.شاب يرفع كيساً من السكّر، ويتحدّث إليه كأنما يخاطب صديقاً قديماً: "مالك زعلان ليه؟". هذه اللحظة البسيطة التي التقطتها عدسة هاتف في مقطع لم يتجاوز الخمسين ثانية، تحولت إلى رمز لمعاناة الملايين.
انتشر الفيديو عبر منصة تيك توك، محقّقاً قرابة ثلاثة ملايين مشاهدة. لم يكن مجرد لحظة فكاهية عابرة، بل أصبح صوتاً صارخاً يعكس اليأس الجماعي. السكّر، الذي كان يوماً عنصراً أساسياً في أي منزل، أصبح فجأة رمزاً للرفاهية، وصار غيابه بمثابة تذكير مرير بتحديات الحياة اليومية.
تصريحات غريبة في عالم موازٍ
وسط هذا الواقع الموجع، تعلو أصوات من أبراج عاجية تزيد من عبء التناقض. وزير التعليم، في تصريح يبدو بعيداً عن معاناة الشارع، دعا الشباب لتجاهل القلق بشأن صحتهم، مشيراً إلى أن الإنجاز الحقيقي لا يتحقق إلا بالعمل المرهق والتضحية.
وفي زاوية أخرى من الخطاب الرسمي، يظهر "دويتو" غريب بين رجل دين وأستاذة اقتصاد منزلي. الأول يتحدّث عن القناعة كطريق للسعادة، بينما تقدم الثانية خطة معيشية بـ 3000 جنيه شهرياً، تكاد تبدو أشبه بمزحة قاسية. تتحدّث عن "الإبداع" في التدبير وكأنه الحل السحري الذي سيُنقذ الأسر من أعبائها، متجاهلة تماماً الحقائق الاقتصادية التي تجعل هذه الأرقام أقرب إلى الخيال.
لكن ذروة الانفصال عن الواقع تجلّت في تصريحات رجل الأعمال حمادة فاروق، الذي قدم وصفة "للنجاح الوطني" عبر العمل 12 إلى 16 ساعة يومياً، على غرار ما يصفه بـ "النموذج الصيني". بحسب فاروق، فإن الدول التي طبقت سياسات التوازن بين العمل والحياة بعد جائحة كورونا قد فشلت، و"راحت في 60 داهية".
لكن النموذج الصيني الذي يتغنى به لا يخلو من الحقائق المؤلمة. نظام "996"، بحسب صفحة "ما تصدقش" الذي يعني العمل من 9 صباحاً إلى 9 مساءً، ستة أيام في الأسبوع، صار محظوراً قانونياً، بعد احتجاجات واسعة وأزمات صحية أدت إلى وفاة العديد من العمال. هذا النموذج لم يكن مجرّد آلة إنتاجية، بل كان يتضمن بنية تحتية قوية ونظام حماية اجتماعية شامل. وفي الوقت نفسه، كان "كاروشي" - أو الموت بسبب الإجهاد - قضية وطنية دفعت الحكومة الصينية لتعديل سياساتها.
وفي زاوية أخرى من الخطاب الرسمي، يظهر "دويتو" غريب بين رجل دين وأستاذة اقتصاد منزلي. الأول يتحدّث عن القناعة كطريق للسعادة، بينما تقدم الثانية خطة معيشية بـ 3000 جنيه شهرياً، تكاد تبدو أشبه بمزحة قاسية
أسطورة الشعب الكسول
يتكرّر الخطاب الرسمي في تحميل الشعب مسؤولية الفشل. "المصريون كسالى"، عبارة تُردّد في كل أزمة، لكنها تتناقض مع واقع يروي قصصاً مختلفة تماماً. من المدرّسين الذين يعملون صباحاً في مدارس مكتظة، ثم يعطون دروساً خصوصية مساءً، إلى السيدات اللواتي يعملن في تنظيف المنازل لساعات طويلة، والعاملين بوظيفتين لتغطية احتياجات أسرهم، يظهر جهد مضنٍ يكشف زيف هذه المزاعم.
الآباء فوق الستين الذين يواصلون العمل في مهن شاقة لأن معاشاتهم لا تكفي، والأمهات اللواتي يدبّرن المستحيل لإطعام أطفالهن، لا يمكن وصفهم بالكسل، بحسب تعبير الكاتب كريم عمر، بل إن هذا الوصف يبدو وكأنه محاولة لتغطية إخفاق النظام نفسه في توفير بيئة عمل إنسانية وأجور عادلة.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو أن العمل في مصر لم يعد وسيلة لتحقيق الذات أو تحسين المعيشة، بل تحول إلى عبء يستنزف الروح والجسد. في ظل غياب الحماية القانونية والاجتماعية، يصبح العامل مجرّد رقم في آلة إنتاجية لا تعترف بحقه في الكرامة.
النظام الذي يفترض أن يدعم المواطن، يعيد صياغة معاناته اليومية كنوع من "التحدي الشخصي"، وكأن البقاء على قيد الحياة بميزانية مستحيلة هو إنجاز يجب الاحتفاء به، وفي هذا الخطاب، يُطلب من المواطن أن يتحمّل المزيد، بينما النظام نفسه يظل خارج دائرة المحاسبة.
خطاب "العمل كوسيلة للنجاة"، دون النظر إلى التوازن أو الكرامة، يعيد للأذهان مفاهيم "الإبادة عبر العمل"
المفارقة المريرة: حين تصبح الكرامة رفاهية
في مصر، حيث يُطلب من العمال العمل لساعات طويلة في ظل غياب الحماية القانونية والاجتماعية، يبدو الحديث عن "الكرامة" أو "الراحة" رفاهية لا يمكن تحمّلها. العامل المصري، سواء كان في مصنع، مدرسة، أو مكتب، يواجه ضغوطاً يومية تجعل مجرد البقاء على قيد الحياة تحدياً في حد ذات، فهل يمكن لنظام اقتصادي أن يزدهر بينما يُستهلك أفراده دون أن يُقدم لهم الحماية والكرامة؟
خطاب "العمل كوسيلة للنجاة"، دون النظر إلى التوازن أو الكرامة، يعيد للأذهان مفاهيم "الإبادة عبر العمل"، بحسب الكاتب محمد نعيم. في غياب قوانين تحمي العامل وتحترم إنسانيته، يصبح العمل عبئاً ساحقاً، يُستهلك فيه الفرد تدريجياً دون أي أفق حقيقي للتحسّن. وعندما يُنهك العامل ويُستنزف، فلا أحد يتوقف ليسأل: من الذي استفاد من هذا الاستنزاف؟ ومن الذي دفع الثمن؟
في مجتمع يُروّج فيه للعمل كغاية نهائية، تُدفن الحاجة للتوازن بين العمل والحياة تحت وطأة الضغوط الاقتصادية وخطابات التنمية الزائفة. الكرامة تُعتبر رفاهية بعيدة المنال، بينما يضحّي الفرد بصحته وعلاقاته، وحتى مستقبله، فقط للبقاء على قيد الحياة. إذا لم نعيد التفكير في هذا النموذج، فقد نجد أنفسنا أمام مجتمع بأسره يتحول إلى معسكر كبير للسخرة، حيث يُنسى معنى الحياة نفسها وسط لهاث مستمر نحو إنتاجية بلا روح.
العمل في مصر لم يعد وسيلة لتحقيق الذات أو تحسين المعيشة، بل تحول إلى عبء يستنزف الروح والجسد. في ظل غياب الحماية القانونية والاجتماعية، يصبح العامل مجرّد رقم في آلة إنتاجية لا تعترف بحقه في الكرامة
العمل بلا كرامة: عبء يومي في نظام يغيب العدالة
من التصريحات التي تدعو للعمل حتى الإنهاك إلى خطاب يصف الشعب بالكسل، ومن محاولات استنساخ النموذج الصيني إلى مقارنة العمل بنمط معسكرات السخرة، تتضح صورة قاتمة لواقع العمال في مصر. المصريون ليسوا كسالى، ولا يفتقرون إلى الجهد أو الإبداع. على العكس، يعملون بجد أكثر من أي وقت مضى، لكن الجهد وحده لا يكفي، إذا كان النظام بأكمله يفتقر إلى التقدير والعدالة.
العمل، الذي من المفترض أن يكون وسيلة لتحقيق الذات، تحول إلى عبء يستنزف الجسد والروح. في ظل غياب البنية التي تُحول الجهد إلى نتائج ملموسة، يصبح الحديث عن ساعات أطول من العمل أو خطابات عن التدبير، ضرباً من العبث. المشكلة الحقيقية ليست في عدد الساعات أو في "قلة الإبداع"، بل في نظام اقتصادي يُصمّم ليستهلك الأفراد دون أن يقدم لهم شيئاً في المقابل.
الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أن الكرامة ليست رفاهية. الكرامة هي الأساس لأي نظام عادل. العمل بحد ذاته ليس مشكلة، لكنه يصبح كذلك عندما يفقد الغاية منه، وعندما يتحول إلى وسيلة لإدامة المعاناة بدلاً من تحقيق الحياة الكريمة.
إذا كان هناك درس نستخلصه من كل هذا، فهو أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من فرض ساعات أطول من العمل، أو تحميل الأفراد مسؤولية فشل النظام. الإصلاح يبدأ عندما نعيد للكرامة مكانتها كحق أساسي غير قابل للتفاوض. الكرامة ليست رفاهية، بل هي جوهر أي مجتمع يريد أن ينهض ويزدهر. العمل يجب أن يكون وسيلة لتحقيق الحياة، لا أن يصبح معركة يومية للبقاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
بلال -
منذ ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ ساعتينالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 4 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!