في يوم السبت، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أي منذ بضعة أيام، دار نقاش ساخن في إيران حول مقطع فيديو تم التقاطه بكاميرات المراقبة، في أحد شوارع طهران. في الفيديو، يلاحق شرطي فتاةً على الرصيف بدراجته النارية ويتحرش بها، والفتاة هي نفسها التي وجدت هذا الفيديو ونشرته على حسابها في موقع X، التي حظرت فيما بعد.
في الفيديو، تسير الفتاة على الرصيف وهي لا ترتدي الحجاب القسري، فيدخل جندي الشرطة بدراجته النارية الرصيفَ، ويتعرض للفتاة. تصاب الفتاة بنوبة غضب وتضرب الجندي، بعد ذلك يجتمع الناس من حولهم، والجميع يسعي على تهدئة الفتاة وإقناعها أن توافق على ألا تتشكى من الجندي.
بعد انتشار هذا الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، انتقد بعض الناس بشدة، المارةَ الذين لم يقفوا إلى جانب الفتاة، بل كانوا يسعون إلى تهدئتها لكيلا تسبب مشاكل للجندي، وكان للبعض رأي آخر، حيث اعتبروا ردة فعل الفتاة مبالغاً فيها، وفعلةَ الجندي لم تكن "بذلك السوء"!
شعرت بأن تلك الفتاة هي أنا، ولقد تخيلت نفسي ألف مرة وسط حشد من الناس "المتحجرين"، وفي الأوقات التي كانت أمي تقول لي فيها في منتصف الأفراح، أو مجالس الحداد، أو الأماكن المزدحمة: "لا ترفعي يدك"، خشيةَ أن يظهر إبطي!
مع انتشار هذا الحدث بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي في إيران، أعلنت شرطة الجمهورية الإسلامية، أنه سيتم إحالة الجندي المذكور إلى الجهات القانونية لعدم التزامه بقواعد المرور، كما سيتم إحالة الفتاة أيضاً، لعدم ارتدائها الحجاب!
فتاة الجامعة
الجدل حول فيديو فتاة الرصيف لم يهدأ بعد، حتى انتشرت صورة أخرى على الإنترنت أثارت دهشة الجميع، وهي صورة لفتاة تقف في المحيط الخارجي لجامعة في طهران، وهي لا ترتدي سوى الملابس الداخلية الأرجوانية، واضعة يديها على صدرها، ملقيةً نظرات باردة نحو المتواجدين من حولها.
هذه الصورة فريدة من نوعها، ولم يسبق انتشار مثلها في إيران، لا سيما أنها التقطت في بيئة إحدى الجامعات الإيرانية، على مسافة أبعد قليلاً من الفتاة، تجتمع بعض النساء الملتفات بـ"الشادور" وبعض الرجال من حراس الجامعة، الذين يتهامسون مع بعضهم بعضاً بوجوه مرتبكة، وفي غضون دقائق، امتلأت منصة X بأكملها بصور الفتاة التي انتشرت فجأة باستخدام هاشتاغ "فتاة العلوم والصناعة"، وهو اسم جامعتها.
وكُتب في وصف هذه الصورة أن الفتاة التي لم يعرف اسمها بعد، بعد أن دخلت جامعة طهران للعلوم، اعترضها حراس الأمن في الجامعة، الذين لم تكن مهمتهم الأساسية الحفاظ على أمن الجامعة، بل السيطرة على ملابس الطلاب والطالبات. ولأن الفتاة لم ترتدِ الحجاب حسب القوانين، اعتُدي عليها من قبل حرس الجامعة بعنف، حيث تمزق جزء من معطفها. بعد ذلك غضبت الفتاة وخلعت كل ملابسها، واصبحت تتجول في الحرم الجامعي، وهي لا ترتدي سوى الملابس الداخلية.
أريد أن أتعرى
إنها مجرد طالبة جامعة، وكسائر الطلاب والطالبات حضرت في الجامعة لمدة سبعة فصول دراسية وفقاً للقواعد. وفجأة، وبعد أن واجهت هذه التعرضات المتتالية، على الرصيف وفي المنزل والشارع والجامعة، طفح الكيل بها وشعرت بالغضب. وكأن أحداث فتاة الجامعة هي تتمة لما حدث مع فتاة الرصيف.
بمجرد مشاهدة الفتاة على المواقع والمنصات، شعرتُ بأنها هي أنا، ولقد تخيلت نفسي ألف مرة وسط حشد من الناس "المتحجرين"، وفي الأوقات التي كانت أمي تقول لي فيها في منتصف الأفراح، أو مجالس الحداد، أو الأماكن المزدحمة، لا ترفعي يدكِ، خشيةَ أن يظهر إبطي، أو عندما صرخ فجأةً أحدهم بقوة في الشارع: "عدلي حجابك"، أو عندما واجهني ذلك الرجل الذي كان يحدق في سروالي، وآلاف المرات الأخرى.
كم هو مألوف هذا المشهد! صورة تمرّدي تجسّدت على يدِ واحدةٍ أخرى؛ هي التي بيَدِها ختمت على أفواه الذين استخفوا بالحركة النسوية والنضالية في إيران (المرأة، الحياة، الحرية)، خصوصاً عندما أغمضوا أعينهم عن النضالات الحادة للنساء اللواتي سئمن كلَّ هذا التعرض والقمع، وحرفوا هدف الحركة بأقاويل مثل أن النساء المشاركات في هذه الحركة، كل هدفهن أن يتعرّين. بهذا أرادوا أن يجعلوا جهودنا وحربنا عديمة، وظلوا يقولون إن هناك أشياء أكثر قيمة، وعليكن أن تقاتلن من أجل الجوع والفقر، فحربكن هذه حرب لا قيمة لها.
بعد سماع هذه الكلمات وفي لحظة جنونية أردت أن أخلع كل الثياب التي كنت أرتديها وأقف عارية أمامهم وأصرخ: "هذا هو كل ما أريد؛ إنه جسدي وأنا حرة، وأحب أن أكون عاريةً. أحب أن أمشي في الشارع بهذه الطريقة، فأنا حرة بجسدي وبأفكاري". أجساد النساء هي ساحة معركة لا تنتهي؛ هذه حقيقة!
اسمها "آهُو دَريايي"
فتحت هاتفي مرة أخرى، وحدقت في صورة المرأة الغاضبة مجدداً. نظرتُ إليها ورأيتُ نفسي في صورتها. انتشر الآن مقطعان لها: المقطع الأول التقطته بعض الطالبات من خلف نافذة الصف. والمثير أن جميع هذه الطالبات لم يرتدين الحجاب وفق القوانين الصارمة المطلوبة. الفتاة التي يُعتقد أن اسمها "آهو دَريايي"، تجلس على منصة في فناء الجامعة بملابس داخلية. تقترب منها امرأة محجبة برفقة رجل ربما يكون من حرس الجامعة، تدفعهما بيدها وتهز كتفيها علامة على صلابتها وإصرارها، فهي لا تخاف ولا ترتبك.
موقفها هذا، لم يزعج الأمن والمحجبات فحسب، بل أصاب الطلاب الذين كانوا من حولها بالارتباك. وما هو واضح من الفيديو، أن معظمهم يحاولون عدم النظر إليها، ويتظاهرون بأنها غير موجودة. هل هم كانوا أولئك الذين تكاتفوا قبل عامين وصرخوا جنباً إلى جنب: "المرأة، الحياة، الحرية"؟! لا أحد يأتي أو يقترب منها ليقف بجانبها. ثم تنهض الفتاة وتضع يديها على صدرها وتسير في الساحة، وكأن الأرض ملك لها، ولا أحد سواها في العالم.
أثناء مشاهدة المقطع، سمعت الطلاب الموجودين فيه يضحكون ويقولون أشياء لا علاقة لها بالموضوع، ويبدو من كلامهم أنهم لا يتعاطفون مع آهو، بل ينتظرون ليروا متى وكيف "سيأخذونها"، حتى أن إحدى الطالبات تضحك هناك وتقول بلُؤم: "لماذا لا يفعل الأمن شيئاً؟". وتقول أخرى بنفس النبرة المتهكمة: "لكن جسمها جميل ورشيق". هذه ليست الأشياء التي يُتوقَّع سماعها. ما هو متوقع هو أن يكون الجميع على قلب واحد وكلمة واحدة، ويدعموا هذه الفتاة الشجاعة التي تعبت من التعرض والمعاملة القاسية بسبب الحجاب، فصرخت في العلن اعتراضاً على الأوضاع. على أية حال، لقد سئمنا جميعاً من وضعنا البائس آلاف المرات، على الأقل على انفراد، وصرخنا، ربما في الوسادة، أو ربما تحت الماء، أو في كوابيسنا.
كم هو مألوف هذا المشهد! صورة تمردّي تجسدت على يد واحدة أخرى؛ هي التي بيدِها ختمت على أفواه الذين استخفوا بحركة "المرأة، الحياة، الحرية"، خصوصاً عندما أغمضوا أعينهم عن النضالات الحادة للنساء اللواتي سئمن كلَّ هذا التعرض والقمع
لماذا وقفت كل أولئك النساء هناك ولم يقتربن من "آهو" ليساندنها؟ لماذا وقف البعض خلف النافذة وضحكوا وكأنهم في صالة سينما ينتظرون بفضول مشاهدة نهاية القصة، وكأن بطلة القصة ليس لها وجود حقيقي؟
ربما لأن أدمغتنا تعلمت مراقبة جميع المواقف، ولأن صورة "المرأة" في عقلنا الباطن هي الباكية والمتوسلة؛ فنحن اعتدنا عليهن ضعيفات، وعليهن أن يبكين حتى يحصلن على دعم من قبل سائر الأشخاص، فربما أن نساعد الفتاة التي تتوسل شرطة الحجاب كي لا يحتجزوها. تعلمنا أن نقف إلى جانب تلك المرأة التي تتوسل ألا تأخذ الشرطة ابنتها. نحن نتفهم ونتعاطف مع كل النساء اللاتي يبكين ويصرخن ضد الظلم، فطبعت صورة المرأة بهذا الشكل في أدمغتنا، وهذه هي أقوى صورة لدينا عنهن، فلم تكن لدينا الجرأة لوضع هذه الصورة جانباً، ورؤية صور النساء المناضلات مثل آهو.
هناك مقطع فيديو آخر عن آهو لم أمتلك القوة لمشاهدته، لكنني قرأت وصفه كاملاً؛ في هذا المقطع يقوم ضباط الأمن بإحضار سيارة، ويقومون بسحب آهو نحو السيارة بعنف ووحشية، وهي تقاوم وترفض الصعود إلى سيارة الشرطة، لكن بعد أن يبرحوها ضرباً، يلقونها في السيارة ملطخة بدمائها.
لقد وصفوها بأنها مجنونة وغير متوازنة عقلياً، ووضعوها في مستشفى للأمراض العقلية. هذا الأمر ليس جديداً، إذ أن منذ بضعة قرون مضت، كانت النساء المتمردات يوصفن بالساحرات ويُحرقن وهن حيّات يتنفسّن. ويبدو أن الأمر لم يتغير كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون