مع بداية الموسم الشتوي، والحاجة إلى أنشطة منزلية عائلية، تبدو متابعة فيلمٍ نشاطاً مشجعاً يجمع الأفراد من أعمار مختلفة لقضاء وقتٍ ممتع، وخياراً جيداً. ومن الأفلام المميزة في هذا السياق، فيلم Back to Outback (العودة إلى البراري)، الموجود على منصة نتفليكس باللغة الإنكليزية.
لا يميز الفيلم فقط عنصر التشويق فيه، وكونه فيلماً عائلياً مسلّياً، بل لكون الأفكار التي يطرحها ترتبط بقضايا البيئة وصورة الجسد، وهي من المواضيع البارزة للنقاش في وقتنا الراهن. في ظل بحث الأمهات والآباء ومقدّمات/ مقدّمي الرعاية عن أعمال درامية ترفع الوعي لدى الطفلات والأطفال في ما يتعلق بالبيئة، يبدو هذا الفيلم خياراً معقولاً كونه يرصد هذه الموضوعة بما يناسب الأعمار الناشئة.
أُطلق الفيلم الذي صُمِّم بتقنية الحاسوب نهاية عام 2021، وهو من إخراج كلارا نايت وهاري كريبس، وأداء مجموعة لامعة من نجوم السينما، ومنهن آيلا فيشر وغاي بيرس. ويصنَّف كفيلمٍ يناسب الأطفال من عمر الثماني سنوات وما فوق.
أفعى لطيفة في أستراليا
تدور أحداث الفيلم حول الأفعى "مادي"، التي تجد نفسها في قفصٍ خاص في حديقة الحيوانات مع مجموعة من الزواحف والعناكب وتمساح وعقرب. تقدّم حديقة الحيوانات عرضاً للجمهور تظهر فيه هذه الكائنات بطريقة مخيفة، فتبدو على أنها الأسوأ والأخطر في أستراليا، ويتسبب العرض في إخافة الأطفال والجمهور، مما يصيب "مادي"، الأفعى اللطيفة، بالحزن.
يطرح الفيلم أفكاراً ترتبط بقضايا البيئة وصورة الجسد، وهي مواضيع بارزة للنقاش في وقتنا الراهن.
تناقش مجموعة الحيوانات في أقفاصها هذه الطريقة، في تعامل فريق الحديقة معهن/ م، ويعبّرون عن حزنهم. في الأقفاص وخلف الكواليس، تُكوّن "مادي" صداقةً لطيفةً مع زميلاتها/ زملائها، إذ تغنّي لهن/ م، بصوتها العذب الذي ينشر السعادة في المكان، وتتجلى رقتها وحنانها في لطفها مع صديقاتها/ أصدقائها، وأهمية خلق علاقات لطيفة تشاركية حتى في لحظات الحزن والضعف.
من العبارات المؤثرة لـ"مادي"، والتي تعكس حزنها بسبب رفض الأخريات/ الآخرين لها: "لكنني لست وحشاً، هل أنا كذلك؟". تُظهر هذه العبارة كيفية التأثير على ثقة الأفراد بأنفسهن/ م، عندما يكتفي المجتمع بإطلاق أحكام جارحة عليهن/ م، لمجرد كون مظهرهن/ م، لا يتفق مع معايير الجمال التي يتعاطى بها.
وفي لحظات إقناع "مادي" زملاءها بضرورة التغيير ورفض الصور النمطية، يجيبها العقرب الصغير "نايجل" بعدم قدرته على الهروب، لكونه أصبح جزءاً من القفص الذي حُبس فيه. يقول: "لا يمكنني الخروج من القفص! القفص هو أنا!". يتضح من ذلك، أنه يصعب أحياناً على المضطهدات والمضطهدين تحقيق التغيير. في ما بعد، تُبيّن الأحداث إمكانية تحقيق التغيير مع الإرادة، مما يعكس قدرات الأفراد ووكالتهم على حياتهم وخياراتهم.
في المقابل، يقدّم العمل شخصية الكوالا بريتي بوي الجميل، لكن المغرور بشدة، والذي يتم الاحتفاء به على أنه الحيوان الأكثر رقةً ووداعةً في الحديقة، وحتى عبر الإعلام. تشعر "مادي" بالأسى تجاه الطريقة التي تُعامَل بها بسبب شكلها، من دون أن يرى أحد حقيقة أنها أفعى لطيفة ووديعة. ومما يزيد من أسفها، أن المدرب تشاز، الذي وجدها لحظة خروجها من البيضة أفعى صغيرةً في البرية، وبالرغم من محبتها له، لا يدرك لطفها ويصرّ على أن يظهرها بمظهر الأفعى الشريرة.
هنا تقرر "مادي" رفض هذه المعاملة، وسرعان ما تجمع عدداً من الكائنات، بما فيها السحلية والعنكبوت، وتعلن رغبتها في الهرب والعودة إلى المنزل في البراري البعيدة. ومن خلال سلسلة من الأخطاء، ينتهي المطاف بالكوالا بريتي بوي، في الرحلة معهم، وهم يشقّون طريقهم عبر سيدني إلى المناطق النائية، في محاولة للهروب من المدرب تشاز وابنه. يتعامل المدرب تشاز بطريقة عدائية وعنيفة، في محاولته إلقاء القبض على "مادي" وأصدقائها، ويسعى ابنه إلى تقليده. لكن مع تطور الأحداث، يرى الابن الشخصيات الحقيقة لهذه الكائنات اللطيفة، التي لا تتفق مع مظهرها الخارجي.
تدور أحداث الفيلم حول الأفعى "مادي"، التي تجد نفسها في قفصٍ خاص في حديقة الحيوانات مع مجموعة من الزواحف والعناكب وتمساح وعقرب. تقدّم حديقة الحيوانات عرضاً للجمهور تظهر فيه هذه الكائنات بطريقة مخيفة، فتبدو على أنها الأسوأ والأخطر في أستراليا
رفض الأحكام السطحية والذكورية السامة
من القيم التي يسعى الفيلم إلى تقديمها، رفض الحكم على الآخرين/ الأخريات، من خلال صورتهم/ ن، وشكلهم/ ن، وتعزيز ثقافة المضمون في المقابل. ويبدو الفيلم دعوةً إلى رفض فكرة أسر الحيوانات والتشجيع على إطلاق سراحها وإظهار سعادتها بالعودة إلى الطبيعة. فالأفعى "مادي" تعود مع أصدقائها إلى البرية للبحث عن حب العائلة، وفي طريقها تدرك محبتها لأصدقائها، ويجد الجميع مكانه الطبيعي في البراري بعيداً عن قضبان حديقة الحيوان.
ليس هذا الفيلم الأول من نوعه حول الهروب من الأسر والعودة إلى الطبيعة، بل يعيد إلى الأذهان فيلم "مدغشقر"، الذي يعالج الموضوعة ذاتها وقد حصد إعجاب الجمهور في السنوات الماضية.
لكن اللافت في هذا الفيلم، هو التطرق إلى تفصيلٍ مهم ضمن المقولة التي ترفض الأحكام السطحية على المظهر، وهي رفض نموذج الذكورة الذي يعتمد على القوة والمنافسة والعضلات، والذي يحاول تشاز المدرب تمثّله. فهو كمدرب في حديقة الحيوان، يقدّم استعراضاً يظهر فيه فحولته وقوته في ضبط الحيوانات البرية الشرسة. وفي حقيقة الأمر، ليست هذه الحيوانات كما يدّعي، فهي حيوانات مدربة ووديعة وليست عنيفةً. ونشاهد أيضاً محاولاته المستمرة ادّعاء القوة أمام ابنه، فيزيّف له قصصاً عن بطولاته في اصطياد الحيوانات وترويضها، بينما يتبيّن جبنه وعدم قدرته على فعل ذلك.
هنا يسلط الفيلم الضوء على خصائص الذكورة السامة، التي ترتبط بتمثّل قيم القوة والمنافسة وفرض السيطرة، والتي باتت تشكل تهديداً كممارسة على الطبيعة والكائنات الحية. يحاول المدرب أن يبدو قدوةً لابنه، الذي يدرك بالإضافة إلى كون والده عكس ما يدّعيه، أن اللطف والحنان تجاه الآخرين/ الأخريات، ليس أمراً معيباً، بل هو وسيلة لتحقيق السعادة والمحبة.
من القيم التي يسعى الفيلم إلى تقديمها، رفض الحكم على الآخرين/ الأخريات، من خلال صورتهم/ ن، وشكلهم/ ن، وتعزيز ثقافة المضمون في المقابل. ويبدو الفيلم دعوةً إلى رفض فكرة أسر الحيوانات والتشجيع على إطلاق سراحها وإظهار سعادتها بالعودة إلى الطبيعة
محطة لنقاش قيم عدة
بهذا، يشكّل الفيلم محطةً لنناقش مع أبنائنا وبناتنا أهمية رفض تمثّل قيم العنف والمنافسة، وضرورة الالتزام بقيم المحبة والتسامح والعطف، وهذه هي القيم التي نحتاجها في عالم ثبت فيه مدى الضرر الناتج عن تعالي الإنسان على البيئة والكائنات الأخرى، فلم يعد من الممكن القبول بتراتبية تضع الإنسان القوي الصياد في مكانة أعلى من غيره من الكائنات. وكما تبيّن، فإن الإنسان سواسية مع كل الكائنات، والممارسات العنيفة والضارة تجاه البيئة هي عنفٌ مرتدٌ علينا.
في بعض مقاطع الفيلم، تُستخدم كلمة "بشع/ ة"، وتتكرر كثيراً. يأتي ذلك مع لقاء "مادي" وأصدقاءها بمجموعة من الحيوانات التي ترفض عدّها بشعةً، لذا تُعلَن البشاعة كعنوانٍ جديد للجمال. لكن تكرار هذه الكلمة يُعطي أثراً مضاداً، وقد يختلط الأمر على الأطفال والطفلات. لذا، من المهم تواجد الأهل لشرح هذا المفهوم. كذلك، يجب الانتباه إلى أن الفيلم لا يناسب الفئات العمرية الصغيرة.
في النهاية، يُشَكِّل فيلم "العودة إلى البراري"، مساحةً للضحك والمرح للعائلة والأطفال والطفلات، وفي الوقت ذاته لتأمّل أهمية احترام جميع الكائنات، وضرورة رفض الحكم على الأشخاص من خلال المظهر فقط.
ويفسح الفيلم المجال لنقاشٍ يرفض التطبيع مع أَسر الحيوانات أو العنف ضدها، كما يسمح للناشئين والناشئات بالتماهي مع الكائنات الضعيفة التي تعجز عن التعبير عن رغبتها في رفض الأَسر والعيش بسلام في محيطها الطبيعي. ويستطيع الأهل بيان أهمية الجوهر والمضمون ورفض التطبيع مع منظومة مقاييس الجمال الزائفة وقيم الذكورة السامة والحفاظ على التوازن البيئي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com