شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف يساهم بعض

كيف يساهم بعض "الإنفلوانسرز" في ثقافة إهدار الطعام في مصر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 12 أغسطس 202203:25 م

حين كنا صغاراً، اعتادت جداتنا القول لنا: "إن الطعام الذي نهدره ويبقى في أطباقنا سيجري وراءنا يوم القيامة!". من المؤكد أن الطعام لن تنبت له أقدام لتركض وراءنا يوم البعث، وأن كلام الجدات كان مجرد استعارة لتخويفنا وتحفيزنا على تناول طعامنا وعدم هدره. لكن عقولنا الطفولية البريئة كانت تتصور في ذلك الوقت مطاردة كارتونية بيننا وبين شطيرة أو صحن طعام!

هكذا تربينا نحن أبناء الطبقة الوسطى من الشعب المصري على حرمانية إهدار الطعام، حتى انعكس ذلك على بعض سلوكيات الأمهات في مطابخهن، مثل إعادة تدوير بقايا بعض الأطعمة واستخدامها في صنع وجبات أخرى، واستخدام ما تبقى من طعام الولائم المقدم للضيوف كطعام للأسرة في اليوم التالي. وحتى الاحتفاظ ببقايا الخضار المطبوخة والأرز والمعكرونة داخل الثلاجة لأيام حتى تصبح غير صالحة للأكل فيتم إلقاؤها في سلة المهملات لأن الأم في البداية شعرت بحرمانية رميها في النفايات، وربما تذكرت حديث الجدات عن الطعام الذي سيجري وراءنا يوم القيامة.
ولكن، فيما يبدو أن التغيير المجتمعي وسقوط الطبقة الوسطى مقابل صعود طبقة الأثرياء الجدد ألقيا بظلالهما على ثقافة الطعام في مصر، حيث ازدادت خلال السنوات الأخيرة معدلات إهدار الطعام في بلد ترتفع فيه نسبة الفقر إلى 28٪ وفقاً للحكومة المصرية. ويقدر إهدر الطعام في مصر بنحو 91 كيلوغراماً لكل فرد سنوياً خلال عام 2021. وهناك تسعة ملايين طن من الطعام مهدور سنوياً بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة. فيما تُقدّر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الفاو إهدار الغذاء في مصر بنحو 50 كيلوغراماً لكل فرد سنوياً، خلال عام 2019.

أيام الطفولة، كانت أمي تعلمنا أن للطعام حُرمة وآداباً، وأنه من الذوق وحسن الخلق ألاّ ناكل أمام الآخرين في الطريق العام كي لا نجرح شعورهم إذا كانوا جائعين في ذلك الوقت أو فقراء عفيفي النفس لا يتسولون طعامهم

استعراض فواتير الشراء وغياب "الذوقيات"

أيام الطفولة، كانت أمي تعلمنا أن للطعام حُرمة وآداباً، وأنه من الذوق وحسن الخلق ألاّ ناكل أمام الآخرين في الطريق العام كي لا نجرح شعورهم إذا كانوا جائعين في ذلك الوقت أو فقراء عفيفي النفس لا يتسولون طعامهم. وأن الأفضل أن نأكل في البيت أو داخل مطعم. وإذا كنا مضطرين، فربما نأكل "ساندويتش" داخل السيارة ولا نظهرها للمارة.
أما اليوم، فلم تعد للذوقيات التي علمتها لنا الأمهات وجود في مجتمعنا. إذ تحولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة إلى ساحة لاستعراض الطعام المنزلي والجاهز على السواء بجانب الفواتير الباهظة للمأكولات في المطاعم الفاخرة.
البعض أصبح يستغل الأمر في تحقيق هوس الشهرة و"الترند" بإثارة الجدل عبر نشر صورة أو فيديو يظهر فاتورة من فئة الثلاثة أصفار مقابل تناول وجبة الإفطار أو السحور أو الغداء في أحد المطاعم الفاخرة، ولا سيما تلك الموجودة في الساحل الشمالي والمنتجعات السياحية. وذلك بسبب كون التكلفة الحقيقية للوجبة لن تتجاوز المئة جنيه مصري على أي حال، وكون القطاع الأعظم من المجتمع يعاني من الأعباء الاقتصادية ويكافح لتوفير لقمة العيش له ولأسرته.

 تحولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال السنوات الأخيرة إلى ساحة لاستعراض الطعام المنزلي والجاهز على السواء بجانب الفواتير الباهظة للمأكولات في المطاعم الفاخرة

ولكن، حين تفكر في الأمر بإمعان، ستجد أنك حين تدخل إلى مطعم أو كافيتريا سترى قائمة الأسعار قبل تناول طعامك. وإذا كان هناك "مينيمم تشارج"، أو الحد الأدنى للطلبات التي تطبقها بعض المقاهي والمطاعم على روادها، فيخبرك النادل أو الكاشير قبل أن تطلب وجبتك. وعادة، هذه الرسوم تطبق في المنشآت السياحية المعتمدة من وزارة السياحة فقط، وفقاً لقانون حماية المستهلك.
لذا، يصبح منطقياً أن الهدف من نشر تلك الفواتير التي تتحول من وقت لآخر إلى ترند على مواقع التواصل الاجتماعي، هو التفاخر بين دائرة المعارف والأصدقاء الافتراضيين، بجانب هوس الشهرة، دون أن نستبعد كون الدعاية السلبية هي إحدى وسائل الترويج  لاسم المطعم وربما تتحول إلى دعاية إيجابية لدى الطبقات الأكثر ثراءً في المجتمع.

موضة "الإنفلوانسرز" في تقييم المطاعم

في شباط / فبراير من العام الجاري، أطلق موقع فيسبوك خاصية مقاطع الفيديو القصيرة التي لا تتجاوز دقيقة واحدة والملقبة بـ "فيسبوك ريلز"، بينما أطلق يوتيوب الخاصية نفسها تحت مسمى "يوتيوب شورتز"، في محاولة منهما لمجاراة غزو تطبيقي تيك توك وكواي شو الصينيين اللذين تميزا بالفيديوهات القصيرة.
خلال هذه الفترة، باتت هناك ظاهرة ملحوظة على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر ولا سيما عبر المقاطع القصيرة ليوتيوب وفيسبوك، وهي انتشار فيديوهات لـ "إنفلوانسرز" أو مؤثرين ومقدمي محتوى وهم يتذوقون كميات كبيرة من الطعام في محاولة لاستعراض الوجبات الجاهزة التي يقدمها مطعم ما بذريعة تقييمه.
المثير للاستياء هو أن تلك الكميات الكبيرة من الطعام التي يكتفي مقدم المحتوى بتذوقها كفيلة بإشباع ما لا يقل عن عشرة أشخاص، وأنه على الأرجح سيتم إلقاء بقية الأطعمة التي ظهرت بالفيديو في النفايات بينما يمكن التكهن بسهولة أن هناك مشردين ومتسولين وأطفال شوارع وفقراء جوعى عدة على مسافة قريبة من موقع التصوير. فمن منا لا يصطدم بهم في كل حي وشارع من شوارع مصر؟

المثير للاستياء هو أن تلك الكميات الكبيرة من الطعام التي يكتفي مقدم المحتوى بتذوقها كفيلة بإشباع ما لا يقل عن عشرة أشخاص، وأنه على الأرجح سيتم إلقاء بقية الأطعمة التي ظهرت بالفيديو في النفايات

تكريس سلوكيات التبذير وإهدار الطعام

أذكر أنني كنت أشاهد مقطع "ريلز" على فيسبوك لمؤثرة مصرية شابة داخل مطعم وأمامها 40 "ساندويتش" مختلفة. كانت تكتفي بقضمة واحدة من كل واحدة منها فقط، ولم تكن أسعارها منخفضة بالمناسبة!
وشابة أخرى ظهرت وهي تروج لمطعم لحوم مشوية شهير في مصر متظاهرة بتقييم مذاق خروف مشوي ومحشو من الداخل بالحمام المحشي بالأرز ومحشو ورق العنب. لا يقل سعره عن ألفي جنيه مصري، وتعبث بيديها في الطعام وتأكل منه بطريقة غير مهذبة تجعل من المستحيل أن يعيد المطعم تقديمه لزبائنه. وبالتالي، سيتم إهداره وإلقاؤه في سلة المهملات، رغم كونه يكفي لإطعام جميع المدعوين إلى حفل زفاف وإشباع ما لا يقل عن خمسين شخصاً.

أذكر أنني كنت أشاهد مقطع "ريلز" على فيسبوك لمؤثرة مصرية شابة داخل مطعم وأمامها 40 "ساندويتش" مختلفة. كانت تكتفي بقضمة واحدة من كل واحدة منها فقط، ولم تكن أسعارها منخفضة بالمناسبة!

من البديهي أن أولئك المؤثرين يربحون من مقاطع الفيديو تلك، ويكتسبون الشهرة. وأن المطاعم تستفيد من الترويج لها بطريقة مبتكرة تختلف عن الإعلانات التقليدية وتمتلك مداخل أكثر إقناعاً للمستهلك. لكن، تلك المقاطع التي ستطاردك عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولن تتركك حتى يسيل لعابك وتشعر أمعاؤك بالجوع، ستزيد من ثقافة الاستهلاكية والشراهة التي غالباً ما تسبب السمنة وأضراراً صحية، عدا نشر مشاعر الحقد الطبقي والرغبة في الثراء السريع وتكريس سلوكيات التبذير وإهدار الطعام في مجتمع يكافح لحل أزماته الاقتصادية ويعاني أكثر من ربع أفراده من الفقر. بينما تكافح الطبقة الوسطى فيه لتوفير احتياجاتها في ظل ارتفاع الأسعار المحلية والدولية.

قانون للحد من هدر الطعام 

وفي ظل انتشار تلك الظواهر والسلوكيات السلبية في المجتمع ووجود تلك الإحصائيات المخيفة التي تظهر الكميات الضخمة للطعام المهدور في مصر، أجد أنه من المهم أن أشير إلى أهمية أول قانون مصري يناقش الحد من إهدار الطعام، ويعيد تدويره أو توزيعه. ويحظر التخلص من الطعام الصالح للاستخدام الآدمي، ويقدم حوافز كما يفرض الغرامات، ومن المقرر أن يبدأ مجلس النواب مناقشته. وكانت قد تقدمت به النائبة أميرة صابر مؤخراً.
من الإيجابيات أن مشروع القانون يستبعد أي عقوبة سالبة للحرية كالحبس ويكتفي بالغرامة، وإطلاق برنامج لمكافحة إهدار الطعام تشرف عليه الهيئة القومية لسلامة الغذاء المصرية ووزارة التضامن الاجتماعي بالشراكة مع المجتمع المدني
وينص مشروع القانون على معاقبة من يهدر الطعام الصالح للاستهلاك الآدمي، بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه، ولا تزيد على 500 ألف جنيه. ويمكن إصدار قرار بوقف نشاط مقدم خدمة الطعام أو بنك الطعام المخالف لأحكام المواد المشار إليها لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، وتُضاعف العقوبة في حال العودة.
من الإيجابيات أيضاً أن مشروع القانون يستبعد أي عقوبة سالبة للحرية كالحبس ويكتفي بالغرامة، وإطلاق برنامج لمكافحة إهدار الطعام تشرف عليه الهيئة القومية لسلامة الغذاء المصرية ووزارة التضامن الاجتماعي بالشراكة مع المجتمع المدني. كما يفترض أن يشجع مقدمي خدمات الطعام، من بائعي التجزئة، حتى أصحاب المطاعم، على التبرع بالفائض الصالح منه للاستهلاك الآدمي، دون مقابل، لبنوك الطعام ومؤسسات العمل الخيري المعنية، بدلاً من التخلص منه في سلة النفايات.
في النهاية، أتمنى أن يكون ذلك القانون قابلاً للتطبيق مع البحث في إمكانية التصدي لمقدمي المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي الذين يهدرون الطعام، وأن تقلل الإجراءات من عدد الجوعى والفقراء في مصر وتقضي على السلوكيات السلبية التي ظهرت بقوة مؤخراً في مجتمعنا.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard