جرى العرف في الموائد المصرية، بطبخ أصناف عديدة من الأطعمة، وبكميات زائدة عن حاجة أفراد البيت، وتقديم الأطباق ممتلئةً على أتمّها؛ خشية عدم الكفاية، أو تحسباً للضيف الذي لم يأتِ، فأصبح من المُعتاد إلقاء الأطعمة التي لا يزال بعضها صالحاً للتناول في سلّات القمامة.
وبحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، تزداد معدلات الفاقد الغذائي في مصر، ويبلغ متوسط الهدر الغذائي للفرد الواحد نحو 91 كيلوغراماً من الطعام سنوياً، في بلد يعيش ربع سكانه تحت خط الفقر، وتتزايد فيه الاحتياجات الغذائية.
وأضافت الفاو أن "نحو 50% من الخضروات والفواكه، و40% من الأسماك، و30% من الحليب والقمح، تُهدر كل عام في مصر، كما تصل كمية الخسائر للأسباب ذاتها في القمح، إلى 1.5 مليون طن سنوياً، و650 ألف طن من الذرة، و350 ألف طن من البنجر أو الشوندر، لتبلغ خسائر الأغذية 11 مليون جنيه سنوياً (462 ألف دولار)".
يبلغ متوسط الهدر الغذائي للفرد في مصر نحو 91 كيلوغراماً من الطعام سنوياً.
الأمر ذاته أكدته مي تاج الدين، الطبيبة البيطرية واستشارية سلامة الغذاء، قائلةً لرصيف22، إن "ظاهرة هدر الطعام في مصر منتشرة بشكل كبير ومن دون وعي، وتتمثل في ثقافة شراء كميات كبيرة من الطعام من دون حاجة، فضلاً عن عدم معرفة الشروط الصحيحة والمدة المناسبة لتخزين كل نوع، مما يعرض الطعام للفساد ومن ثم الهدر".
وتوضح تاج الدين، مؤسسة مبادرة "Food Zone" المعنية بنشر الوعي الغذائي، أن هدر الطعام يبدأ من مرحلة الزراعة التي يتم خلالها التخلص من 60% من الأطعمة الصالحة للأكل، بحسب الفاو، ومن خلال مراحل التخزين والتعبئة، ثم النقل والتوزيع، وأسواق التجزئة والجملة، وصولاً إلى المستهلك في المنازل والفنادق والمطاعم.
موروثات اجتماعية واتهام "بالبخل"
تحدّث رصيف22، مع عدد من ربّات البيوت حول تلك الظاهرة، وأكدن أن أسباب تخلصهن من الأطعمة من دون الاستفادة منها، يرجع إلى المعتقدات والموروثات الاجتماعية التي تُحدد أشكال الاستهلاك اليومي لهن. وتقول ماجدة سعيد، من محافظة الإسكندرية، إن المجتمع يتهم من يقتصد في طبخ الطعام بـ"البخل"، ويسخر ممن يشتري الخضروات والفواكه بالحبة.
وتتابع: "منذ تزوجت، تنصحني أمي بطبخ كميات زائدة عن حاجة أفراد الأسرة، كما تفعل هي في بيتها، تحسباً لأي زيارة مفاجئة من قبل الأقارب، حتى لو سيكون مصيرها القمامة".
وعن سياسية هدر الطعام داخل مصانع الأغذية، يفصح م. ج.، أحد العمال في مصانع الحلوى الشهيرة في محافظة الإسكندرية، والذي رفض ذكر اسمه حفاظاً على وظيفته: "نلقي كميات هائلةً من الحلوى، خاصةً قطع الكيك والكعك، غير المُباعة أو التي حدث لشكلها الخارجي أي تغيير. ليس مسموحاً لنا حتى الاستفادة منها لعائلاتنا".
منذ تزوجت، تنصحني أمي بطبخ كميات زائدة عن حاجة أفراد الأسرة، كما تفعل هي في بيتها، تحسباً لأي زيارة مفاجئة من قبل الأقارب، حتى لو سيكون مصيرها القمامة
وأضاف أن أصحاب المصانع ينظرون إلى منتجاتهم كعلامة تجارية شهيرة، مثل محال الملابس التي قد يفضل أصحابها حرق منتجاتهم القديمة بدلاً من بيعها بأسعار مخفضة، حتى لا تتحول إلى منتج شعبي متاح للجميع.
ولا تقتصر أضرار هدر الطعام على البشر فقط، بل تطال البيئة، إذ ذكر برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة WFP، أن تحلل تلك الأطعمة يتسبب في انبعاث أكثر من 3 مليارات طن من الغازات المسببة للاحتباس الحراري سنوياً، وبتلك النسبة يكون فقدان الطعام بمثابة أحد أكبر منتجات هذه الغازات على الأرض.
فرصة أخرى للطعام المُهدر
عام 2019، أخذت المصرية منّة شاهين (35 عاماً)، زمام المبادرة، وأطلقت تطبيق "تكية Tekeya"، للاستفادة من فائض الطعام ضمن المتاجر التسويقية، خاصةً بعدما تعرّضت لواقعة هدر طعام أمام عينها.
تسرد منّة، وهي شريكة مؤسسة للتطبيق، وتعمل صيدلانية، لرصيف22: "بعد يوم عمل مرهق، دخلت أنا وزوجي بحماسة إلى أحد محال السوشي المحبب إلينا، لتناول العشاء، لكني صُدمت برفض الطلب، بالرغم من وجود كميات أكل كبيرة ما زالت في المطعم، ليبرر أحد العاملين ذلك بأنها سياسة المكان".
وتكمل: "المؤسف أننا عرفنا أن كل الأكل بعد انقضاء اليوم يُرمى في القمامة".
وبجانب الموقف الذي تعرضت له، لاحظت منّة من خلال سفرها إلى عدد من دول العالم ومشاركتها في الأنشطة الخيرية، أن الكثير من المدن تُعاني من فقر شديد، في حين تهدر مدن أخرى كميات هائلةً من الطعام الصالح للأكل، مما دفعها لاتّباع سياسة ترشيد شخصية والتفكير في حل لتلك المشكلة.
وترى الشابة أن غياب حلقة الوصل بين أصحاب الطعام اليومي الفائض عن الحاجة، والمحتاجين، هو من أسباب تفاقم تلك المشكلة، فضلاً عن عدم توافر التوعية الكافية حول خطورة هدر الطعام على البشر والبيئة، بحسب قولها.
"تكية" للجميع
تعني كلمة تكية، في معاجم اللغة العربية، المكان المريح الذي يُقدَّم فيه الطعام مجاناً وبوفرة للمسافرين والمحتاجين قديماً. ويمنح تطبيق "تكية" فرصةً أخرى للأطعمة السليمة وغير الملموسة في الفنادق والمطاعم والمتاجر، لتناولها، من خلال بيعها بشكل مباشر للمستهلكين بأسعار مخفضة تصل إلى حسم 50% من ثمنها، أو التبرع بها للجمعيات الخيرية، والتي من شأنها توصيلها إلى المحتاجين.
بمجرد تسجيل الدخول إلى التطبيق، واختيار المنطقة السكنية، تظهر مجموعة من الأطعمة الجاهزة والخضروات والحلويات وغيرها، في المتاجر القريبة من منطقة المستخدم، والتي يمكن أن تصله بمجرد إضافتها إلى عربة التسوق الخاصة به.
تقول شاهين إن تطبيقها ساهم في مساعدة المطاعم بالتبرع بـ3،500 وجبة خلال عام 2020، وإنقاذ 40،000 وجبة من الإهدار، ما بين تبرعات واستهلاك من قبل المُستخدمين خلال عام 2021. كما تمكّنت من توسيع قاعدة الموردين والتي بلغت 150 مورداً حتى الآن، بمشاركة 100 ألف مستخدم للتطبيق.
منّة شاهين المؤسسة الشريكة لتطبيق "تكية" في مصر
الفوز الثلاثي
في البداية، واجهت منّة مشكلة إقناع بعض أصحاب المطاعم وإدارات الفنادق بالتعاقد على بيع فائض طعامهم بأسعار مخفضة للمستخدمين. تقول: "نقابل أصحاب مطاعم لا يعرفون أنهم يخسرون نقوداً أكثر من هدر الطعام، وأن مكاسبهم يمكن أن تزداد حين يتصرفون في الطعام الصالح للاستخدام قبل أن يتلف".
وهنا، "يتم إقناعهم بفكرة الفوز الثلاثي للأكل المهدر. بضغطة زر يستفيد المستهلك، وتزداد مبيعات المطاعم التي تبيع فائضها، ونحافظ على البيئة"، بحسب منّة.
أما عن إقناع الناس بشراء المنتجات عبر التطبيق، خاصةً مع إثارة الشكوك حول أسباب تخفيض أسعار المنتجات، فتقول: "بدايةً، لم يكن من السهل إقناع المستهلك، لعدم معرفته الكافية بفكرة التطبيق ودوره الأساسي في حل مشكلة هدر الطعام. أول ما يتبادر إلى الذهن بالتأكيد شكوك حول الطعام وجودته، خصوصاً أن الحسم يصل إلى نصف السعر. الناس بتخاف".
وتابعت: "يكتسب المستهلك ثقته من استخدامه للتطبيق، ومن ثم يروّج بدوره للفكرة ويعرّف أصدقاءه بها".
يمنح تطبيق "تكية" فرصةً أخرى للأطعمة السليمة وغير الملموسة في الفنادق والمطاعم والمتاجر، لتناولها، من خلال بيعها بشكل مباشر للمستهلكين بأسعار مخفضة تصل إلى حسم 50% من ثمنها، أو التبرع بها للجمعيات الخيرية، والتي من شأنها توصيلها إلى المحتاجين
هذه الشكوك راودت بالفعل سلوى خالد، التي تعيش في الإسكندرية، وقالت إن شراء أطعمة منخفضة السعر، مقابل الحصول على أطعمة تراها غير طازجة -على حد قولها- فكرة غير محببة إليها.
وبررت رأيها لرصيف22، قائلةً: "أول فكرة خطرت ببالي حول الأطعمة التي يعرضها تطبيق تكية، هي أن هناك شيئاً خطأً فيها، قد يكون متعلقاً بتاريخ انتهاء صلاحيتها، ولا أحب المجازفة في هذا الخصوص".
ولضمان سلامة المنتجات، والتأكد من أنها فائض وليست بواقي طعام، تشير منّة إلى إبرام عقود مع الموردين، تنص على وضع الأيام المتبقية من الصلاحية قبل بيع المنتجات، بالإضافة إلى المتابعة الدورية لردود أفعال العملاء بعد استلام الطلبات من قبل فريق "تكية" الذي يزور المطاعم ويفحص الأطعمة.
ترشيد للنفقات
سارة محمد، وهي من مستخدمي التطبيق، تقول إنها في البداية كانت مترددةً في استخدامه، نظراً إلى الحسم الكبير الذي وجدته على وجبات البيتزا المحببة إليها، لكنها في نهاية الأمر قررت شراء كميات قليلة لتجربتها بعدما شاهدت إعلاناً عن التطبيق على فيسبوك.
وتابعت سارة لرصيف22: "بعد استخدامي لتطبيق تكية، أصبحت أداوم على متابعة الحسومات التي يقدّمها على الحلويات والأطعمة الجاهزة بشكل دوري للاستفادة منها، خاصةً بعدما لاحظت أهمية الفكرة في ترشيد نفقاتي الشهرية".
وافقتها في الرأي منّة فريد، التي قالت إنها رحّبت بالفكرة بسبب رغبتها في اتباع أسلوب لمكافحة مكافحة هدر الطعام، والذي وفره لها ذلك التطبيق، مردفةً: "فكرة التطبيق ستقدّم الدعم لمن لا يستطيعون توفير طعام يومي لهم، بدلاً من إلقائه في القمامة. أحاول أيضاً شراء كل احتياجاتي بما يتوفر في التطبيق".
تختتم مؤسس "تكية" حديثها، بنصح المستهلكين بأهمية الوعي باحتياجاتهم، سواء في المأكل أو الملبس، متمنيةً أن يساهم تطبيقها في القضاء على ظاهرة هدر الطعام في مصر وحول العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون