يستيقظ الشبّان المصريون من عمق نعاسهم، ويصطفون مع الفجر أمام القنصليات حاملين بين أيديهم حقائبهم، ينتظرون تأشيرة سفر. كل ما يشغلهم لقمة العيش وبيئة صالحة للحياة، لكن كابوس التغير المناخي يطاردهم ويلاحقهم إلى كل مكان يضعون فيه أقدامهم.
فماذا يفعل المهاجرون المصريون في الخارج؟ وكيف أثّر التغير المناخي على استقرارهم؟
من الإمارات إلى كندا
قرر المهندس المعماري عمر العمروسي (39 عاماً)، البحث عن فرصة عمل مناسبة بعد تخرجه من الجامعة في مصر. كانت الإمارات أول محطة ينتقل إليها، لكنه لم يستطع الاستمرار طويلاً، ولم يتمكن من التكيّف مع درجة الحرارة المرتفعة.
يقول في حديثه إلى رصيف22: "الحرّ الشديد في دبي كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أترك الإمارات وأقرر الهجرة إلى كندا".
الحرّ الشديد في دبي كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلتني أترك الإمارات وأقرر الهجرة إلى كندا.
كان يحيط بالعمروسي شعور بالسجن بجانب مكيّف الهواء. سجن لا يعرف كيف يتخلص منه؛ إذا خرج من أحد الأبنية فإنه يسرع في الدخول إلى السيارة ويشغل مكيّف الهواء داخلها، وإذ حل عليه المساء يعاني من الرطوبة الشديدة وسوء الطقس. يضيف: "هذا الشعور أصابني باكتئاب، وقررت الهرب من هذا المناخ".
تشير تقارير إلى أن للتغير المناخي آثاراً سلبيةً على منطقة الخليج العربي، إذ يهدد بارتفاع نسبة الرطوبة ودرجات الحرارة، وتزايد خطر الأعاصير المدارية.
منذ 11 عاماً، يعيش العمروسي في كندا، وتحديداً في منطقة "بريتش كولومبيا". شعر بتغير ملحوظ في المناخ قبل أربع سنوات، إذ كان يبهره هطول الأمطار الذي اختفى وتسبب في جفاف النباتات، وعن ذلك يقول: "هذا الصيف تحوّل لون النباتات من الأخضر إلى الأصفر بسبب قلة المطر"، ويتخوف من أن تتكرر تجربته في الهجرة مرةً أخرى بفعل المناخ، بعد موجات الحر الأخيرة التي ضربت كندا وتسببت في وفاة المئات.
بشكل مشابه، كانت صدمة نبيل سلام، المهندس ذي الثمانية والثلاثين عاماً، عندما سافر إلى الإمارات وشعر بنسبة الرطوبة العالية فيها، وهي من الأسباب التي دفعته إلى الهجرة إلى أوروبا. يقول في حديثه إلى رصيف22: "هاجرت من مصر بحثاً عن بيئة عيش مناسبة ووطن آخر، لكن صعوبة تحمّل المناخ كانت فرصةً مناسبةً للغاية كي أغادر الإمارات، فهو يتغير كل عام نحو الأسوأ".
أما رشا عثمان، وهي ربة منزل ثلاثينية، فتقيم في كندا بعد أن غادرت مع أسرتها من مصر إلى السعودية. لم تتحمل ارتفاع درجات الحرارة المستمر وزيادة الرطوبة، اللذين كانا سبباً في إعيائها، خاصةً عند التواجد في مكان دافئ ثم الخروج منه إلى مكان بارد والعكس، ما جعلها تشعر بالاختناق الشديد.
أقمت في السعودية أربع سنوات، وطوال هذه الفترة كنت أحاول تحمّل درجة الحرارة العالية لكن لم أستطع، إذ كان الأمر يتطلب الجلوس باستمرار بجانب مكيفات الهواء، مما جعلني أشعر بأنني عاجز عن الحركة، فقررت العودة إلى مصر
تقول في حديثها إلى رصيف22: "في السعودية، كانت ترتفع نسبة الرطوبة باستمرار، والمكيّفات الهوائية تعمل في كل مكان طوال الوقت، وهذا أثّر بدوره بشكل سلبي على حالتي المزاجية. وبالمقارنة بين المناخ في السعودية والمناخ في كندا، فإن الأخيرة مناسبة لي".
المناخ أجبرهم على العودة إلى الوطن
إن كان بعض العاملين والمهاجرين المصريين يتمكنون من التحليق خارج الوطن، إلى أوروبا أو أمريكا أو غيرهما من القارات، عندما يعجزون عن التكيف مع المناخ في دول الخليج، فإن البعض لا يملكون وسيلةً غير العودة إلى وطنهم والبحث عن فرصة جديدة للحياة.
يتحدث سلامة محمد عبد البديع، وهو مدرب خيل ثلاثيني أردني، بأنه بدأ يشعر بتغير المناخ في عمان منذ العام 2015، إذ جاء الشتاء قاسياً على غير المعتاد، ودفع ذلك بمجموعة من أصدقائه الذين يعملون في مزارع متفرقة إلى ترك العمل والعودة إلى مصر، بسبب عدم قدرتهم على تحمل تقلبات المناخ القاسية.
يتحدث سلامة عن عقود العمل المجانية في الأردن، إذ يتكفل الضامن بكامل تكلفة السفر للعامل القادم من مصر، وبعد وصوله يكون تحت رحمة الكفيل لمدة لا تقلّ عن عامين، ويضيف: "في هذه الفترة، يجبَر العامل على المبيت داخل المزارع ليلاً، ويعاني من قسوة الشتاء والثلوج التي أخذت تزداد عاماً تلو الآخر، وبعض العاملين لا يتحملون هذه البرودة الشديدة ويضطرون إلى الهرب والعودة إلى مصر في أول فرصة تسنح لهم".
طالما أن كارثة التغير المناخي ستصيب الكوكب بأكمله لا محالة، فما داعي العودة إلى الوطن؟
عام 2017، عاد محمد سلطان (29 عاماً)، صاحب متجر للملابس، من السعودية إلى مصر بعد صعوبة تحمله مناخ السعودية، خاصةً خلال الصيف الذي ازدادت فيه الموجات الحارة. يقول لرصيف22: "أقمت في السعودية أربع سنوات، وطوال هذه الفترة كنت أحاول تحمّل درجة الحرارة العالية لكن لم أستطع، إذ كان الأمر يتطلب الجلوس باستمرار بجانب مكيفات الهواء، مما جعلني أشعر بأنني عاجز عن الحركة، فقررت العودة إلى مصر".
التكيف مع المناخ هو الحل
"طالما أن كارثة التغير المناخي ستصيب الكوكب بأكمله لا محالة، فما داعي العودة إلى الوطن؟"؛ يسأل عمر حسني، وهو مهندس عمره ثلاثون عاماً، وقد شعر بسعادة بالغة عندما وصل إلى العاصمة الألمانية برلين. كان يرى العالم وكأنه لوحة ثلاثية الأبعاد. شعر بحجم التلوث الذي تعاني منه مصر، ولم يأخذ وقتاً طويلاً حتى تأقلم مع مناخ ألمانيا. الألوان الخضراء والأشجار المتناثرة في كل مكان، كانت تبث حوله الراحة بالرغم من قسوة البرد الموجعة.
إلا أنه مع زيادة موجات البرد غير المتوقعة، والتي لم تكن تحدث قبل ذلك، يرى أنه لا بد من التأقلم مع كافة أشكال التغير المناخي. يقول في حديثه إلى رصيف22: "مصر نفسها التي كانت معروفةً باعتدال مناخها، أصبحنا نرى فيها الثلوج والعواصف الشديدة، وهذا يجبرني على التأقلم مع أي مناخ، والتكيّف مع تقلباته بأي صورة".
بدوره، يحكي مجدي (53 عاماً)، لرصيف22، عن عوامل التغيّر المناخي التي لمسها بنفسه في فرنسا، إذ غادر مصر إلى باريس عام 2002، وكان يرى الثلوج في الشوارع ترتفع إلى 20 سنتيمتراً، لكن تغيرت هذه الظواهر كثيراً. يضيف: "الآن لم يعد هناك جليد، بل أمطار فقط، ونرى الجليد يذوب عن قمم جبال الألب".
تسبب ذلك في نقص المياه المعدنية التي أمست مشكلةً كبيرةً تواجه كافة سكان فرنسا، وباتوا يبحثون عن حل لها، حتى أن البحيرات التي كانت تتكون من مياه الجليد اختفت، وأصبحت المياه الذائبة تذهب إلى المحيطات، مما أثر على زيادة نسبة ملوحة الأرض.
تقيم رشا في كندا بعد أن غادرت مع أسرتها من مصر إلى السعودية. لم تتحمل ارتفاع درجات الحرارة المستمر وزيادة الرطوبة، اللذين كانا سبباً في إعيائها، خاصةً عند التواجد في مكان دافئ ثم الخروج منه إلى مكان بارد والعكس، ما جعلها تشعر بالاختناق الشديد
التأهيل والتدريب ضروريان
تحتل مصر المركز السادس في تصدير العمالة إلى الخارج، بعدما كانت في المركز الرابع، ويصل عدد العمال المصريين المغتربين إلى 5 ملايين عامل. وفي حين تتحدث تقارير عن أسباب تراجع هذا الرقم في السنوات الأخيرة، لا توجد تقديرات دقيقة أو واضحة لتأثير تبعات التغير المناخي على الأمر.
هنا، تعلق رشا عبده، أستاذة الاقتصاد في الأكاديمية العربية للعلوم المالية، خلال حديثها إلى رصيف22، على تراجع مصر في توريد اليد العاملة إلى الخارج، بأنه يعود في أحد أسبابه إلى عدم إخضاع العامل المصري للتدريب على التعامل مع المتغيرات المناخية في الخارج، وتأهيله للتكيف مع مظاهر المناخ المفاجئة، وتضيف أن في مصر أكثر 20 ألف مركز تدريب، لم يفكر أي منها في التطرق إلى هذا الأمر الذي بات أساسياً وهاجساً لكثيرين اليوم.
بحسب عبده، فإن دول الخارج التي كانت دائماً تلجأ إلى العمالة المصرية، أصبحت تستقدم عمالةً هنديةً أو فلبينيةً أو عمالةً من بنغلاديش، لأنها مدربة على العمل في مختلف أشكال المناخ والظروف المحيطة ببيئة العمل، وتضيف: "لا تبذل وزارة القوى العاملة أي مجهود لتأهيل العمال المصريين أو تدريبهم على الحياة الجديدة في ظل المتغيرات المناخية، والمنافسة الآن أصبحت شديدةً وتحتاج إلى مزيد من الاهتمام بالعامل المصري".
وضمن السياق نفسه، تشير تصريحات صحافية سابقة لوزيرة الهجرة المصرية سها جندي، إلى أن هناك الكثيرين من المصريين في الخارج يرغبون في العودة إلى وطنهم بسبب التغيرات المناخية المفاجئة في دول الاتحاد الأوروبي والخليج العربي وشمال أمريكا، خاصةً المستثمرين منهم، إذ بات التغير المناخي يهدد مصالحهم واستقرار أعمالهم، وهو ما يتطلب المزيد من التخطيط للتواصل مع المستثمرين المصريين من الخارج وإعادة جذبهم إلى العمل داخل البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.