شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مَن لم يحرّكه العودُ فهو فاسد المزاج… فقهاء أجازوا الموسيقى، بل أحبّوها

مَن لم يحرّكه العودُ فهو فاسد المزاج… فقهاء أجازوا الموسيقى، بل أحبّوها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الأربعاء 27 نوفمبر 202409:20 ص

اتفق الكثير من الفقهاء المسلمين على حرمة الموسيقى والغناء. استند هؤلاء إلى تأويل بعض النصوص القرآنية والأحاديث، ومنها الآية السادسة من سورة "لقمان":  "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّه"، والتي قال الصحابي عبد الله بن مسعود إنّ المقصود منها هو الغناء.

وكذلك ما رُوي في "صحيح البخاري" منسوباً إلى النبي: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر -الزنا- والحرير والخمر والمعازف". في المقابل، رفض بعض الفقهاء التأويلات السابقة، فقالوا إن الموسيقى والغناء من الأمور المباحة، والتي لم يقصدها الله بتحريم معيّن. في هذا السياق، تهيأت الظروف لتطور العلوم المرتبطة بالموسيقى والألحان، وعرفت الحضارة العربية الإسلامية ظهور العديد من الموسيقيين المبدعين عبر تاريخها.

في الفترة المبكرة من الإسلام

تواترت العديد من الآثار والأخبار التي تدلّ على أن ممارسة الموسيقى والغناء كانت أمراً معروفاً ومقبولاً في الفترة المبكرة من الإسلام؛ على سبيل المثال، امتدح النبي تلاوةَ أبي موسى الأشعري للقرآن، وقال له: "لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود". ولم يكن هناك بأس من تشبيه الصوت الجميل بصوت المزمار، بعكس روايات أخرى تزعم بأنّ بعض الصحابة قد شبّهوا صوت المزمار بصوت الشيطان.

اتفق الكثير من الفقهاء المسلمين على حرمة الموسيقى والغناء. استند هؤلاء إلى تأويل بعض النصوص القرآنية والأحاديث، ومنها الآية السادسة من سورة "لقمان"

من جهة أخرى، جاء في صحيحَي البخاري ومسلم، عن السيدة عائشة بنت أبي بكر، أنها قالت إن النبي دخل عليها وعندها جاريتان تغنّيان "فاضطجع على الفراش، وحوّل وجهه"، ودخل أبو بكر بعده فانتقد عائشة، فقال له النبي عندها: "دعهما".

كذلك، ذكرت بعض المصادر التاريخية أنّ عدداً من الصحابة كانوا لا يجدون بأساً في سماع الموسيقى والغناء، ورويت في ذلك بعض القصص المشهورة، ومنها أن عبد الله بن عمر بن الخطاب، دخل على عبد الله بن الزبير، وكان بجواره عود، فقال له: "ما هذا يا صاحب رسول الله؟"، فناوله إياه، فتأمله ابن عمر، وقال: "هذا ميزان شاميّ"، فردّ ابن الزبير: "توزن به العقول".

كما يُروى أن عبد الله بن عمر، لما قابل رجلاً يريد أن يبيع جاريةً تضرب على العود، نصحه بعرضها على عبد الله بن جعفر، فنفّذ الرجل مشورته، وباع الجارية، وذلك بحسب ما يذكر محمد بن علي الشوكاني، في كتابه "إبطال دعوى الإجماع في تحريم مُطلَق السماع".

زمن الأمويين والعباسيين

في كتابه "المختار من كتاب اللهو والملاهي"، تحدث ابن خرداذبه (المتوفى في أواخر القرن الثالث الهجري)، عن العديد من الموسيقيين والمغنّين الذين اشتهروا في القرن الأول الهجري في المدينة المنورة. من هؤلاء سيرين، أخت مارية القبطية، التي يذكر أنها كانت تغنّي أشعار حسان بن ثابت، وأن النبي مرّ بها ذات يوم، فلم ينكر عليها، وعزّة الميلا، التي "كانت من أحسن الناس وجهاً وغناءً وضرباً بعود ومعزفةً وكانت مطبوعةً على صنعة الغناء مؤلفةً له"، والجارية جميلة "التي أجمع أهل العلم بالغناء أنها كانت أعلم الخلق بالغناء لا يدّعي أحد من المكّيين والمدنيين مقاربتها فيه".

أيضاً، عرف المجتمع الإسلامي ظهور العديد من الفقهاء والعلماء، الذين لم يمنعهم علمهم عن عزف الألحان الموسيقية والغناء. من هؤلاء المحدث الشهير إبراهيم بن سعد الزهري، الذي "كان ممن يترخص في الغناء على عادة أهل المدينة، وكأنه ليم في ذلك، فانزعج على المحدثين، وحلف أنه لا يحدث حتى يغنّي قبله"، وذلك بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي، في كتابه "سير أعلام النبلاء".

 اشتهر الغزالي بقوله الممتدح للموسيقى: "مَن لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج".

يذكر الخطيب البغدادي في كتابه الشهير "تاريخ بغداد"، بعض القصص المثيرة عن الزهري، ومن ذلك أن خبره قد وصل إلى مسامع الخليفة العباسي هارون الرشيد، فاستدعاه وطلب منه أن يذكر له حديثاً عن النبي، ولكن الزهري لم يروِ له الحديث إلا بعد أن طلب عوداً، وضرب عليه منشداً بعض الأشعار المنسوبة إلى عمر بن أبي ربيعة المخزومي.

في السياق نفسه، اشتهر أمر مفتي المدينة، يوسف بن الماجشون، الذي ذكره جمال الدين المزي، في كتابه "تهذيب الكمال"، ووصفه بأنه "كان مولعاً بسماع الغناء ارتجالاً وغير ارتجال".

كذلك قيل إن الإمام مالك بن أنس الأصبحي، قد مارس عزف الموسيقى والغناء قُبيل اشتغاله بالفقه والعلم الديني. إذ رُوي عنه أنه قال: "تعلمت هذه الصناعة -يقصد الموسيقى- وأنا غلام شاب، فقالت لي أمي: أيْ بُني! إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولستَ كذلك، فاطلب العلومَ الدينية؛ فصحبتُ ربيعة -يقصد ربيعة بن عبد الرحمن- فجعل الله في ذلك خيراً"، وذلك بحسب ما يذكر أبو عبد الله القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن".

في القرن الثالث الهجري، ظهر الموسيقي الشهير أبو إسحاق الموصلي، الذي كان مقرّباً بشكل كبير من بلاط الخلافة العباسية في بغداد، وقد وصفه شمس الدين الذهبي، بأنه "ذو الفنون... صاحب الموسيقى، والشعر الرائق".

كما ظهر تلميذه أبو الحسن علي بن نافع الموصلي، المعروف باسم زرياب، والذي بذل جهوداً كبيرةً لنقل الموسيقى المشرقية للغرب بعدما غادر العراق وسافر إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ليعمل في خدمة الخلفاء الأمويين في قرطبة.

أما في القرن الرابع الهجري، فقد خطا المهتمون بالفنون الموسيقية خطوةً مهمةً على طريق حفظ وتدوين تراثهم الغنائي، وذلك بعدما قام أبو الفرج الأصفهاني، بتأليف كتابه الشهير "الأغاني"، وهو موسوعة أدبية عظيمة، جمع فيها الأغاني والألحان المتميزة في عصره والعصور السابقة مع ذكر الطرائق المختلفة للغناء.

الغزالي وابن حزم

في القرن الخامس الهجري، ومع الزيادة المطردة في التعاطي مع فنَّي الموسيقى والغناء، ظهرت آراء فقهية قوية ترفض القول بحرمة الموسيقى. من أشهر تلك الآراء، الرأي الذي قال به الفقيه الأندلسي ابن حزم الظاهري، في كتابه "المُحلى". فقد شكك ابن حزم، في جميع الأحاديث النبوية التي ذكرت تحريم الغناء والموسيقى، وقال: "لا يصحّ في هذا الباب -يقصد باب تحريم الموسيقى والغناء- شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله لما ترددنا في الأخذ به".

في السنوات الأخيرة من القرن الخامس الهجري، حظيت الموسيقى بدفاع قوي من قِبل حُجة الإسلام أبي حامد الغزالي. اشتهر الغزالي بقوله الممتدح للموسيقى: "مَن لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج".

كما خصص باباً كاملاً للحديث عن أنواع الموسيقى والأحكام الفقهية المرتبطة بها في كتابه الشهير "إحياء علوم الدين". عدّد الغزالي، في هذا الباب، أصنافاً مختلفةً مما سمّاه بالسماع الحلال، ومنها سماع العشاق الذي يشهد "تحريكاً للشوق وتهييجاً للعشق وتسليةً للنفس. فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض رجاء الوصال، فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوّة لذة الرجاء بحسب قوّة الشوق والحب للشيء المرجوّ".

شكك ابن حزم، في جميع الأحاديث النبوية التي ذكرت تحريم الغناء والموسيقى، وقال: "لا يصحّ في هذا الباب شيءٌ أبداً، وكل ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله لما ترددنا في الأخذ به..."

وأيضاً سماع الصوفية، وهو "سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كل حسه عن ذوقها". وللتأكيد على رأيه في إجازة السماع، ذكر الغزالي بعض القصص الغيبية التي تشهد على أن الموسيقى والغناء حلال لا إثم فيهما.

ومنها ما حُكي عن بعض الشيوخ من أنهم قد رأوا الخضرَ، فسألوه عن السماع، فقال لهم: "هو الصفوُ الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء". وما حُكي عن أحد العلماء أنه قد رأى النبي في المنام ذات يوم، فسأله عن السماع، فرد عليه النبي: "ما أنكر منه شيئاً ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن".

الدفاع عن الموسيقى، وجد فقيهاً آخر من أسرة الغزالي، هو أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي، أخو حجة الإسلام. صنّف أبو الفتوح، كتابه المعنون بـ"بوارق الإلماع في تكفير من يحرم السماع وتبيين شرفه بالإجماع". وذكر فيه أن "من قال إن سماع الغناء حرام أو ضرب الدف حرام، أو حضورهما حرام، كأنما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع حراماً ومنع النهي عن الحرام، ومن اعتقد ذلك كفر بالاتفاق".

في القرون التالية، تواترت الأقوال وتضافرت على إجازة الموسيقى، حتى خصص المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون، فصلاً في مقدمته للحديث عن الموسيقى والغناء، وعنونه بـ"فصل في صناعة الغناء". وفي القرن التاسع الهجري، انتشرت صنعة الموسيقى بين الوعّاظ الشعبيين الذين اعتاد العامة على سماع قصصهم.

ومن هؤلاء الواعظ شهاب الدين أحمد بن محمد، المعروف بالقرداح، والذي ذكره ابن حجر العسقلاني، في كتابه "إنباء الغُمْر بأبناء العمر"، فوصفه بقوله: انتهت إليه رياسة الفن -يقصد الوعظ- ولم يكن في مصر والشام من يدانيه في هذا الوقت، فإنه كان طيب النغمة عارفاً بالموسيقى، يجيد الأعمال -الموسيقى- ويتقنها ولا ينشد غالباً إلا مُعْرِباً... وكان يعمل الألحان وينقل كثيراً منها إلى ما ينظمه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image