عند الحدود الفاصلة بين البر والبحر في قطر، تنمو أشجار المانغروف مستفيدةً من مياه البحر المالحة ودرجات الحرارة المرتفعة، لتوفر موطناً لعدد من الطيور والحيوانات البرية والبحرية، ومكافحةً التغير المناخي بامتصاصها ثاني أكسيد الكربون وتخزينه في التربة.
ازدادت مساحة أشجار المانغروف في قطر بنسبة 55 في المئة، خلال السنوات السبع الماضية، جراء مجهود وزارة البيئة والتغير المناخي في الحفاظ على هذه الشجرة وزراعتها في أربع مناطق جديدة على السواحل الشمالية والشرقية، بعد أن كان وجودها مقتصراً على منطقتي الخور والذخيرة، وذلك وفقاً للوكالة القطرية للأنباء.
وتأتي هذه الزيادة في مساحة المانغروف بعد انخفاض أعدادها جراء التوسع الحضري، خصوصاً عام 2013، حين دُمرت غابات المانغروف في مدينة الوكرة لبناء "ميناء الوكرة". أما الآن، فتوجد هذه الأشجار في مناطق الرويس، وأم الحول، وفويرط، وراس مطبخ، حيث لم توجد من قبل.
ازدادت مساحة أشجار المانغروف في قطر بنسبة 55 في المئة، خلال السنوات السبع الماضية.
غابة وسط الصحراء
يقول مارك شاتينغ، الباحث في مركز العلوم البيئية في جامعة قطر، إنّ ما يجعل أشجار المانغروف مميزةً في البيئة القطرية هو كونها "غابةً في وسط الصحراء"، فهي غالباً ما تنمو في المناطق الاستوائية حيث تكون موائل تغذّي الأسماك، بامتصاصها العناصر الغذائية من الأمطار عبر التربة لتقديمها للكائنات البحرية. أما في قطر، فتفترض الأبحاث أن المانغروف يعمل بطريقة عكسية نتيجة غياب الأمطار ليقدم العناصر الغذائية إلى التربة.
وفي هذا السياق، يشير بوير بينو، وهو متخصص في مجال حماية المانغروف في اليونيسكو، في حديثه لرصيف22، إلى أنّ أهمية المانغروف لقطر تكمن في كونها تشكل غطاءً نباتياً يحتوي الكائنات الحية ويحميها في غياب الأمطار الدائمة، فوجودها يزيد من وجود الأسماك، والحفاظ عليها يؤمّن غذاء الكائنات البحرية، مضيفاً أنّ الحفاظ عليها يساعد في تحقيق الأمن الغذائي لقطر لأنها تؤمّن المأكولات البحرية، إذ "تبدأ السلاسل الغذائية من النباتات".
وتشكّل أشجار المانغروف نظماً للكربون الأزرق، الذي يعني عملية عزل وتخزين الكربون بواسطة النظم البيئية الساحلية، مما يؤدي إلى تقليل آثار التغير المناخي. وهي تزيل الكربون من الجو وتخزنه في الأوراق والسيقان والجذور، مما يجعلها أكثر كفاءةً من الغابات الأرضية، بحسب شبكة مرونة الشعاب المرجانية.
وفي ظل ارتفاع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في قطر، تساهم أشجار المانغروف في امتصاص الكربون ومكافحة التغير المناخي. إذ بلغت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في قطر نحو 92 ألف كيلو طن عام 2019، مرتفعةً بنسبة 41 في المئة عن عام 2009، بحسب بيانات البنك الدولي.
ومع زيادة عدد السكان في قطر والأنشطة الصناعية والتطور العمراني، تزداد أهمية حماية المانغروف ووضعها في محميات لمقاومة التغير المناخي الذي يُعدّ المهدد الأكبر للحياة البشرية، وفقاً لبينو.
محميات المانغروف ضرورة حيوية
يشير شاتينغ، خلال حديثه إلى رصيف22، إلى أنّ بعض الشركات العالمية، مثل شركة "شانيل" للأزياء والعطور وشركة "أورانج" للاتصالات، تزرع أشجار المانغروف في المناطق الاستوائية لتخفيض انبعاثاتها من الكربون، وذلك "كخيار بديل عن دفع المال الكثير لخفض الانبعاثات، فيستثمرون في زراعة المانغروف للاستفادة من خاصية الكربون الأزرق"، لكن هذا الخيار لم يُستعمل من قبل الشركات في قطر إلى الآن، لأسباب غير محددة.
وتشكّل المحميات الطبيعية 23 في المئة من مساحة قطر. وفي المجمل، هناك 12 محميةً طبيعيةً بيئيةً، اثنتان منها محميتان بحريتان لأشجار المانغروف هما خور العديد والذخيرة، وتبلغ مساحتهما 720 كيلومتراً مربعاً، بحسب جهاز التخطيط والإحصاء.
ترتفع وتيرة الأنشطة السياحية في محميات المانغروف، إذ يذهب السيّاح لممارسة رياضة سباق قوارب الكاياك والتجديف بين أشجار المانغروف، مع أهمية ممارسة هذه الأنشطة السياحية بشكل صحيح يحترم الطبيعة كي لا تؤذي الأشجار
وتؤكد دنيا عبد الواحد، مسؤولة برنامج العلوم في مكتب اليونسكو في الدوحة، على حيوية وجود محميات المانغروف في قطر، إذ إنّ "أكبر تهديد تواجهه هذه الشجرة في البلاد يتمثل في إزالتها جراء التوسع الحضري"، موضحةً أنه عند حدوث ذلك، يُزال الحاجز الطبيعي الذي يحمي السكان من ارتفاع مستوى سطح البحر، والذي يعرّض السواحل لخطر الغرق وتدمير المناطق الشاطئية.
وتضيف عبد الواحد، لرصيف22، أنّ برنامج محميات المحيط الحيوي لدى اليونسكو يوفر إمكانية خلق توازن بين الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية وحماية النظم البيئية، وهذا يمكن أن يتحقق في محميات المانغروف، مشيرةً إلى أنّ قطر حققت ذلك في محمية الريم التي تُعدّ من الأهم لحفاظها على التنوع النباتي والحيواني.
إلى جانب ذلك، ترتفع وتيرة الأنشطة السياحية في محميات المانغروف، إذ يذهب السيّاح لممارسة رياضة سباق قوارب الكاياك والتجديف بين أشجار المانغروف، مع أهمية ممارسة هذه الأنشطة السياحية بشكل صحيح يحترم الطبيعة كي لا تؤذي الأشجار، بحسب عبد الواحد.
ما يجعل أشجار المانغروف مميزةً في قطر هو كونها "غابةً في وسط الصحراء"، فهي غالباً ما تنمو في المناطق الاستوائية وتمتص العناصر الغذائية من الأمطار عبر التربة لتقديمها للكائنات البحرية. أما في قطر فتعمل بطريقة عكسية نتيجة غياب الأمطار لتقدم العناصر الغذائية إلى التربة
رفع الوعي وجهود تطوعية
في هذا الصدد، يقول محمد رجب، مسؤول العمليات في شركة "أكواسبورتس" التي تنظم رحلات سياحيةً إلى "الجزيرة البنفسجية" في محمية الخور لممارسة الكاياك، إنّ شركته تحرص على حماية المانغروف في أثناء زيارة السياح، فهم يمنعون استخدام البلاستيك، ولا يعتمدون على المحركات لتحريك القوارب حمايةً للبيئة من انبعاثاتها، ولعدم إخافة الحيوانات والطيور التي تعيش في الغابة بصوت المحرك، خصوصاً الطيور المهاجرة إلى قطر في موسم الشتاء مثل طائر الفلامنغو. وأضاف لرصيف22: "نحرص على توعية الزوار بدور المانغروف البيئي وكيفية تأقلمه مع الصحراء والمياه المالحة".
سياح يمارسون رياضة الكاياك على شواطئ قطر المزروعة بأشجار المانغروف - تصوير: غنى الخطيب
ولا تقتصر التوعية البيئية على النشاطات السياحية، إذ يقوم "مركز أصدقاء البيئة"، بالتعاون مع وزارة البيئة والتغير المناخي، بحملات تطوع تستهدف الشباب لحثهم على حماية البيئة وتحسينها وتعميق الوعي البيئي لديهم، وكان آخرها حملة "كلنا مسؤول" التي تضمنت جمع وزراعة 500 بذرة مانغروف في محمية الذخيرة.
وفي هذا السياق، تقول عبد الواحد، إنّ حماية البيئة لا تقع على عاتق الدولة فحسب بقيامها بالمحميات وإعادة الزراعة ومنع العمران، بل هناك دور لمبادرات المجتمعات المحلية من خلال الانخراط في العمل البيئي لحماية أشجار المانغروف، موضحةً: "وجدنا أن أفضل طريقة لحماية هذه الأشجار هي المبادرات المجتمعية التي تحمي الغابات على المدى الطويل. لكن يجب أن يتوازى ذلك مع تطبيق السياسات وإعطاء الأولوية للمانغروف على حساب التوسع الحضري".
ويقول هايل الواوي، متطوع في مركز أصدقاء البيئة وخبير نباتات برية، إنّ الحملة هدفت إلى إطلاق طاقات الشباب، "لأن الحفاظ على موارد الطبيعة يقع على عاتقهم لكونهم صلة الوصل بين الحاضر والمستقبل البيئي للأجيال القادمة"، مشيراً إلى أنّ هذه الحملة انطلقت من المساجد لربط القيم البيئية مع القيم الدينية والأخلاقية التي تركز على قيام الفرد بما يصب في مصلحة المجتمع.
من ورشات التوعية في قطر حول أهمية المانغروف وزراعته - خاص رصيف22
ويضيف الواوي، لرصيف22، أنّ الحملات التي يقوم بها المركز تزيد من اهتمام الشباب بأشجار المانغروف، خصوصاً عند أهالي الذخيرة. إذ ما تزال لهذه الشجرة أهمية لدى المجتمع المحلي لكون السكان استعملوها منذ القدم في بناء سقوف البيوت والقوارب للعمل والصيد.
توجهت الحملة إلى طلاب المدارس في الذخيرة، لتعلّم الجيل الصغير الارتباط بالبيئة وغابات المانغروف، وأهمية دورهم وسلوكهم في الحفاظ عليها، كما أنّ العديد من الشباب الذين ينخرطون في حملات المركز، سرعان ما يقومون بحملاتهم الخاصة لحماية البيئة لإدراكهم قيمة دورهم، وفقاً للواوي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.