يُطرح هذا التبرير بقوة من قبل الروس والإيرانيين والحكومة السورية، وحتى أن الأتراك يدّعون أن الهجوم هذا كان مفاجئاً لهم أيضاً، ولا ننسى المفاجأة المضحكة التي يتحدث عنها بايدن، والتي أصابته رغم كل ما تمتلكه دولته من قوة استخبارات وقوة عسكرية على الأرض في شمال وغرب سوريا، وأقمار صناعية تجوب سماء المنطقة وتلتقط تحرك سرب من النمل، ناهيك عن تحرك أرتال من الدبابات والمقاتلين.
إذن لا مفاجأة في الأمر، خاصة وأن فيديوهات الفصائل المهاجمة انتشرت علناً على وسائل التواصل وهي تجهّز للهجوم، وقبل تحرّكها من مواقعها باتجاه مدينة حلب ومحيطها. كل هذا ينفي أية إمكانية حقيقية لأية مفاجأة من أي طرف كان، بل على العكس، فإنه يضع علامات سؤال كبيرة حول ما جرى ويجري، ما سنحاول التعرّف عليه في هذا المقال. لكن لنتوقف أولاً عند بعض الملاحظات اللافتة، لتسهيل فهم الأمور، أو ربما تصعيبها، وهذا أفضل بكل تأكيد، لأن الصعوبة هي ما تثير الأسئلة وتجعل العقل الخامل يتحرّك، وبتحركه قد تنصلح حالنا قليلاً.
وضعت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أول من أمس، عنواناً لأحد تحقيقاتها عما يجري في سوريا، من ناحية ارتهان جزء كبير من مكوّنات المنطقة لأطراف خارجية: "في سوريا، القوات المدعومة من البنتاغون تقاتل القوات المدعومة من السي آي إيه"
أحد الكتّاب الفلسطينيين لديه فكرة يكرّرها دائماً، وهي أن فصائل الإسلام السياسي هي الوحيدة المتبقية على الساحة، والتي يمكن اعتبارها عدواً أو عائقاً لمخططات الإمبريالية العالمية والحركة الصهيونية، وأنه بعد انتهاء اليسار وتراجع القومية العربية لم يبق على الساحة إلا هذه الفصائل لمقارعة الأعداء والطامعين في أرضنا ومقدراتنا، وبالتالي لا بد من مؤازرتها والوقوف إلى جانبها، رغم الخلافات الجوهرية معها فيما يخصّ الأيديولوجيا والاجتماع، وبعض السياسات.
قد تبدو هذه الفكرة سديدة وتحمل جانباً كبيراً من المنطق، لولا أنها تعطي أهمية كبيرة للسياسة في مقابل، أو على حساب، الأيديولوجيا والاجتماع، هذا أولاً، أما ثانياً فهي بحاجة للإجابة عن ما حصل في سوريا، ومحاربة هذه القوى لمحور الممانعة نفسه. لا يمكن الدفاع عن هذه الفكرة بأن الفصائل في هذا المكان وطنية، وفي تلك البقعة مرتهنة أو أداة للاستعمار، خصوصاً وأن المرجعية الأيديولوجية لهذه الفصائل في كافة أماكن تواجدها واحدة ولا تتغير، وخصوصاً أيضاً، وهذا هو الأهم برأيي، أن هذه الفصائل ومَعينها الأيديولوجي الذي تستقي منه سياساتها وأفعالها لا يؤمن بفكرة الدولة، بل ويحاربها لصالح فكرة الأمة غير المعرّفة، إلا من خلال النص المقدس والمرجعية أو العناصر الدينية.
أستطيع الجزم دون تردّد أنه حتى فكرة الأمة ذاتها في فكر وأفعال هذه الفصائل قد تراجعت في العقود الأخيرة، وتحديداً منذ نشوء تنظيم القاعدة، لصالح فكرة "الحور العين" وفكرة "الثواب والعقاب" التي تم التعبير عنها جلياً بمقولة "فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان". أي أن هذه الفصائل تحارب الإمبريالية والصهيونية ليس بسبب عدائهما لشعوب منطقتنا وأطماعهما بمقدرات وأرض هذه الشعوب، بقدر ما هو لأن هاتين الجهتين يمكن موضعتهما بشكل سهل، ولا يقبل اللُبس، في خانة فسطاط الكُفر، وبالتالي يمكن بسبب محاربتهما كسب الأنصار والمؤيدين دون عناء.
إذن ليس العداء هو ما يجب أن يكون دليلنا إن أردنا أن نحاكم الأمور من زاوية وطنية، بل أسباب ومبرّرات هذا العداء، والتي يمكنها أن تتغيّر بسهولة وسرعة تشبه سرعة الهجوم على حلب وريف حماة. وهذا التغير نمتحنه يومياً، لكننا نرفض إلا التركيز على ما يبدو ظاهرياً وكأنه في مصلحتنا ومصلحة قضيتنا.
أقصد أن هذه الفصائل تحارب العدو الأمريكي حين يكون موجوداً، أو للدقة حين يكون هو المتصدّر للمشهد في بقعة جغرافية ما، ثم تحارب الشيعة حين يتضاءل وجود الأمريكي، ثم تحارب العلوي لأنه علوي، ثم تنتقل إلى المسيحي، ثم إلى شارب الخمر من نفس الطائفة، ثم إلى غير المحجبة... وهكذا. ويمكن لأي عاقل أو منصف أن يراجع الشعارات المرفوعة في كل معركة، وسيجدها نفسها دون تغيير جوهري، فلا وجود لسوريا الوطن ولا للعراق الدولة ولا لفلسطين الحلم، كما لا يوجد أي شبهة ولو بسيطة لبرنامج سياسي يتعلق باليوم التالي لأية معركة.
ما أريد قوله هو إن هذه الحروب تُخاض أحياناً بشعارات سياسية، لكن مضامينها ودوافعها مختلفة كلياً، وهو ما يوضّح لنا قتال تنظيمات بنفس المرجعية الأيديولوجية الدينية ونفس الحمولات الفكرية أو الفقهية، تارة مع ما يُسمّى محور المقاومة وتارة ضده، هنا مع الأمريكان وهناك ضدهم.
هذه الفصائل تحارب الأمريكي حين يكون موجوداً، أو للدقة حين يكون هو المتصدّر للمشهد، ثم تحارب الشيعة حين يتضاءل وجود الأمريكي، ثم تحارب العلوي لأنه علوي، ثم تنتقل إلى المسيحي، ثم إلى شارب الخمر من نفس الطائفة، ثم إلى غير المحجبة... وهكذا
قد يفيدنا ولو من بعيد، أو من باب لا يخلو من سخرية العنوان الذي وضعته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أول من أمس، لأحد تحقيقاتها عما يجري في سوريا، من ناحية ارتهان جزء كبير من مكوّنات المنطقة لأطراف خارجية، حيث عنونت كالتالي: "في سوريا، القوات المدعومة من البنتاغون تقاتل القوات المدعومة من السي آي إيه". القصد من إيراد هذا العنوان هنا هو تخفيف وطأة الحيرة على المتابع الذي لم يعد يفهم ما يجري، فيا عزيزي القارئ؛ هناك في الولايات المتحدة محتارون أيضاً ولا يفهمون تماماً ما يجري، أو دعنا نصدق ذلك.
ليست فصائل الإسلام السياسي هي الوحيدة الملامة بالطبع، فعلى الجانب الآخر من المعادلة يمكن إدراج المشهد التالي لتوضيح المأساة من كافة جوانبها: بعد سيطرة المهاجمين على إحدى قرى ريف حلب، تجوّلت كاميرا محطة تلفزيونية بين أزقة بائسة وفوق شوارع ترابية، لكي تنقل لنا مشهداً مستتباً للأمن، لكن ما لفتني هو الشعارات المكتوبة على جدران هذه القرية، والتي كانت "سوا بنعمّرها"، "سوريا الأسد" والكثير من الشعارات التي تحمل نفس المضمون.
لكن المُلاحظ هو أن الخط واحد في كل الشعارات، أي أن الشخص نفسه الذي يعتقد أن "سوا" التي تعني الجميع، هو نفسه الذي يعتقد أن سوريا تخص الأسد. أما الأدهى من ذلك فهو أن القرية بعيدة كل البعد عما يمكن تسميته إعماراً، وهي بالتأكيد بعيدة كل البعد عن النظام الذي سلمها دون أية مقاومة، أما ما يقدمه لك الإعلام يا عزيزي المتابع، فهو أن الجميع تفاجأوا، وما عليك إلا أن تصدق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
بلال -
منذ ساعتينحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ ساعتينالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 4 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!