بعد يوم عمل شاق، وبينما تقود سيارتك، لا ترى أمامك غير الإعلانات على جانبي الطريق. وعند محاولتك الاستمتاع بفيلم السهرة أو متابعة مسلسلك المفضل، تنهال عليك إعلانات لمنتجات لا حصر لها، تتسم بالألوان وبجودة العرض مع ذكر المميزات التي تجعلك تود شراءها بالرغم من عدم حاجتك إليها. إنها ثقافة الاستهلاك الحديثة، التي تجعل الأفراد يلهثون طوال الوقت لشراء منتجات لا تُستخدَم، بل تصبح عبئاً على ميزانية الأسرة والبيئة.
كثيرون يعتقدون أن الحديث عن البيئة وحمايتها رفاهية لا يمكن المطالبة بها، خاصةً مع وضع اقتصادي غير مستقر، في وقت "تزداد فيه احتياجات الغذاء في مصر، وترتفع معدلات الفقد والهدر الغذائيين، ومن المتوقع أن يمثل الفقد والهدر من الخضروات والفاكهة من 45 إلى 55% من الإنتاج السنوي"، وفق ما ذكرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، وتأتي البلاد بين أكثر الدول إهداراً للطعام حول العالم، إذ يهدر المصري الواحد نحو 73 كيلوغراماً سنوياً من الطعام.
إلا أن هناك أشخاصاً يرون أن الاستغناء وضرورة خلق حياة بسيطة سببان لنجاة أرواحهم، وحصولهم على الوفرة المادية، كما يؤكدون على أن رفاهية الاستغناء اليوم ستكون ضرورةً وإجباراً في المستقبل القريب، خاصةً في ظل الزيادة السكانية وارتفاع نسب التلوث، لذا كانت "المينيماليزم Minimalism"، أو الاعتدال والتبسيط، خيارهم الأول.
رفاهية الاستغناء اليوم ستكون ضرورةً وإجباراً في المستقبل القريب.
وعُرف مصطلح المينيماليزم في فترة الستينيات من القرن الماضي كحركة تتميز بتقديم الأعمال الفنية البصرية والموسيقية بأقل عدد من العناصر والألوان، ثم انتقل إلى العمارة والديكور، بالاعتماد على استخدام الخطوط البسيطة وأقل عدد من قطع الأثاث متعددة الاستخدام، كما ارتبطت الحركة بعبارة المعماري الألماني، لودفيغ ميس فان دي روه: الأقل هو الأكثر.
واليوم أصبح المينيماليزم أسلوب حياة يقوم على الهدف نفسه، وهو الحياة بأقل عدد من الأشياء، فهو يعتمد على التوفير والتركيز على الأشياء المهمة والعودة إلى البساطة، والابتعاد عن الاستهلاك.
رحلة شاقة وممتعة
منذ نحو 6 سنوات، بدأت شيماء تعلب (27 عاماً) باتّباع المينيماليزم، وحين قررت الزواج لم تلتفت إلى أقرانها ولا إلى عادات خرقت جذورها طبقات الأرض، وكان شعارها "منزل بسيط".
لم تكن البداية سهلةً، فقبل سنوات من الآن كان مصطلح الاهتمام بالبيئة غير موجود، ويعدّه البعض رفاهيةً، فكثيراً ما تعرضت للسخرية من زملائها، ورأت نظرة الاستنكار على وجوه من حولها.
تقول شيماء لرصيف22: "بداية معرفتي بالفكرة كانت من خلال بعض الفيديوهات على يوتيوب، إلا أنني لم أجد محتوى عربياً يمكّنني من الحصول على مزيد من المعلومات، لذلك قررت إنشاء حساب على موقع إنستغرام أشارك فيه محاولات الحفاظ على البيئة وتبسيط الحياة".
وأضافت السيدة المقيمة في القاهرة: "التعود على فكرة الاستغناء تتطلب منك الكثير من الوقت والجهد، فلا توجد بدائل صديقة للبيئة لكل المنتجات، إلا أنني بدأت رحلتي بالتوقف عن الشراء المتكرر، خاصةً لزجاجات المياه".
وربما كانت رحلة شيماء مع المينيماليزم قبل الأمومة أسهل. في البداية لم تتوقع أنها ستتمكن من السير كثيراً عكس التيار، لكنها كانت تشعر بأن الفطرة والبساطة ستجعلان حياتها أفضل، ومع أول حركة من طفلتها داخل رحمها بدأت تشعر بالقلق. تقول: "كل أغراض الأطفال تُصنع من البلاستيك والمواد الكيميائية، وقد حاولت منذ ولادتها البحث عن بدائل، فاستخدمت الزيوت الطبيعية بدلاً من كريمات الحفاضات، وامتنعت عن شراء المناديل المبللة، ولا توجد حفاضات صديقة للبيئة لذلك أستبدلها بقطع القماش، وساعدني ذلك على توفير الكثير من الأموال. أنا كفرد أحاول صنع التغيير غير أن هناك جهات أخرى لها دور أهم مثل الشركات والحكومات".
بالإضافة إلى ذلك، تشير شيماء إلى آباء كثر يسعون إلى شراء الألعاب لأولادهم مدفوعين بانبهارهم بشكلها ولونها، من دون النظر إلى حاجة الطفل إليها. "ليس من الضروري شراء ألعاب مبالغ في أسعارها، فالأهم هو تحديد سن الطفل واحتياجاته وإذا كانت اللعبة قادرةً على تنمية مهاراته، وعلينا الشراء من أماكن محلية تنتج ألعاباً صديقةً للبيئة، لأنها مطلية بزيت الزيتون وغير مضرّة للطفل، وفي حال كانت أسعارها غاليةً يمكن استبدالها بألعاب من القماش أو الخشب مع الحرص على تجنب البلاستيك".
التعود على فكرة الاستغناء تتطلب منك الكثير من الوقت والجهد، فلا توجد بدائل صديقة للبيئة لكل المنتجات، إلا أنني بدأت رحلتي بالتوقف عن الشراء المتكرر، خاصةً لزجاجات المياه
المينيماليزم يوفّر الكثير
يرى كثيرون أن الحديث عن البيئة رفاهية، وسط موجات ارتفاع الأسعار وتعرض العالم لمشكلات اقتصادية لم تحدث من قبل، إلا أن الأشخاص المتّبعين للمينيماليزم يؤكدون أنه يعود عليهم بالوفرة في الوقت الحالي وببيئة صحية على المدى البعيد.
تقول شيماء: "المينيماليزم يوفر الكثير، فبالرغم من أن سعر زجاجة المياه الصديقة للبيئة مرتفع إلا أنني أستخدمها على مدار سنوات، كذلك الأواني الزجاجية أعيد استخدامها أكثر من مرة، وأيضاً الأكياس القماشية. ولو وجدت صعوبةً في تقبل صاحب المحل لوضع المنتجات في كيس من القماش، أسعى إلى شرح الفكرة له، فربما يحاول هو الآخر تغيير عاداته، وهي طريقة غير مباشرة لنشر الفكرة".
وإذا كنت ممن يتأثرون بالعروض وتغريك الخصومات، تقدّم شيماء على صفحتها نصائح تساعدك على تجنب "الشراء الاندفاعي"، خاصةً في وقت العروض، فتؤكد على أن الدافع للحد من الاستهلاك يكمن في الوعي: " قبل الشراء عليك سؤال نفسك: هل أنت بحاجة إلى المنتج وستسعى إلى شرائه بسعره الأصلي أم لا؟ وإذا كانت إجابتك نعم، يمكنك الاستفادة من العرض والحصول عليه بنصف الثمن، وفي حال كانت إجابتك لا أو أن له بديلاً آخر، فأنت لست بحاجة إلى شرائه وعليك مغادرة المكان فوراً".
مع اتّباعك البساطة تتقلص خياراتك اليومية ومعها تختفي الحيرة، وتحل الراحة والسرعة مكان التشتت والقلق.
وتابعت: "من المهم تحديد ميزانية الشراء قبل الذهاب إلى السوق، وتجنّب الدفع من خلال البطاقات الائتمانية، وللتقليل من هدر الطعام علينا حساب عدد الأفراد لمعرفة كميات الأكل المطلوبة، بالإضافة إلى عمل جدول بالأيام وتحديد الوجبات، إذ يساعد ذلك على التوفير في أثناء الشراء ويقلل من الهدر، مع التركيز على محاولة الشراء من أماكن محلية بدلاً من السوبر ماركت الكبيرة".
بالإضافة إلى ذلك، لن تكون بحاجة إلى زيارة عيادات السمنة بعد الآن، إذ تقدّم فكرة المينيماليزم وجبات خاليةً من الزيوت، فبدلاً من وضع السمبوسك والبطاطس المقلية في الزيت لدقائق عدة يمكن عدّها في الفرن، وبذلك نوفر على البيئة أيضاً عبء التخلص من زيت الطعام.
وبعد خمس سنوات من اتّباع هذا النظام، ترى شيماء تأثير ذلك على حياتها، فهي تشعر بالخفة والراحة: "أنا بيتي فعلاً سهل في التنظيف ومرتّب طوال الوقت، حتى الدولاب أشعر فيه بالراحة وذلك لعدم تكدسه بأغراض كثيرة، ومع نهاية الشهر أشعر أنا وزوجي بالوفرة التي تمكّننا من الاستمتاع في حياتنا".
اتّباع البساطة
لا تقتصر مشكلات البيئة على هدر الطعام، فالخطر الأكبر يكمن في الموضة السريعة، إذ تُعد صناعة الأزياء ثاني أكثر الصناعات تلويثاً في العالم، فصنع بنطال جينز واحد مثلاً يحتاج إلى نحو 7،500 لتر من الماء، وهو يعادل متوسط كمية المياه التي يشربها الشخص على مدى سبع سنوات، وتسبب هذه الصناعة في إلقاء نحو نصف مليون طن من الألياف الدقيقة في المحيط كل عام، أي ما يعادل ثلاثة ملايين برميل من النفط، وهي مسؤولة عن انبعاث الكربون أكثر من جميع الرحلات الجوية الدولية والشحن البحري مجتمعةً، وذلك حسب ما ذكره برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
لذلك اتخذت نهال السيد، صاحبة العشرين عاماً، قرارها بالحد من شراء الملابس، وربما تكون أصغر من اتّبع المينيماليزم في مصر، كما أن حسابها على إنستغرام "Minimalsim Belaraby" كان من أوائل الصفحات التي نشرت عن الفكرة.
تقول لرصيف22: "بدأت باتّباع هذا الأسلوب منذ نحو ثلاث سنوات، كنت في المرحلة الثانوية تقريباً، وكنت أتابع قنوات على يوتيوب، ثم شاهدت فيلم The Minimalists، وقررت إنشاء محتوى يساعد على نشر الفكرة وشرحها للجمهور العربي، خاصةً في مصر".
وتابعت: "أول الأشياء التي قررت الاستغناء عنها هي الكتب، فأنا أملك الكثير وعليّ قراءتها أولاً، لذلك اتخذت قراراً بعدم شراء الكتب لمدة عام، والآن اختفت شهوتي للأمر، فتعلمت التجول داخل المكتبات والخروج منها من دون دفع الأموال، وحالياً أستمع إلى كتب صوتية، وذلك يوفر علي الكثير".
قرأت نهال عن خطورة الموضة السريعة، لذلك تنشر على حسابها تجاربها وتحدياتها مع الاستغناء، خاصةً المتعلقة بالملابس، وعن شكل حياتها قبل الحجاب ومحاولة استغلال كل قطعة ملابس لديها وتحويلها لتتناسب مع اختيارها الجديد، وأضافت: "تسعى الفتيات إلى ارتداء ملابس وفق الموضة، غير أن عليهن معرفة طريقة اللبس المناسب والمريح أولاً، بغض النظر عن شكل الموضة كل عام، والأهم هو البحث عن خلفية كل علامة تجارية قبل الشراء، وهل تدعم حقوق الإنسان وتحافظ على البيئة؟ فالسوق العربي كبير وفي حال رفضنا دعم بعض الأماكن سيحدث التغيير، والأموال التي ندفعها لها تأثير كبير".
من المهم تحديد ميزانية الشراء قبل الذهاب إلى السوق، وتجنّب الدفع من خلال البطاقات الائتمانية، وللتقليل من هدر الطعام علينا حساب عدد الأفراد لمعرفة كميات الأكل المطلوبة، بالإضافة إلى عمل جدول بالأيام وتحديد الوجبات
ربما كنت تعاني من الوقوف ساعات طويلةً أمام المرآة لتختار الأنسب لك، لكن مع اتّباعك البساطة تتقلص خياراتك اليومية ومعها تختفي الحيرة، وتحل الراحة والسرعة مكان التشتت والقلق، وتقدّم نهال أسهل قاعدة لشراء الملابس، وهي اختيار الألوان المحايدة، إذ يمكن ببلوزة بيضاء واحدة صنع أكثر من شكل، وبذلك يصبح الشراء أقل والخزانة بسيطةً ومنظمةً.
وأكدت نهال على أن اتّباع المينيماليزم وتحديد قواعد المشتريات يساعدان على تقليل الإنفاق بشكل كبير، و"على المدى القريب سنلاحظ الفرق، وحالياً أستطيع الخروج والسفر مع أصدقائي بحرية طالما كانت حقيبتي عامرةً بالنقود".
وعن صعوبة نشر الفكرة وتقبل الجمهور العربي لها، أشارت نهال إلى أن ردود أفعال معظم المصريين تحمل الكثير من عدم الاهتمام، ويرون الحديث عن البيئة رفاهيةً، وأن هذا الأسلوب يفرض عليهم قيوداً وأعباء، وتضيف: "لا بد من نشر التوعية حول مميزات المينيماليزم باللغة العربية، وربطها مع ثقافتنا، كي لا يشعر الناس بأن الحديث عن الأمر يمثّل ثقافة الغرب ووضع الناس الاقتصادي هناك، وهو يختلف عن حياتنا كعرب، غير أن أخطار البيئة تعاني منهما كل الدول، ولسنا جزراً منعزلةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...