مشاهد جميلة يُمكنكم الوقوف عليها فور وصولكم إلى أزقّة القصبة العتيقة بالعاصمة الجزائرية, خاصة وإذا تزامنت زيارتكم مع حلول إحدى المناسبات الدينية كشهر رمضان المبارك أو المولد النبويّ الشريف.
آخر مرّة زرت فيها هذا المكان, كان مُندُ أيام قليلة فقط, لاقتناء أواني نحاسية تحسباً لحلول شهر رمضان المعظم، وكنتُ برفقة صديقتي وطفلتيّ.
العودة إلى الماضي
بأعالي العاصمة الجزائر, وبالتحديد بمنطقة "باب الوادي"، الحيّ الشعبيّ الأكبر في البلاد, تتربّع القصبة العتيقة على كتلة جبلية ليس الوصول إليها صعباً, فكلّ الطرق تؤدي إليها. باردة ممرّاتها, وتمتزج ريحها بنسمات البحر المتوسّط الذي تطلُ عليه. ولعلّ أبرز شيء يشدّكم إلى المكان هو عبق الياسمين وماء الزهر اللذان يعطّران ممراتها الضيقة.
يُخالجكم شعور وأنتم تتجولون بممرّاتها الضيقة ومبانيها العتيقة, وكأنكم في العهد العثماني؛ سلالم كثيرة وأزقّة عديدة، مداخل ومخارج تُصادفكم من كلِّ جهة تمرّ فيها. إنها "القصبة"، أشهر الأحياء العتيقة, ومعقل القصور التاريخية.
شغف اكتشاف المكان الذي يعود للحقبة العثمانية, قادنا للتوغل بقلبها, وكانت انطلاقتنا من أمام قصر "خداوج العمية"، فهو قصر مليءٌ بالأسرار التاريخية الجميلة والصّور الفنية القديمة, تبوح لزوّاره بتاريخ قاطنيه أثناء المرحلة العثمانية.
قصدنا القصرَ الذي يقع غير بعيد عن جامع "كتشاوة"، وعن ضريح الولي الصّالح عبد الرحمن الثعالبيّ. وجدناه فارغاً ماعدا الحارسيْن اللذين وجدناهما أمام مدخله، وسكونٌ يغمر المكان.
أول شئ يلفت انتباهكم هنا هو الصّور التقليدية الفنية التي تكشف لزوارها عن تاريخ قاطني القصر أثناء المرحلة العثمانية، ثمّ مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر. فدار "خداوج العمياء" المشهورة في القصبة، والتي تمّ تحويلها حالياً إلى متحف للفنون الشعبية, تسرد حقائق من الزمن الجميل, وهي معقل ابنة الخزناجي حسن باشا، الذي كان قائد الأسطول البحري في الدولة العثمانية في القرن السادس عشر, اسمها "خديجة" ويطلق عليها اسم "خداوج". كانت الفتاة الأكثر جمالاً في القصبة, وكان الكلّ يثني على فتنتها وعينيها التي كانت تستعمل لتجميلهما كحلاً خاصّاً, وأضحت عيناها حديث الشعراء, ورغم ذلك لم يتجرّأ أحد على خطبتها خوفاً من رفض عرضه.
أول شئ يلفت انتباهكم هنا هو الصّور التقليدية الفنية التي تكشف لزوارها عن تاريخ قاطني القصر أثناء المرحلة العثمانية، ثمّ مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر. فدار "خداوج العمياء" المشهورة في القصبة تسرد حقائق من الزمن الجميل
وحسب الرواية المُتداولة محلياً وإعلامياً, فإن نهاية الفتاة التي أُصيبت بنوع من النرجسية المرضية, خاصة بعد أن أهداها والدها، حسن باشا، مرآة مرصعة بالجواهر, كانت مأسوية بسبب فقدانها بصرها؛ فهناك من يقول إن المرآة كانت السبب وراء فقدان خداوج بصرها، وهناك من يقول إن السبب هو الكحل الذي كانت تستعمله.
ويتميز القصر بالتصميم المعماري العُثماني, فله "سقيفة" كبيرة تُطلُّ على السّماء، يعلوها سقف بيضاويّ, يتواجد فيه مخزنان تعرف بمخازن "البرطوس", وتوجد غرفة "خداوج" في الطابق الثالث من القصر, وكانت تجلس "خداوج" في المشربية الباشوية التي تطلّ على الشّارع لتسمع صخب الشوارع المحاذية للقصر.
النحاس... تراث يحكي تراث القصبة العتيق
تركنا القصر, وتوغلنا في شوارع القصبة ومبانيها التي تعود للحقبة العثمانية. قصدنا شارع سوق "بوجمعة" في القصبة السفلى أو ما يُعرفُ من طرف سكان المنطقة بـ"زوج عيون". كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً. الشمس تلقي بخيوطها الذهبية على مبانيها التي لازالت تقاوم الزمن. لا صوت يُسمع في هذا المكان سوى صوت المطرقة الذي كان ينبعث من أول الشارع المحاذي.
اقتربنا أنا وصديقتي وابنتاي اللتان أرهقهما التعب, فوجدنا ورشة صغيرة لإصلاح الأواني النحاسية القديمة وبيع الجديدة. دخلنا فاستقبَلنا شابٌّ في العقد الثالث من عمره، وشيخ في السبعين من العمر. كانت يداه وملابسه ممتلئة بالصدأ, يحمل بين يديه مطرقة, وهو الذي امتهن حرفة النحاس منذ أن كان شاباً في مقتبل العمر, مع الحرفي "عمي الهاشمي".
قال لنا محمد الشابّ بأنّ القصبة مشهورة بفنّ الطرق على النحاس المعاصر مما جعلها قبلة للسياح الأجانب والمحليين وممثلي السفارات الأجنبية بالجزائر على غرار سفارة الولايات المتحدة وكندا وروسيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين.
وأضاف المتحدّث أن هذه المهنة لم تكن بالنسبة لأجدادنا مُجرّد عملٍ يكسبون من خلاله لُقمة عيشهم بل هي جزءٌ لا يتجزأ من حياتهم, وطالما يشكّل مصدر فخر لهم ولنسائهم, فالعروس الجزائرية لا تستغني عن الأواني النحاسية في جهازها.
وتشتهر القصبة أيضاً بحرفة المصنوعات الجلدية, بالأخص "البابوش الجلدي" (الحذاء التقليدي)، وأيضاً الصندوق الخشبي المزركش بألوان ورسومات تجسّد تاريخ هذه المنطقة وأسرارها، ويرافق العروس ليلة دخلتها لتضع فيه جهاز عرسها من ملابس وحلي, حتى أنه كان يُعوض عن الخزانة في غرفتها.
تشتهر القصبة أيضاً بحرفة المصنوعات الجلدية, بالأخص "البابوش الجلدي"، وأيضاً الصندوق الخشبي المزركش بألوان ورسومات تجسّد تاريخ هذه المنطقة وأسرارها، ويرافق العروس ليلة دخلتها
وتُعتبر القصبة الجزائرية, من أبرز الأحياء الشعبية التي تروي تاريخ ثورة المليون شهيد ضدّ المستعمر الفرنسي, فبمجرّد ولوجكم شارع "ديزابرام" يصادفكم منزل وُضعت فوق بابه جدارية رُخامية مكتوب عليها: "في هذا المكان وبتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول 1957 سقط في ميدان الشرف الشهداء الأبطال" في إشارة المنزل الذي فجّرته قوات الاستعمار الفرنسي, كان يختبئ فيه رموز معركة الجزائر". واختيرت القصبة لتكون المنطلق لتبدأ معركة مدينة الجزائر لعدّة أسباب أبرزها أنها كانت عصية على السّلطات الفرنسية, بسبب شكل منازلها ومنافذها وضيق ممرّاتها وشوارعها التي منحت المجاهدين الجزائريين فرصة المناورة والهروب.
انتابنا تعب كبير, لكنّ شغف اكتشاف هذه المنطقة والتراث الذي تكتنزه أزقّتُها, دفعنا للمضي قدماً والتمتّع بممرّاتها الدافئة ونسماتها التي يمتزج ريحها بعطر البحر الأبيض المتوسط, فوقفنا على جمال بيوتها التي تعتمد نفس التصميم العمراني, مكوّنة كلُّها من طابقين أو ثلاثة يتخللها سطح كبير, ويتوسط المنزل ساحة كبيرة أيضاً تُعرفُ بـ" الحوش" أو "وسط الدار", بها نافورة مياه, وفي جانب منها بئر يمتدّ عمقه إلى أكثر من 40 قدماً تحت الأرض.
ويضمّ الطابق الأول "بيت الضياف" أو "السقيفة"، إضافة إلى المطبخ. وكانت النساء يستعملن "الحوش" أو "وسط الدار" أو "الفناء" لغسل اللباس والفراش. ولعلّه أبرز ركن في البيت والذي لا يمكن الاستغناء عنه من طرف قاطني المنزل، لأنه يُطلّ على الواجهة البحرية.
وكانت القصبة تضمّ ما يقارب عشرة آلاف بناية من العهد العثماني, فتقلّصت إلى ألف مبنى بسبب محاولة الاستعمار الفرنسي تجديد المباني والتي أوجدت أحياء جديدة على أنقاض المباني العثمانية. وقد قامت منظمة اليونيسكو عام 1990 بتصنيف القصبة العتيقة في الجزائر ضمن التراث العالميّ، لتقرّر السلطات الجزائرية إحياء القصبة من جديد وإعادة ترميمها.
ومن أبرز المساجد التي تعرف بها القصبة العتيقة بالجزائر هو "المسجد الكبير"، ومسجد "كتشاوة "، ومسجد "على شنتير".
وكانت القصبة مصدر إلهام لكبار الكتاب الجزائريين من بينهم, الكاتب الرّاحل محمد ديب، المعروف بروايته الشهيرة "دار سبيطار"، و وروايتيْ "الحريق" و"الدار الكبير"؛ فسرد الكاتب في هذه الروايات معاناة سكّان القصبة في سنوات الحرب, وصور التعذيب الذي تعرّض له الجزائريون من قبل الاستعمار الفرنسي.
وأيضاً استلهم الكاتب الجزائري ياسف سعدي, تفاصيل "معركة الجزائر" عن ثورة التحرير من مدينة الجزائر وأحيائها, وهو الكتاب الذي حوله المخرج الإيطالي الراحل "جوليو بونتوكورفو" إلى أهمّ فيلم سياسي في تاريخ السينما, أرّخ من خلاله الأحداثَ التي وقعت في القصبة العتيقة إبان الثورة الجزائرية, وعُرض الفيلم في العديد من قاعات السينما عبر العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.