كنت طفلة صغيرة، اعتادت أسرتي أن تشاهد العظة الأسبوعية للقس مكاري يونان، وهو أشهر القساوسة المصريين الراحلين في السنوات الأخيرة، كان كاهناً ذا كاريزما وقبول، يبدأ الاجتماع بالترانيم ثم العظة والصلاة، وكان يبكي حين يرنم ترانيم أغلبها من تأليفه وأشعاره، ويردّد خلفه مئات من الحضور.
لا أتذكر من ترانيمه سوى "أنا التراب افتكري يا نفسي.. أنا التراب أياكي تنسي". كنت أشعر بوخزة في قلبي عند سماعها. لم أحبها ولم أحب بقية الترانيم على شاكلتها وكبر معي سؤال: لماذا علينا أن نبكت أنفسنا كل هذا التبكيت؟ هل من أجل تجنب الجحيم؟ وهل يتلذّذ الله بكل هذا التعذيب الذي يسمعه ويراه؟
ترانيم رسخت لدونية النفس
الترانيم أو الأغاني الروحية في الكنيسة الأرثوذكسية، تُرتل في المناسبات الاجتماعية والاجتماعات، مثل اجتماعات "مدارس الأحد"، وفي الكنيسة الإنجيلية، تُستخدم في اجتماعات الصلاة. وتُعد الترانيم نوعاً من القصائد التي تعبّر عن الإيمان المسيحي وتجسّد أفكاراً لاهوتية محددة. تتم عملية إنتاجها كما يحدث في الأغاني العادية؛ حيث تُكتب كلماتها، وتُلحّن، وتُعزف على آلات موسيقية متنوعة، مثل الكمان، الجيتار، العود، والبيانو، وبعد ذلك، يتم تقديمها، إما في الكنائس عبر كورال الكنيسة، أو من خلال القنوات الدينية والمنصات الرقمية، مثل يوتيوب.
في "مدارس الأحد"، يتعلّم الأطفال حتى سن الثانية عشر، ترانيم تحكي قصصاً من الكتاب المقدس، وتغرس قيماً روحية بأسلوب محبب وشيّق، بعدها تبدأ المرحلة الإعدادية وتبدأ معها تغييرات جذرية في محتوى الترانيم التي تقدم لهم، فكأنما اكتشفوا "هوة النار السحيقة" فجأة التي تنتظر البشر الأشرار -حسب إيمانهم-، حيث تبدأ ترانيم جديدة تركز على التواضع والتحقير الشديد للذات، مثل "أنا أنا الخاطي، أنا مستاهلش، أنا التراب، أنا خاطئ أثيم" وغيرها من الترانيم التي تلعب على تثبيت النظرة الدونية للنفس أمام الله، من منطلق الوصول إلى النموذج الذي يحقق البرّ والقداسة.
في المرحلة الإعدادية تبدأ تغييرات جذرية في محتوى الترانيم التي تقدم للأطفال، فكأنما اكتشفوا "هوة النار السحيقة" فجأة التي تنتظر البشر الأشرار، حيث تبدأ ترانيم جديدة تركز على التواضع والتحقير الشديد للذات
"تراب أنا فهل استحق، حقير أنا ورغم آثامي أريدك وحدك"... هذه الكلمات التي تلخّص محتوى عدد ضخم من الترانيم التعنيفية للنفس، يمكن قياس "تيمة" موحّدة عليها وهي أولاً ضرورة أن يرى الفرد نفسه لا شيء، وأن يؤمن تماماً أن صلاحه يكمن في استمرار تحقيره لذاته، وثانياً أن ينزع عن نفسه صفة الإنسانية التي تكفل له أن يكون بشراً يخطئ ويصيب، يلعن ويكذب أحياناً، ويهمل قداسات الأحد في الصباحات الباردة التي يحلو فيها النوم، كل هذه الأمور لابد أن يتأكد أنها آثام وخطايا وتحالفات شيطانية، لتصبح علّته في تبرير مدى احتقاره لنفسه حتى يحصل على الغفران، تماماً كما تم إيهامه وتحفيظه، فطفل الإعدادية في "مدارس الأحد" الذي نشأ على هذا سيكبر ويعيد فرض هذه النزعة على من حوله، ويجعل فكرة الإيمان مرتبطة بالخضوع الدائم والذنب العميق، بل سيدافع عن كونه مذنباً وخاطئاً لا يستحق، كما يتبنى الفريق الأصولي الآن:
"شايل صليبه على ظهره علشاني أنا
شايل ذنوب كل العالم منهم ذنبي أنا
أنا الخاطي أنا أنا المجرم أنا
أنا المذنب أنا الخاطي ويسوع البرئ".
إرث لن ينتهي
لا يقتصر ترسيخ النظرة الدونية للنفس على محتوى الترانيم التي تُنتج، إنما يتخطى الأمر ليصل إلى منهج عام، اتبعه تقريباً كافة القديسين المكرمين من قبل الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية، ومجّدتهم السيرة الكنسية والأفلام التي أنتجت فيما بعد عن حياتهم، فمثلاً نجد أن ركناً أساسياً محفوظاً في كافة السير، أن هذا القديس كان يصلي بدموع عينيه وهو يردّد "أنا الخاطئ غير المستحق"، بل إن أغلبهم غالوا في تحقير أنفسهم، فتمركزت جمل ذكرت في السير وأصبحت محط أنظار المسيحيين، مثل "أنا مسواش ملو وداني تراب، حد يطول يبقى حمار مارمينا؟، أنا خاطي ذليل مستحقش رحمة". هكذا يشار إلى تواضع هؤلاء القديسين كجزء لا يتجزّأ من قداستهم المعروفة، وبعض العظات تشير إلى تعنيف القديسين لأنفسهم باعتباره المثل الأعلى للمؤمنين، فيذكر عن سيرة الأنبا بيشوي الملقب "حبيب المسيح"، أنه ما أن يشرع في الصلاة حتى يربط شعره في حبل يتدلى من سقف قلايته، حتى إذا غلبه النوم آلمه الحبل فاستيقظ، هذه الأمثلة تُحكى على محمل المقارنة: "انظر كيف تتجاهل الصلاة أو تنساها والقديس فلان كان يفعل كذا في صلاته"، فينتهي الأمر لأن يجد المؤمنون أنفسهم بهذه المقاييس خطاة، مذنبين ولا يستطيعون إرضاء الله كما يجب.
سألت عدداً من المسيحيين الأرثوذوكس تتراوح أعمارهم بين 20 وحتى 45 عاماً، هل تدعم الترانيم والصلوات التبكيتية شعورهم/ن بالذنب؟ تلقيت عدداً من الإجابات مثل:
"كنت أبكي حين أشاهد أفلام القديسين وأرى جهادهم الروحي، شعرت بالذنب والتقصير الشديد وأني هالكة لا محالة، تخطيت هذا الشعور الأن بعدما تغيرت أفكاري تجاه طبيعة التدين ذاته".
أجابني آخر: "كنت خادماً بالكنيسة وكانت ترنيمة (أنا أنا الخاطي) مقرّرة على المرحلة الإعدادية بمثابة النشيد الصباحي، تكملها مناهج الكنيسة التي ترسخ شعور الدونية وتحقير الذات"، أجابتني ثالثة أنها بالفعل تؤمن أنها خاطئة لا تستحق، وكل ماتفعله هو محاولة تدريب ذاتها على الاتضاع أمام الله حتى يقبلها، ورابعة قالت: "لطالما شعرت بالرعب من سماع عظة البابا شنودة (كيف ستقف امام الديان العادل). كلماتها كانت تجبرني على التفكير في الجحيم والعقاب، وكأن جلاداً حتماً ينتظرني وحدي".
الأمثلة تُحكى على محمل المقارنة: "انظر كيف تتجاهل الصلاة أو تنساها والقديس فلان كان يفعل كذا في صلاته"، فينتهي الأمر لأن يجد المؤمنون أنفسهم بهذه المقاييس خطاة، مذنبين ولا يستطيعون إرضاء الله كما يجب
في نفس السياق، تمتد هذه النظرة للذات لتصل إلى حد التماهي مع الإهانات والعنف والأمور التي من غير المعقول تقبّلها إلا تحت نفس هذا الغطاء، مثل تقبل جرائم القتل على الهوية الدينية باعتباره فرحاً وأكليلاً سمائياً لا جريمة يجب رفضها، ففي عام 2020 نظّمت إحدى الكنائس المصرية نشاطاً لأطفال مرحلة ما قبل الابتدائية، كان عبارة عن أنهم أوقفوا الأطفال صف طويل، وألبسوهم بدلة الإعدام البرتقالية، وجعلوهم يركعون على أقدامهم، وبجوارهم يقف الخدام يشهرون السكاكين ويمثلون قاتليهم وسط أصوات الترانيم، كان مشهداً لمحاكاة مقتل 21 مصرياً مسيحياً في ليبيا على يد تنظيم داعش، يفسّر كيف يتعامل العقل المسيحي الأصولي إزاء الموت، فنحن لسنا من هذا العالم ولا يجب أن نتمسّك به، ولابد أن نقابل الموت بالفرح والقبول. هكذا يزرعون في نفوس الأطفال بدلاً من تعليمهم أنهم مواطنين لهم حقوق، ولابد أن يحيوا حياة سوية ومريحة، وأن العنف لا يجب أن نقبله، يخلقون عقولاً استشهادية أمام العقول الجهادية التكفيرية، وكلها حلقات متصلة تماماً ببعضها، فلا يمكن إقناع فرد لديه نظرة منخفضة لذاته بضرورة النظر إلى حقوقه ورفض مايهينه أو يعنفه.
الدين والنظرة للذات
في دراسة بعنوان "الصراع الديني والرضا عن الحياة: احترام الذات كوسيط"، تجادل سيلينا تيموزيك، أن الصراع الديني هنا يشير إلى الشعور بالذنب عن أفعال المرء الخاطئة ضد الله، ويشير عدد من الدراسات أن العلاقة بين التدين واحترام الذات يمكن النظر إليها من خلال وجهات نظر نفسية مختلفة، فمثلاً أشارت بعض البيانات إلى استنتاج مفاده أن تصوير الله على أنه إله قاسٍ ومعاقب كانت مرتبطة بانخفاض احترام الذات وتحقيرها بشكل كبير، وكذلك مرتبطة بقابلية الشعور بالذنب الدائم، وفي نفس الوقت الاعتقاد أن الله ينظر إلى الناس على أنهم "خطاة لا يستحقون"، يشكل ارتباطاً سلبياً بين الدين واحترام الذات.
في الواقع، لاترتبط فقط النظرة السلبية للذات بصورة الله لدى الأفراد، لإنها ربما ترتبط بثقافات و تنشئة فكرية مختلفة، إنما على الصعيد الديني المشترك العام بين المؤمنين، فإن الأديان الإبراهيمية تعزّز هذا التوجه، فلو تساءلنا مالذي يجعل أي إنسان يشعر بالذنب الدائم تجاه الله ويترجم هذا الشعور إلى تحقير ممنهج لذاته، سنجد أن الإجابة هي "الخوف"، إذاً ما مصدر الخوف؟ الإجابة ستكون "النصوص". التخويف والتلويح الدائم في النصوص بالعقاب والعذاب في الآخرة، وهذه النصوص معمّمة بدرجات متفاوتة، بين اليهودية التي صوّرت "يهوه"يقتل ويعنف ويرمي بالمرض، والإسلام الذي تدور معظم خطاباته عن العذاب وأهوال يوم القيامة والنقاش حول عذابات القبر، ولأننا -هنا- نشير إلى المسيحية كنموذج، فإنها تتبنى أيضاً بشكل واضح تصوراً عنيفاً عن عقاب الآخرة -رغم التنصل الدائم من ذلك- ففي رؤيا يوحنا يقول: "وَأَمّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزّنَاةُ وَالسّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ"، واستخدم المسيح تعبيرات مشابهة للوصف نفسه، حين قال في إنجيل متى: "يرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ".
لذا فإن هذه النصوص الدينية تتعمّد إثارة مشاعر الذنب والخوف بشكل دائم، ما يخلق حلقة مستمرة من الإحساس بعدم الكفاية والاحتياج للخلاص، وتقديم قرابين متواصلة لاسترضاء الله وتجنّب بحيرته المليئة بالنار والكبريت.
لماذا يقدسوا التبكيت في الوعظ والترنيم؟
إذا كان الدين يضمن ولاء المؤمنين به من خلال ترهيبهم لكسب طاعتهم وانتمائهم، فإن رجال الدين يكرّسون أنفسهم لضمان ترسيخ هذه النصوص للتلويح بها من وقت لآخر، باعتبار أنهم صورة وتمثيل للمسيح على الأرض، في المفهوم المسيحي. بالنسبة لهم هذه النصوص هي شهادة الضمان التي تكفل لهم استمرار سلطتهم على المؤمنين، فطالما يشعر الفرد بدونية ذاته وأنه خاطئ سيدور في فلكهم، يطلب البركة والصلاة والوعد بالخلاص، وستغلق السلطة الكهنوتية الأصولية أي فرصة أمام المؤمنين للتحرّر بأي شكل.
الأديان الإبراهيمية تعزّز هذا التوجه، فلو تساءلنا مالذي يجعل أي إنسان يشعر بالذنب الدائم تجاه الله ويترجم هذا الشعور إلى تحقير ممنهج لذاته، سنجد أن الإجابة هي "الخوف"
هنا، ربما من المفيد الإشارة إلى الصراع المتجدّد في الكنيسة بخصوص مفهوم وراثة الخطيئة الأصلية في المسيحية، حيث تزعم بعض التفسيرات الآبائية المحافظة أن كل المؤمنين وارثين لخطيئة آدم، أي أن يرث الإنسان طبيعة محكوماً عليها بالموت، طبيعة ساقطة خاطئة وآثمة، ويدافعون بكل قوتهم عن تبني هذا المفهوم الذي يجعل الإنسان المسيحي خاطئاً طوال الوقت وذا طبيعة فاسدة، بل وامتد الأمر أن الآباء في الكنيسة الأرثوذوكسية حرّموا وقاطعوا عدداً من الرهبان والعلمانيين الذين نادوا بأننا لا نرث الخطيئة، وأننا بمجيئ المسيح قد تحرّرنا بالفعل، وذهبوا لأكثر من ذلك، فتناولوا عقيدة تأليه الإنسان.
كلها تعاليم مرفوضة من الجانب الأصولي رفضاً تاماً، لأنها تجعل هؤلاء المعذبين متحررين، وهذه الحالة العامة بالطبع تجعل من المؤمنين أداة في يد الترهيب الديني من ناحية وفي يد الإكليروس من ناحية أخرى، حيث يستميتون للدفاع عن ضرورة التحقير من الجنس البشري، فتظهر لنا عظات وترانيم وكتب تقدّس التبكيت والإذلال والتحقير من الذات، من أجل إيهامهم بأن ذلك هو الطريق المثالي والوحيد الحصول على الخلاص.
ختاماً، يبقى تسليط الضوء على العلاقة بين الدين وممارساته وتحقير الذات مسألة معقدة تتطلب فهماً عميقاً لجوانب وسياقات نصية واجتماعية وثقافية عديدة،وإذا كنا قد أشرنا إلى النصوص المسيحية والعادات والطقوس على وجه التحديد، فإن طريقة استهلاك هذه النصوص من قبل رجال الدين المسيحي، هو ما يُبقي على دوائر التحقير والهيمنة مستمرّة، لكن، السؤال الذي لا بد أن نسأله لأنفسنا: هل يمكن بناء علاقة صحية مع الإيمان ؟
أظن أن الحل لن يأتي إلا من خلال محاولة الأنسنة المستمرّة للدين، بعيداً عن محاولات السيطرة المطلقة على الحيوات، أن يؤمن الإنسان أن ما عليه فعله هو أن يحتفظ بإنسانيته التي تكفل له تمييز الصواب والخطأ، دون شعور مرضي بالتحقير أو التقصير أو الذنب، تحديداً في ممارساته لأبسط الحقوق الحياتية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم