شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
ما عشته كمصريّ في بارات القاهرة، عمّان وبيروت

ما عشته كمصريّ في بارات القاهرة، عمّان وبيروت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تشبهنا باراتنا كثيراً. إذا كنّا أحراراً امتلأت هي بالفرح والصخب، وإذا حزنّا وجدت الدموع تملأ الكؤوس، لذلك اعتدت عند قدومي لأي مدينة جديدة زيارة باراتها، حيث الحقيقة بلا رتوش، بداية من موقع البار وقوانينه، وصولاً إلى حكايات الجالسين التي عادة ما تكون صادقة.

ولأني من أبناء القاهرة، وزرت معظم باراتها، يمكنني القول إن في كل حي بالمحروسة باراً أو أكثر، هذا ليس دليل انفتاح، ربما كثرة البارات تتناسب مع عدد السكان، أو تمسّك بماضِ كانت فيه زجاجات البيرة تسكن ثلاجات البيوت، المهم أننا لا نعاني من ندرة، لكن موقع البارات يدلّك أيضاً، فهي إما أعلى أو أسفل الفنادق، مغطاة بأبواب لا تظهر ما بداخلها.

أما الأصناف فمتنوعة، منها المخصّص لجلسات الأصدقاء وزملاء العمل، وتلك لن ترى فيها سوى "ترابيزات" أعلاها زجاجات البيرة وحولها أناس يتحدثون، وهناك بارات أكثر حرية، مخصّصة للشباب، حيث الموسيقى عالية والتمايل على الأنغام متاح دون تجاوز، وفيها يمكن الفوز بقبلة من صديقتك شريطة أن لا يراك العمّال، ونوع ثالث لا مجال فيه للحديث وسماع الآخر، فهي بارات للفرح فقط، ترقص فيها حتى التعب وتحتضن صديقتك علناً فلن يقول لك أحد لا، أما النوع الأخير فهو للوحيدين الذين لا يريدون سماع صوت، فلا موسيقى في المكان أو وجه حسن ستطالعه، بل وأحياناً لن ترى إلا عاملاً واحداً سيقدم لك مشروبك ويتركك في إضاءة خافتة.

بارات القاهرة مثلها، متنوّعة كتنوّع أهلها، ومختلفة الحالات بين الحزن الكامل والفرح الخالص كحال سكّانها، متمسّكة بهويتها فلن ترى أنواع بيرة غربية كثيرة، ولن تسمع داخلها إلا أغاني مصرية. مواقع تلك البارات المتوارية تشبه القاهرة، عاصمة ترفض الجهر بالحرية حتى لو كان قانونياً، المهم أن تظل "عاصمة إسلامية"

بالطبع تلك التصنيفات من عندي، لكنك عزيزي القارئ، إن زرت أي بار في القاهرة لن تخرج عن تلك التصنيفات، ولكل نوع ثمنه، وأغلاهم ما يمكنك أن تكون فيه حراً تماماً.

لذلك، فبارات القاهرة مثلها، متنوّعة كتنوّع أهلها، ومختلفة الحالات بين الحزن الكامل والفرح الخالص كحال سكّانها، متمسّكة بهويتها فلن ترى أنواع بيرة غربية كثيرة، ولن تسمع داخلها إلا أغاني مصرية، أيضاً مواقع تلك البارات المتوارية تشبه القاهرة، عاصمة ترفض الجهر بالحرية حتى لو كان قانونياً، المهم أن تظل "عاصمة إسلامية"، أما غلاء أسعار "بارات الفرح" مقارنة بـ"بارات الأصدقاء"، فصورة متطابقة تماماً لمصر بالكامل، فللفرح والحرية ثمن دائماً.

أما العاصمة الأردنية عمّان فالوضع مختلف، فالبارات قليلة قلّة عدد سكانها مقارنة بمصر، أدركت هذا حين قادني زميل بسيارته لأكثر من نصف ساعة لإيجاد بار، رغم إقامتي في قلب العاصمة، وحين وصلنا وجدت أن الأمور لا تختلف عن القاهرة من حيث الموقع، فالبار أسفل بناية وذو أبواب مغلقة لا تظهر ما بداخلها.

في داخل هذا البار الذي بحثت فيه عن كأس يُدفئني في شتاء ديسمبر، لم أجد أردنيين تقريباً، معظم الحاضرين من جنسيات أخرى، مصريين وخليجيين وأجانب. سألت صديقي الأردني فأخبرني أنهم يفضلون الشرب في البيوت، فالأسعار مرتفعة والغلاء لا يرحم أحداً، كما أنهم لا يحبّون أن يراهم أحد داخل تلك الأماكن!

في بارات بيروت بإمكانك أن تسمع موسيقى بصوت عال، تشرب كأساً في بار مفتوح لترى الجميع دون خوف، وترقص الفتيات ليسقطن كل قوانين الشرف والأخلاق المزعومة، وهنا بإمكان فتاة ألا ترتدى سوى ما يغطي صدرها فقط دون خوف، وهنا يمكن لغريب مثلي أن يرقص مع غرباء ويفوز بقبلة من فتاة يلتقيها لأول مرة

ربما لهذا كان البار مقصداً لفتيات الليل اللاتي يطلقن إشارات يفهمها من اعتاد البارات، دون ذلك ليس هناك جلسات أصدقاء أو نقاش، فقط أناس يشربون ويستمعون إلى أغان مصرية استولت على قائمة الموسيقى، تلك هي الصورة التي رأيتها في أكثر من بار، والتي جعلتني أقول: تشبه بارات الأردن الأردن، السكّان الأصليون قلّة والغرباء كُثر والحرية يجب أن تبقى سرّاً.

في بيروت التي زرتها مؤخراً اختلف الأمر تماماً. إقامتي في منطقة الحمراء لم تمنحني فرصة البحث عن بار، فالبارات أكثر من أن تحصى، ومعظمها أسفل البنايات لكنها ليست ذات أبواب مغلقة، هذا أول ما رأيته: أبواب مفتوحة تعلن للجميع عن هويتها، وشباب يقفون ويتراقصون بملابس كاشفة، ممسكين بالكؤوس، غير مكترثين أن يراهم أحد، ولا يخشون شرطة تسألهم ما هذا، أما الأغاني فهي متنوعة، بارات تسيطر عليها أغاني غربية، وأخرى للأغاني الشرقية، وبعضها تمزج بين الاثنين.

في القاهرة، فاتورة باهظة للحرية

ما لاحظته أيضاً في بارات بيروت، أنها لجميع الأغراض، ففي البار الواحد أماكن مخصّصة لحديث الأصدقاء، وأخرى للرقص، والجميع يفعل ما يريد حتى لو رقص أمام أبواب البار نفسه، وبعض تلك البارات يفتح صباحاً، من أقنعنا أن البار لليل فقط؟

المثير أن جلستي في أماكن كتلك جعلتني أتوقع فاتورة مرتفعة، فللحرية ثمن، لكني فوجئت بفاتورة أرخص بكثير من القاهرة.

بارات بيروت مثلها، تنبض بالحياة رغم كل الآلام التي تحاصرها، وتشتعل بالموسيقى رغم قلة الوقود، وأبوابها مفتوحة للجميع، تعلن ما في داخلها ولا تدعّي أخلاقية زائفة، وأنواع البيرة فيها "على كل شكل ولون"، والأهم لا تجعلك تدفع ثمن ما تعيشه من فرح.

وأخيراً، حين سرت في شوارع الحمراء لأول مرة، باحثاً عن سر تلك الرقعة، أصابني الإحباط، فلا مبنى مميز أو برجاً أيقوني أو حتى أثراً دينياً يمنح المكان هيبته، فقط مطاعم وبارات على الجانبين. أهذا كل شيء، أهذا ما دفع نزار قباني للكتابة عن المنطقة، وجلب محمود درويش ورفقته للجلوس في المقاهي المجاورة؟

لكن بعد أسبوعين من رؤيتي للمشاهد التي سردتها سابقاً، عرفت لماذا "الحمراء"، فلا المباني ولا الأبراج والآثار سر تلك البقعة. إنها الحرية، الحرية فقط ما تجعل القلوب تهفوا إليها بهذا الشغف، هنا بإمكانك أن تسمع موسيقى بصوت عال، تشرب كأساً في بار مفتوح لترى الجميع دون خوف، وترقص الفتيات ليسقطن كل قوانين الشرف والأخلاق المزعومة، وهنا يلتقي الأصدقاء ويتعانقون وتشتعل حماستهم، فيصعدون أعلى الكراسي ليرقصوا، وهنا بإمكان فتاة ألا ترتدى سوى ما يغطي صدرها فقط دون خوف، وهنا يمكن لغريب مثلي أن يتابع كل ذلك ويرقص مع غرباء ويفوز بقبلة من فتاة يلتقيها لأول مرة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard