في كل مرة تعرّضت لموقف مستفز من قبل أشخاص مستفزين وعدوانيين ومتنمّرين، تمنيت أن أركلهم بقدمي، تمنيت أن أمتلك قوة خارقة تجعلني "أمردغ" أنوفهم بالتراب، ولكنني لم أفعل، لذا أشعر بالإنجاز، الإنجاز أنني نجحت في الحفاظ على هدوء أعصابي، فوسط مواقف عديدة تمر خلال الحياة اليومية جعلتني أؤمن تماماً بأن الحفاظ على هدوء الأعصاب، التبسّم في وجه أحد كان يجب صفعه، التمسك بالإنسانية وسط كل ذلك الكم الهائل من الضغوط، قبول أن العالم متنوّع، أمور يجب أن توضع تحت خانة الإنجازات العظيمة.
نعم ودون مبالغة لقد كان انجازاً كبيراً حين تبسّمت أمس في وجه جاري المستفزّ، بعد أن رفض تحريك سيارته قليلاً، كي نمر كلانا دون تصادم السيارتين، بل طلب أن أعود بظهر سيارتي الشارع بأكمله، كي يعبر هو ثم أعبر أنا، وحين رفضت، قام بإطفاء سيارته وتشغيل أغانٍ بصوت مزعج، وبات يغني بصوت أشبه بصوت بجرش القمح، بل أنه بات يتفقدني بنظرات تحد قائلاً: "خلينا واقفين أنا مش مستعجل".
وقتها حقاً تمنيت لو لم يكن القتل جريمة يعاقب عليها القانون، لنزلت من سيارتي وأمسكت برأسه وقمت بخبطه في زجاج سيارته عدة خبطات، ولكن بالطبع لم أفعل ذلك، فأنا امرأة متحضرة، تتلقى الإزعاج ولا تنزعج، تتلقى التهديدات والتقليل من شأنها بدون أن تبدي رد فعل نافر أو قاس، واستقبلت استفزازه بتنهيدة تحمل جميع أنواع السُباب، المهذب وغير المهذب، بداخلي، واضطررت لتنفيذ رغبته، لأنني كنت على حد تعبيره "مستعجلة".
التبسّم في وجه أحد كان يجب صفعه، التمسك بالإنسانية وسط كل ذلك الكم الهائل من الضغوط، قبول أن العالم متنوّع، أمور يجب أن توضع تحت خانة الإنجازات العظيمة
وللأسف قابلني موقف آخر استفز أعصابي خلال نفس اليوم، حين فوجئت بسيدة بنقاب (أعترف أنني أخشى كثيراً من المنقبات، فلا يوجد سبب يدفعني لأن أتعامل مع إنسان يحجب وجهه، ولا أعرف هل هي أنثى أم ذكر متخف في زي امرأة) وما جعلني أنتفض أن هذه السيدة أمسكت بذراعي بعنف وشدة، لتطلب مساعدة مالية، فما كان مني إلا أنني دفعتها بقوة كي تبتعد، ولكنها ظلت تقترب وتلحّ، حتى أنني سبقتها بعدة خطوات كي أظل محافظة على ما تبقى من هدوء أعصابي، وقتها تذكّرت الهجوم الذي أغرق مواقع السوشيال ميديا على الفنان عمرو دياب، حين صفع الرجل الذي قام بجذبه بعنف كي يلتقط صورة بجواره، وكأن من حق الأخير أن يتعدّى على جسده ويمسك ذراعه بقوة، لمجرد أنه فنان وعليه ألا يبدي ضيقاً أو رفضاً للتعدي على جسده.
ليس من السهل أن يختار الإنسان سلامه النفسي ويجعله أولوية
وفي الحقيقة لم تكن تلك المواقف الوحيدة التي أعتبرها من الإنجازات التي لا ترى، ولكن حين تبسّمت في وجه رئيس تحرير أحد الجرائد التي عملت فيها، بعد أن شرعنا في نقاش سخيف حول الانتماءات السياسية، حين بات يصف معارضيه "بالأعداء"، فأنهيت النقاش وعلى شفتي ابتسامة صفراء، لأنني كنت على يقين أنه إذا تحدّث أكثر من ذلك، فإن أعصابي سوف تنفجر على هيئة حمم بركانية، وسأتفوّه بكلام قد يعاقب عليه القانون.
سابقاً، ومنذ فترة ليست وجيزة، كنت أشتبك مع أي إنسان يتعمّد استفزازي. كنت أصيح في وجهه وأنعته بالبرود، وربما بالغباء، حتى أصبت بالتهاب في جدار المعدة بسبب العصبية، وحذّرني الطبيب حينها من أي انفعال، خاصة أنني كنت كلما انفعل وصوتي يعلو، أتقيأ دماً بسبب نزيف المعدة الذي كان يزداد عند الانفعال. بدأت بالالتزام بتعليمات الطبيب، ولا أنكر أن الأمر في البداية كان صعباً للغاية، فقد كنت أتجنّب التعامل مع أشخاص إلا بدائرتي الصغيرة من أصدقائي ومعارفي، حتى لا أتعرّض لشيء يدعو لخروج المارد الغاضب من داخلي.
ولكن شيئاً فشيئاً بدأت أدرك أن انفعالي على شخص يتعمّد استفزازي هو في النهاية يصبّ في صالحه، في مستنقع رغبته بالانتصار عبر الاستفزاز، فهناك أشخاص يجدون متعتهم في إيذاء نفوس غيرهم واستفزازهم، فيحقق رغبته بينما أخسر أنا جزءاً كبيراً من سلامي النفسي والبدني، وهو ما يذكرني بالمثل الإنجليزي: "لا تصارع خنزيراً في الوحل فتتسخ أنت ويستمتع هو".
لذا ومع الوقت توصلت إلى أن القوة الحقيقية ليست في شتم أحد، ليست في العنف والضرب أو الصوت المرتفع، بل القوة الحقيقة تكمن في السيطرة على الغضب، عدم الاكتراث للأشخاص المستفزين، اليقين بأن ضريبة الانسياق خلف استفزاز الغير قد يتسبّب في أن يفقد الإنسان إنسانيته، وربما حريته أو حياته.
بتّ أقوى حين اخترت أن أبتسم في وجه كل شخص يشعر بالقوة لأنه رجل فقط، أو لأني امرأة لا تمتلك عضلات منفوخة أو يمنعها الحياء من الصراخ والسباب
القوة الحقيقية تكمن في تجنّب الخوض في سجالات غير مثمرة وتقبّل الآراء المخالفة لرأيي. أدركت معنى القوة حين أصبحت أكتفي بأن أغلق هاتفي حين أشعر بالاستفزاز من أحد، حين أنهض وأترك المكان تجنّباً لشخص يستفزني بذلك المكان.
كنت في البداية أعتقد أن كل ذلك ضعفاً أو تجنباً، ولكن بالممارسة، وربما بالنضج، أدركت تماماً أن كل ذلك يسمى إنجازاً لا يُرى، فليس من السهل أن يختار الإنسان سلامه النفسي ويجعله أولوية. أدركت أنني بتّ أقوى حين اخترت أن أبتسم في وجه كل شخص يشعر بالقوة لأنه رجل فقط، أو لأني امرأة لا تمتلك عضلات منفوخة أو يمنعها الحياء من الصراخ والسباب.
ربما يسمّي أحد هذا الانسحاب من المواجهات مع أشخاص مستفزّين سلبية وهروباً، لكن، إلى أن يعطينا القانون والمجتمع طريقة مثلى لنيل الحقوق، سأظلّ مستمتعة بهدوئي النفسي وسلامي الداخلي، مسمية هذا إنجازاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...