع له ثأراً، وشجاع، وكريم، ولا يخون أصحابه" (ص 302). تشكلت حول شخصيته أساطير محلية، منها أن العثمانيين اضطروا إلى الاعتراف بأنه قائد لعساكر غير نظامية، وأحياناً قدرات سحرية للهروب من السجون.
لكن واقع الأمر أن الدولة العثمانية بعد عجزها عن تطبيق الإصلاحات الضريبية مباشرةً؛ قسمت المنطقة إلى مديريات، وعهدت إلى بقايا آل شمسين بإدارتها تحت مسمّى "مدير" لا "ملتزم"، وهذه عودة غير مباشرة لنظام الالتزام السابق. لم يرُق الأمر للعائلات الأخرى، وفعلاً طلبوا مساعدة إسماعيل خير بك، الذي وجدها فرصةً، فخرج مع رجاله، وسيطروا على صافيتا، ثم أعاد تقسيمها إلى مديريات وسمّى رجاله على رأس كل مديرية. فما كان من الدولة العثمانية إلا أن تفاعلت مع الأمر الواقع -يضع علي كبر في أطروحته سبباً إضافياً هو أن العثمانيين كانوا مشغولين بالحروب الخارجية، ولا ينفي أن إسماعيل كان فعلاً قائد قوات شبه عسكرية معترف بها- وسمّته فعلاً مديراً لمنطقة صافيتا في نيسان/ أبريل 1855، شرط أن يعلن الولاء للدولة "العليّة".
عملياً لم يكن إسماعيل إلا نسخة رديئة عن كبار الملتزمين؛ وسّع مناطق نفوذه، فقد بلغ عدد من يحكمهم نحو 120 ألفاً بعضهم سنّة ومسيحيون، وكلمة "يحكمهم" دقيقة فقد كان الآمر الناهي، وبدا كأنه يسعى فعلاً إلى حكم ذاتي على غرار أمراء لبنان. عاش حياة البذخ، ولقّب نفسه باللقب العثماني الأعلى "باشا". كان قاسياً فأصبح غير محبوب من رعيته، ولم يبنِ علاقات جيدةً مع باقي الطوائف خاصةً المسيحيين، ما جعل فرنسا تنظر إليه أيضاً بغير رضا. مع ازدياد قوّته ونفوذه بدأ التمرد بالتهرب من دفع الضرائب، فانتظرت الدولة العثمانية الفرصة السانحة، التي أتتها من تقاطع ثلاثة أمور؛ الأول زيادة السخط عليه من الطوائف الأخرى، والتي وجدت نفسها في حالة غريبة غير معهودة، وهذا ما استغلته السلطات، أما العامل الثاني فهو الانقسامات العشائرية العلوية، فتاريخ إسماعيل غير ودّي مع باقي الزعامات؛ خاصةً الشيخ عباس جابر، الذي كان إسماعيل قد أسره ونفاه إلى جزيرة رودس سنة 1856، والآن جاءت فرصته للانتقام، وأخيراً نهاية حرب القرم ما أعطى العثمانيين قدرات عسكريةً جديدةً.
أخيراً عام 1858، وبعد أن حوصر، انفضّ أغلب رجاله عنه، فهرب إلى خاله علي الشلي، وهو زعيم محلي. في مشهد سينمائي، يروي علي كبر، عن المستشرق هنري هاريس جيساب، صاحب كتاب "خمسة وثلاثون عاماً في سورية"، "أن خال إسماعيل أطلق النار على ابن أخته، وبينما هو يحتضر ناشده فقط الاهتمام بابنه الصغير، فأمسك الطفل وسدد له طلقةً قاتلةً، أمام والده المحتضر. ثم استولى على كل ما يملك..." (ص 80). من الواضح أن إسماعيل آغا، كان بارعاً في اختيار لحظات الإغارة وحتى الوصول إلى السلطة، لكنه كان فاشلاً في التفكير الإستراتيجي وصياغة التحالفات.
ثورة الشيخ صالح العلي (1918-1921)
تبقى ثورة الشيخ العلي، أو ما سُمّي وقتها بثورة "بلاد العلويين"، درّة التاج في الذاكرة الشعبية والوطنية، فمنها دخل العلويون سوريا الجديدة، فقد كانت شهادة مرور إلى مواطنة كاملة، لم يشكك بعدها في وطنيتهم إلا كاره.
قد يكون من شغب التاريخ ما ذكره محمد الهواش، عن شرارة الثورة في كتابه "تكوّن جمهورية سورية" (ص 68): "أما السبب الذي أدى إلى تفجير ثورة الشيخ صالح العلي، فقد حدث في التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1918. ولم تكن له أي علاقة بالفرنسيين، وكل ما في الأمر أن صدامات دمويةً حصلت بين فريقين من الإسماعيليين، أخطر بوقوعها الحاكم العسكري الفرنسي في اللاذقية رئيسه المندوب الإداري للمنطقة الغربية، الكولونيل نيجر nieger".
يشرح الهواش، أن أحد المغرضين همس في أذن الحاكم الفرنسي، بأن تعنّت أحد الأطراف ناجم عن تحريض شيخ يُدعى صالح علي سليمان، فأصدرت الاستخبارات الفرنسية طلب إحضار وقّعه الليوتنان فلوريمون، وطبعاً لم يحضر الشيخ صالح، فهو من كبار الأعيان، خاصةً أن ملازم الاستخبارات فلوريمون كان معروفاً بفظاظته. من الأسباب غير المباشرة تدخّل السلطات الفرنسية في حل المشكلات وأمور القضاء في عمق الجبل، وهو أمر لم تجرؤ عليه السلطة العثمانية أبداً، ما أثار حفيظة الأهالي وهو ما تنبّه إليه بعض الضباط الفرنسيين بعد ذلك.
وكانت انطلاقة الثورة رفضاً للاستدعاء المهين. أولى المعارك كانت في قرية المريقب نواحي الشيخ بدر؛ حيث دخلها الملازم فلوريمون مع فرسانه، فاستقبلهم الشيخ صالح ورجاله بوابل من الرصاص.
كانت معارك الجبل قاسيةً على الفرنسيين، استُخدمت فيها أحدث الأسلحة، كالطيران والرشاشات والمدافع، وأحسن فيها الرماة استخدام الأرض والتخفّي، والمراقبة من القمم.
امتدت الثورة سنة 1920، إلى كامل الجبل من صافيتا إلى مصياف إلى جبال الكلبية. عكس حالة اسماعيل خير بيك، وقفت زعامات كثيرة للطائفة مع الثورة. لاحظت فرنسا الأمر، فاستدعى رجالها المقدم إسماعيل الهواش إلى بيروت للتفاوض، وهناك أُجبر على توقيع بيان بالخضوع، وكذلك فعلوا مع المقدم إسماعيل جنيد، فكان للأمر أثر سيئ على الثورة، ما سرّع في إخمادها.
تبقى ثورة الشيخ العلي، أو ما سُمّي وقتها بثورة "بلاد العلويين"، درّة التاج في الذاكرة الشعبية والوطنية، فمنها دخل العلويون سوريا الجديدة، فقد كانت شهادة مرور إلى مواطنة كاملة، لم يشكك بعدها في وطنيتهم إلا كاره
ما يميّز ثورة صالح العلي، أنها الثورة الوحيدة في سوريا ضد الفرنسيين التي لم تنَل أي دعم من الخارج، سواء من الشمال التركي أو الجنوب الأردني الفلسطيني (المنتدب من الإنكليز)، ولا حتى من القصر الملكي في دمشق الذي أرسل مندوباً للدعم المعنوي هو الأمير ناصر. فقد كانت مصادر التمويل غير الذاتية بشكل خاص من سنّة مدينة حماه، كالدكتور محب زاد، والحاج محمد الكبال، والشيخ سعيد زيمور، والدكتور عمر الدلال، والشيخ طاهر النعسان وغيرهم.... بالإضافة إلى دعم بالسلاح من إقطاعيي تلكلخ وأغوات الدنادشة في عكار، ما أعطاها بعداً وطنياً، وقد شارك الأخيرون فعلاً في الثورة. أيضاً، وبحسب الهواش نفسه، فقد كان للثورة موقف متقدم من التعرّض للمسيحيين، الذين لطالما ادّعت فرنسا أنها راعيتهم، فقد صدر بيان من وجهاء المتاورة (عشيرة علوية)؛ يحذّر من التعرض لآل سعادة بأي شكل من الأشكال.
خاتمة للجزئين
بعد هذا السرد البانورامي لألف عام من حياة طائفة تتجمع غالبيتها الآن في سوريا؛ يتبيّن لنا أن للعلويين تاريخاً أطول من بضعة عقود، أو قرن على الأكثر يبدأ مع صالح العلي وثورته، كما يحلو للبعض. بل يضع الصحافي
كمال شاهين فرضيةً، مفادها أنّ العلويين، أي المسلمين المحبّين لآل البيت، وُجدوا في الساحل قبل ابن نصير نفسه، إذ هجّرهم الخليفة معاوية بن أبي سفيان من العراق إلى الساحل. العلويون لم يكونوا فقط حبيسي الجبال، بل كانوا فعّالين ومتفاعلين مع المنطقة، وعرفوا عسفاً شديداً من سلطات الأمر الواقع، وكانت لهم نجاحات وإخفاقات، لكن حتماً لم يعرفوا حرب إبادة، ولا محاولات جادة لتغيير مذهبهم. ساهموا في إطعام المدن السورية؛ كحال كل الأرياف مع المدن. انتفاضاتهم لطالما صُبغت بصبغة طائفية، لكن بنظرة عميقة خلاصتها: "أنا أخوكم الفلاح لا تضغطوا عليّ أكثر". مساهمتهم في إعادة انطلاق عروس شرق المتوسط اللاذقية، بعد انتشار زراعة التبغ، وتصديره من مرفئها، حتماً فطنوا لها، وشعروا بأن لهم الحق في حياة أفضل.
لفهم الحاضر والعمل للمستقبل لا بد من فهم التاريخ ومعرفته، وللأسف غالبية المصادر أجنبية لأناس ساروا آلاف الأميال، بعضهم جاء منذ قرون أحياناً إلى منطقتنا، وفهموا وضع البلاد، ودوّنوا ذلك وأرسلوه لحكوماتهم ومراكز أبحاثهم ولا يزالون يقومون بالفعل نفسه، ونحن نجهل أحداثاً عمرها عقود، ونحفظ صفات وكليشيهات عن إخوتنا في الوطن، دون تدقيق أو بحث، ثم نطلق "أحكام قيمة" بكل بساطة وتعالٍ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 11 ساعةتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 14 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ يومحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.