قبل أربعين يوماً من حلول شهر رمضان، يتوقف هاني عن تناول الكحول "ليتطهر"، فمه ولا يكون "نجساً" حين يأتي الشهر الفضيل. يغيّر نبرة صوته وهو يتحدث عن ذلك مقلداً نبرة صوت زوجته.
ترتسم على وجه الشاب البالغ من العمر 38 عاماً ابتسامة عريضة، ثم يواصل: "هذا ما تقولهُ لي، فأمتثل لأنني سأشعر بالذنب لو شربتُ في شهر رمضان بكل تأكيد".
في حالة هاني، المنع ذاتي، وليس بسبب إجراءات الدولة وحظرها الذي تفرضه على المجاهرة بشرب الكحول، وعلى بيعه خلال شهر رمضان، لأن بوسعه كما يقول أن يشتري وبكل سهولة حاجته منه. ولعدم إغضاب زوجته، يمكنه أن يتناوله بصحبة الأصدقاء في منزل أحدهم.
يُخرج سيجارة من جيب قميصه، يمررها أمام أنفه، ويستنشق رائحتها بعمق ويقول: "سأحاول إكمال الشهر دون تدخين للمرة الأولى منذ أن كُنتُ مراهقاً قبل سنوات بعيدة". يعيد السيجارة إلى جيبه ثم يضيف بعد نوبة ضحك: "ينتهي حظر الكحول والدخان ما أن يأتي عيد الفطر وألتقي بأصدقائي في واحدة من جلساتنا".
أياً كانت طقوس تناول الكحول التي يتّبعها هاني أو سواه في مصر، فهم وضعوا في حسبانهم أنه مع منتصف ليلة اليوم الأول من رمضان، تغلق وبأوامر حكومية صارمة، كافة المحال التي تبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها.
هو تقليد مصري سنوي، يتكيّف معهُ محبّو الكحول بتأمين حاجاتهم على نحو استباقي. وآخرون لا يجدون ضيراً من التوقف عن الشرب لشهر واحد.
ولا يقتصر حظر بيع الكحول وتناول المصريين له على شهر رمضان، فمنذ عام 2012 حظرت الحكومة بيعه في مناسبات دينية إسلامية هي ليلة رأس السنة الهجرية وليلة الإسراء والمعراج ويوم المولد النبوي ويوم وقفة عرفات، بقرار أصدره وزير السياحة المصري حينذاك منير فخري عبد النور.
تلوح الابتسامة على وجه هاني مجدداً ويقول بمكر:
بخلاف هاني، لا يجد علي (45 عاماً) فرقاً بين تناول الكحول في رمضان وتناوله في غير رمضان. يقول: "الكحول واحد، والأيام مثل بعضها، لا يختلف يومٌ عن آخر". هذه فلسفته حيال الأمر.
لكن برأيه، "حظر بيع الكحول يساعد على التقليل من الشرب، لتوفير المال والمشروب من جهة، وللمحافظة على الصحة من جهة أخرى".
مع ذلك، هو لا يتوقف عن شرب الكحول بنحو تام خلال رمضان: "أشرب أقل من فترات السنة الأخرى، وأتناول الخفيف منه فقط كالبيرة".
عقوبات... لكن ليس على شرب الكحول
يوضح المحامي علي إبراهيم أن القانون المصري ينظّم عملية بيع وتناول المشروبات الكحولية "وفقاً لأحكام القانون رقم 63 لسنة 1976، والذي ينص على حظر تناول الخمور في الأماكن العامة والشوارع والميادين، لكن يستثنى من ذلك الفنادق والمنشآت السياحية والأندية ذات الطابع السياحي، كما أنه يحظر النشر أو الإعلان عن المشروبات الكحولية في الشوارع والميادين أو حتى في الأماكن المسموح لها ببيع الكحول أو تقديمه".
ويفرض القانون عقوبات على مخالفي حظر تقديم أو تناول الكحول في الأماكن العامة أو المحال العامة "بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائتي جنيه (نحو 11 دولاراً) أو بإحدى هاتين العقوبتين"، كما "يعاقَب بذات العقوبة مستغل المحل العام أو مديره الذي وقعت فيه الجريمة"، بحسب نص المادة الخامسة من القانون.
وتنص المادة نفسها على "يجب الحكم في جميع الأحوال بالمصادرة، وبإغلاق المحل لمدة لا تقل عن أسبوع ولا تزيد على ستة أشهر".
هذا القانون المعروف بـ"قانون حظر شرب الخمر" هو لكل الأوقات ولا يطبّق فقط في رمضان. ولا توجَد فيه أي مادة تفرّق بين رمضان وغيره.
ولا يستند منع تقديم الخمور للمصريين خلال رمضان في الفنادق والمنشآت السياحية إلى نص قانوني بل إلى قرار من وزير السياحة. وكذلك، فإن منع المحال من بيع المشروبات الكحولية يستند إلى قرارات إدارية.
ويشير المحامي علي إبراهيم إلى أنه لم يشهد قضية يعاقَب فيها شارب كحول في نهار رمضان، ولا حتى في خارج رمضان.
ويقول عن ذلك: "الشكاوى تُحرَّك والدعاوي تُفتح، ليس عن الشرب بحد ذاته، بل عن السكر والعربدة، أي ما ينتج عن الشرب من فعل آخر يُعَدّ مخالفة أو جنحة أو جناية".
ولكن المادة السابعة من القانون المذكور تنص على أنه "يعاقَب كل مَن يُضبط في مكان عام أو في محل عام في حالة سكر بيّن بالحبس الذي لا تقل مدته عن أسبوعين ولا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تقل عن عشرين جنيهاً ولا تجاوز مائة جنيه، ويجب الحكم بعقوبة حبس في حالة العود".
يراجع المحامي سريعاً معلوماتٍ في ذهنه ثم يواصل معقباً: "أيضاً، في حال تم القبض على شخص يتناول الكحول في الأماكن العامة، تتم مراعاة تغليظ العقوبة في نطاق القانون وبنحو استثنائي لأن منفّذ القانون يضع اعتباراته الدينية بزعم أنها جزء من روح القانون".
العقوبات المجتمعية أشد قسوة
يبيع العم عادل (اسم مستعار)، في محله الصغير في الإسكندرية، إلى جانب أنواع من المكسّرات والسكاكر، البيرة والآي دي، حسب الترخيص الخاص به. يهمس بصوت خافتٍ لكي لا تستمع سيدة كانت في الجوار: "أحياناً أبيع بعض المشروبات الأخرى، مثل الويسكي المحلي، لأن سعره أقل بكثير من المنتجات المستوردة".
يعود صوتهُ للارتفاع بعد أن تأكد من ابتعاد السيدة: "لكنني أضطر لأن أخبئهُ وأبيعه بشكل غير علني، فليس مسموحاً لي بيع الويسكي، وأنا أفعل ذات الشيء مع باقي الأنواع في رمضان".
ينفجرُ ضاحكا، ثم يقول: "
يدخلُ شابٌ بهدوء إلى المحل. يعرف العم عادل جيداً ما يتوجب عليه فعلهُ في هذا الوقت من السنة تجنباً للعقوبات. يُخرج علبتي بيرة، يلفّهما بورق جريدة قديمة، ثم يضعهما في كيسٍ غامقٍ قبل أن يناولهما للشاب الذي بدا زبوناً مواظباً.
ما يخيف العم عادل هو محيطه الاجتماعي أكثر من قوى إنفاذ القانون. يقول: "الحكومة ربما تحبسني أو تغرمني، لكن الجيران سيسحلونني على الأرض ويحاولون الحصول على أكبر قدر ممكن من الحسنات، بضربي"
ما يخيف العم عادل هو محيطه الاجتماعي أكثر من قوى إنفاذ القانون. يقول: "الحكومة ربما تحبسني أو تغرمني، لكن الجيران سيسحلونني على الأرض ويحاولون الحصول على أكبر قدر ممكن من الحسنات، بضربي".
يروي العم عادل، بكثير من التأثر، كيف أنه وخلال عقدين من عمله في محله، تعرض للكثير من انتقادات الناس، ولا سيما بعض جيرانه، وكيف أنهم يخبرونه على الدوام بأن عمله في "بيع الحرام" جالب للخراب والفقر.
تكتسي ملامحه بالحزن قليلاً، لكن سرعان ما يشطبها بضحكة مجلجلة: "أصبحت معتاداً على ذلك الآن".
وفي كانون الثاني/ يناير 2017، هزّت الإسكندرية جريمة راح ضحيتها صاحب محل يبيع الكحول. ووثّقت كاميرات مراقبة في محل مجاور قيام القاتل بتمرير السكين على رقبة الضحية مرتين قبل أن يسقط الأخير أرضاً. وخلال التحقيق معه، اعترف بأن دافعه هو رفض صاحب المحل لطلبه منه التوقف عن بيع "الخمور".
ضيق من المنع
مينا (40 عاماً) مسيحيٌ يعيش في القاهرة. لا يخفي شعوره بالضيق الشديد بسبب إجراءات المنع في شهر رمضان، ويقول: "يُمنع تقديم الكحول في كل مكان، الفنادق الملاهي الليلية، البارات وحتى المحال الصغيرة".
ويتساءل: "إنْ كان شرب الكحول محرماً في كل الأوقات، فلماذا يُحظر تقديمهُ وبيعه في رمضان فقط؟". ويذكر أن التحايل على هذا الإجراء سهل للغاية، إذ يمكن للمرء، وخصوصاً مَن لديه إمكانية مادية، أن يشتري كمية كبيرة قبل شهر رمضان، لأن بعضاً من محال بيع الخمور تقدّم عروضاً وخصومات واسعة قبل قدوم الشهر، فيحتفظ بها في منزله لاستخدامها خلال إغلاق المحال.
يستغرب مينا حين يستمع إلى شكوى من أحدهم يقول فيها إنه تعرض لمضايقة بسبب تناوله للكحول. يقول: "لماذا أسمح بوقوعي في مثل هكذا موقف أصلاً؟ أنا أشرب في منزلي، لوحدي أو مع أصدقائي، ولا أسبب لنفسي مشاكل جرّاء الشرب في مكان عام، لا في رمضان ولا خارجه".
نظرة فاحصة لواقع الكحول في شهر رمضان وإجراءات حظر بيعه وتداوله بنحو عام، تؤشر إلى أن المنع يطبَّق على المواطنين المصريين فقط، وليس على الأجانب من السياح الذين تكتظ بهم البلاد في كل أوقات السنة
الأمر ينطبق على أصدقائه وأقربائه، فغالبيتهم، حسبما يقول، يشربون في أماكن مغلقة بعيداً عن العيون "منزل، ورشة مغلقة، أو خن"، ويعني مينا بـ"الخن" مكاناً ذا خصوصية.
ويتفق مينا مع ما ذهب إليه العم عادل من أن مضايقات المجتمع تشكل عقوبات وطأتها أكبر بكثير من التي تفرضها الدولة بقوانينها على شارب الكحول في الأماكن العامة في رمضان. "وإذا كُشف أمر أحدهم وهو يشرب في مكان خاص"، يقول ثم يصفن قليلاً ويتابع أن ذلك سيتسبب له بمشاكل.
محمد سعيد، مهندس كهربائي يعيش في القاهرة، يعتقد أن الدولة متساهلة تماماً مع قضية شرب الكحول في رمضان. يصرّ على أن الشعب بغالبته مسلم، "ومن تعاليم الإسلام تحريم الكحول دون تحديد وقت محدد لهذا التحريم لأنه مطلق".
لذا، فإن السماح ببيعه وتناوله في بعض الأماكن داخل البلاد خلال شهر رمضان لا يتوافق والمزاج الشعبي بنحو عام، برأيه. ويعلّق: "ربما يكون شهر رمضان فرصة ليقلع شاربو الخمر عنه".
ممنوع على المصريين... مسموح للأجانب
نظرة فاحصة لواقع الكحول في شهر رمضان وإجراءات حظر بيعه وتداوله بنحو عام، تؤشر إلى أن المنع يطبَّق على المواطنين المصريين فقط، وليس على الأجانب من السياح الذين تكتظ بهم البلاد في كل أوقات السنة.
لكن أحياناً، تمتنع مؤسسات يُسمح لها ببيع الكحول في رمضان عن تقديمه. يروي رامي، وهو شاب يعمل نادلاً في مطعم سياحي في مدينة الغردقة الجاذبة للسياح والواقعة على البحر الأحمر، أن صاحب المطعم الذي يعمل فيه يمنع تقديم الكحول خلال شهر رمضان، سواءً للأجانب أو المصريين على حد سواء، مع أنه يعلم بأنه مسموح له تقديمه لغير المصريين كما تفعل الفنادق والمطاعم الأخرى والملاهي وغيرها من الأماكن المرّخص لها بتقديم الكحول.
كان رامي عاملاً في فندق في المدينة نفسها، وكان مسموحاً فيه بيع الكحول للأجانب خلال شهر رمضان بشكل عادي. عن موقفه الشخصي، ينتقد مديرهُ لأنه يفوت على نفسه أرباحاً كبيرة، في حين أن مطعماً مجاوراً ومنافساً يقدم الكحول للأجانب، وللمصريين أيضاً لكن بنحو محدود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...