قبل ما يزيد عن 14 عاماً، قرأت مقالاً ضمن مقرر مادة اللغة العربية في المدرسة، عن انتقام البيئة ممن يعكّرون صفوها وينشرون فيها التلوث، ويضربون أرضها وسماءها بالعبث والفساد. رأى كاتب المقال أن البيئة تتوعدهم وسوف ترد الضربة ضربتين.
لم أفهم جيداً ما تعنيه هذه الكلمات وقتها، وحينما كبرت وعدت إلى الوراء، رحت أتذكر انتقام البيئة الذي أصبح حقيقةً ملموسةً، ثم حاصرتني المخاوف كأنني وقعت في بئر مظلمة، ولا أعرف ما السبيل للخروج منه، وإلى أين يمكن أن أهرب والخطر يحدق بي في كل مكان.
ومؤخراً، عندما سمعت كلمة "لاجئ بيئي مصري"، في تقرير تلفزيوني، شعرت بالفزع والرعب، وغمرت الدموع عينيّ، وتخيلت نفسي أحمل أبنائي بين يدي وأنا غارقة في مياه فيضان ما، وهم يصرخون حولي، لا أستطيع الهرب ولا أعرف كيف أنقذهم، وشعور رهيب بالألم والحزن يعتريني عليهم، وعلى بلدي في الوقت ذاته.
عندما سمعت كلمة "لاجئ بيئي مصري"، في تقرير تلفزيوني، شعرت بالفزع والرعب.
هذا الشعور لم يأتِ من الفراغ، فكثيرة هي الدراسات والتقارير التي تسعى اليوم إلى قراءة مستقبل التغيّر البيئي الذي قد يطرأ على مصر، وبحسب ما ذكر جهاز شؤون البيئة التابع لوزارة البيئة المصرية، هناك مجموعة من المخاطر التي سنتعرض لها لا محالة في السنوات القادمة، بدءاً من ارتفاع درجة الحرارة، وارتفاع منسوب مياه البحر، وتلوث المياه والتربة، وفقدان الإنتاج الزراعي، والتصحر، ما سيؤثر في النهاية على الأمن الغذائي وعلى كل تفاصيل حياتنا.
لا يمكن لأحد أن ينكر ما يمر به العالم الآن، من ظواهر لأزمات بيئية قد تقضي على الكوكب بأكمله، وتنهي الحياة من على وجه الأرض، حتى أن مصر، بالرغم من أنها من أقل دول العالم إسهاماً في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، إلا أنها معرضة لخطر فادح بفعل الظواهر المناخية المتغيرة، وقد تغرق مدن كاملة فيها مثل مدن منطقة الدلتا والمدن الساحلية، ويتعرض الملايين للجوع والفقر.
مصر التي ظلت على مدار التاريخ، مقصد اللاجئين الذين يفرّون من الضغوط السياسية أو الاجتماعية أو الاضطهاد في بلادهم، وملجأً اقتصادياً للمهاجرين الذين يبحثون عن فرص عمل، ممن تدفعهم الحاجة إلى لقمة العيش والحياة الكريمة، وهي اليوم تستضيف لاجئين من 35 دولة، التغير المناخي قد يبدّل معالمها وملامحها، وتفاصيل الحياة فيها. فهل يصبح المصريون أنفسهم لاجئين بيئيين مستقبلاً إذا استمر تدهور الوضع البيئي فيها؟
تغيرات "مخيفة"
تؤكد بعض التقارير أنه خلال المئة عام القادمة، ستنكمش مساحة الأراضي المصرية الصالحة للزراعة، وسترتفع درجة الحرارة في جميع فصول السنة، وبالطبع سيؤدي هذا إلى تغيّر خريطة إنتاج المحاصيل الزراعية، التي سوف تكون جميعها خاضعةً لسد احتياجات الطلب على الغذاء.
الخوف من التغير البيئي ومخاطره التي قد تلحق بالعالم كله، جعلني أقرر عدم الإنجاب مرةً أخرى. لن أسمح لنفسي بأن أجلب طفلاً آخر إلى هذه الحياة، ليتعرض لمأساة بسبب البيئة. يكفي ما لديّ، من أطفال، بالرغم من أن قراراً مثل هذا مع زوج يحب "العزوة" وكثرة الأبناء، قد يكون مزعجاً وصعباً
أتخيل نفسي أفتح الصنبور لكي أسقي طفلتي مياهاً ولا أجدها، إذ من المتوقع أن تعاني مصر من الشح المائي بعد التأثيرات السلبية التي تتعرض لها منابع نهر النيل، أو أننا سنعاني من الأمراض التي تنقلها الحشرات للإنسان، والتي ستزداد وتيرتها وفداحتها بفعل التغير المناخي.
الخوف من التغير البيئي ومخاطره التي قد تلحق بالعالم كله، جعلني أقرر عدم الإنجاب مرةً أخرى. لن أسمح لنفسي بأن أجلب طفلاً آخر إلى هذه الحياة، ليتعرض لمأساة بسبب البيئة. يكفي ما لديّ، من أطفال، بالرغم من أن قراراً مثل هذا مع زوج يحب "العزوة" وكثرة الأبناء، قد يكون مزعجاً وصعباً، إلا أنه أمر لا بد منه.
المستقبل ليس "وردياً" كما كنا نظن ونحن صغار، وإنجاب الأطفال مسؤولية كبيرة، وإن سمحت لنا الفرصة بأن نهرب من التغير المناخي في مصر، فسوف يلحق بنا لا محالة إلى أي مكان آخر. وأقل حقوق الطفل أن يولد في بيئة مناسبة له، ويعيش حياةً آمنةً تكفل له حقوقه، فإن كان ذلك صعب التوفير مستقبلاً، فما الذي سيدفعني أو يجبرني على الإنجاب؟
تحسين السلوكيات
المخاوف التي تحاصرني من مستقبل التغير المناخي، جعلتني أغير طريقة تعاملي مع السلع، وأقلل استهلاكي للمنتجات على اختلاف أنواعها. أصبحت لا أقدم على شراء أي شيء إلا إن كنت في حاجة ملحة إليه، ولا أطهو طعاماً لأسرتي إلا ما يكفي حاجتنا فقط، وأعلّم أطفالي وأبناء الجيران حسن التعامل مع الغذاء وعدم إهدار الطعام، كي لا نموت جوعاً في المستقبل إن لم نحافظ عليه الآن.
هنا في القاهرة، التي أعيش فيها منذ خمس سنوات، تقلّ المساحات الخضراء، بعكس المنيا مسقط رأسي، التي قد لا تمر بشارع فيها إلا وتجد فيه شجرةً على الأقل، تروي أنفاس العابرين بالهواء النقي. شجعني ذلك على الاهتمام بزراعة نباتات الزينة المزهرة على شرفة المنزل، وفوق سقفه، حتى أن طفلتي أخذت تسقي الورود، ونشأت علاقة حب بينها وبين النباتات، وابن الجيران يغار منها فيقلدها. علّ هذه التصرفات البسيطة تصلح ما أفسدناه في الماضي.
هل يمكننا النجاة من مخاطر التغير المناخي؟ هل يمكننا نحن البشر أن نصلح ما أفسدناه في البيئة قبل أن تنتقم منا ونعتذر لها عما فعلناه عن جهالة وعن سوء سلوكنا؟ هل يمكن أن تسامحنا البيئة وتقبل اعتذارنا وجهلنا وخضوعنا ومخاوفنا؟
أنظر من خلف شرفتي إلى بوابة المستقبل وأخاف، ثم أسأل نفسي بوهن: هل يمكننا النجاة من مخاطر التغير المناخي؟ هل يمكننا نحن البشر أن نصلح ما أفسدناه في البيئة قبل أن تنتقم منا ونعتذر لها عما فعلناه عن جهالة وعن سوء سلوكنا؟ هل يمكن أن تسامحنا البيئة وتقبل اعتذارنا وجهلنا وخضوعنا ومخاوفنا؟ لا أحد يدري!
لكننا يجب أن نحاول ونضع خططاً تقلل من حدوث المخاطر المحتمل وقوعها في المستقبل أو مواجهتها، حفاظاً على حقوق كل هؤلاء الأطفال الذين جاءوا إلى عالمنا بفعلنا وبرغبتنا وباختيارنا، ويلزم علينا أن نوفر لهم ولو نصف فرصة من الحياة الآمنة؛ هذا حق الجيلين الحالي والقادم، وإن لم نكن قادرين على حماية حقوقهم فيجب علينا أن نتوقف عن إنجابهم.
جميعنا لدينا مخاوف من المستقبل بسبب التغير المناخي، لكن يمكن أيضاً أن يكون لنا دور في إصلاح البيئة، على الأقل بتحسين سياسة الاستهلاك خاصةً تجاه المنتجات الغذائية، وزراعة الشرفات وأسقف المنازل، وعدم قطع الأشجار، والتخلص الأمثل من القمامة وعدم حرقها أو رميها في الأنهار والبحار. نحن قادرون على التغيير ولنا دور، ولا يجب أن نتجاهل أهمية ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...