يندرج المقال في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
دائماً ما استغربت عادة تبادل القبلات في العيد والمناسبات الاجتماعية بين صديقي الشاوي وبنات عمومته وبنات أخواله، كنت مراهقاً حينها وكتمت سؤالي عن جواز الأمر دينياً أو مجتمعياً، ومع أني كنت أظن نفسي أكثر رقياً وتحضراً من أصدقائي فأنا إبن المدينة لم أكن لأجرؤ على التفكير في تقبيل أي فتاة مهما كانت درجة قرابتها لي، فمجتمعي -المتمدن المتحضر- كان قد علمني أن القبلة حرام، وهي مفتاح الخطيئة الكبرى ولا مبرر لها إلا قلة الأخلاق والشرف.
دعم رأيي السابق مدرس التربية الإسلامية الشيخ عماد، حينما تجرأت وسألته أمام كل من في الصف عن القبلة، فقال: "طبعاً حرام ولا يفعلها إلا جاهل أحمق"، وأذكر تماماً أني خرجت إلى الباحة بعد الحصة منتصراً على نحو ثلاثين طالباً في صفي من الشوايا، فقد أثبتت لهم أن القبلة حرام وأنني أفضل منهم.
العين بالعين والسن بالسن
البحث في قواعد العرف العشائري عند قبائل حوض الفرات الأوسط والجزيرة السورية، سيفضي إلى وجود عشرات القواعد التي لا تقوم على دين، مثلاً تحل قضايا العنف كجرائم القتل والمشاجرات وفقاً للقاعدة البابلية الشهيرة "العين بالعين والسن بالسن"، لكن بصورة معدلة، فدفع الدية هو ما كان سائداً إلى ما قبل بدء الحدث السوري في العام 2011.
كانت جرائم القتل العمد قليلة جداً، وفي حال المشاجرات التي تؤدي لموت أو ضرر جسدي مستدام أو مؤقت، يكون لقاضي العرب، القول الفصل بتحديد قيمة الدية وفقاً لقوانين من غير المعروف متى بدأ العمل بها عند أبناء هذه القبائل، فمثلاً في حال فقد شخص إحدى عينيه على يد آخر فإن له دية تعادل نصف قيمة دية قتل رجل، وإن كان الضرر في الأسنان، فالتعويض يكون بعدد الأسنان المتضررة، وعموماً تساوي دية الفك نصف القيمة التي تدفع كدية لرجل ميت.
دائماً ما استغربت عادة تبادل القبلات في العيد والمناسبات الاجتماعية بين صديقي الشاوي وبنات عمومته وبنات أخواله، كنت مراهقاً حينها وكتمت سؤالي عن جواز الأمر دينياً أو مجتمعياً
ليس لأهل المتضرر أن يطلبوا ثأراً ولا يبرر لهم أي رد فعل عنيف تجاه السائق تحت مبدأ "فورة الدم" في حالات الضرر الجسدي الناتج عن حادث سير بالخطأ، وهو المبدأ الذي قد يبرر رد فعل عنيف في حالات الضرر الجسدي الأخرى، وفي حوادث المرور لا يحتاج الأمر إلى قاض عرفي لفصله، وكل ما في الأمر أن ذوي السائق ينتدبون وفداً يمثلهم في تقديم واجب العزاء خلال اليوم الثالث من حالة الوفاة، وبعد الزيارة التي تبدي حُسن النية والاستعداد لتلبية ما يطلبه ذوي المتوفى، يجتمع الطرفان بعد أيام لحل الخلاف، والذي يكون بحضور شهود على الحادث، ورجل دين مهمته تكون افتتاح الجلسة بحديث يكون غالباً عن القضاء والقدر والموت، وكأنه يمهد لكي يكون الصلح قائماً على اعتراف ذوي الميت بأن ابنهم قضى بغير قصد من السائق.
ليس لأهل المتضرر أن يطلبوا ثأراً ولا يُبرر لهم أي رد فعل عنيف تجاه السائق تحت مبدأ "فورة الدم" في حالات الضرر الجسدي الناتج عن حادث سير بالخطأ
تقول الأم الستينية هيام الهاشم التي فقدت أحد أبنائها في حادث مروري: "كان ولدي يقود دراجة نارية وصدمته سيارة ما أدى لوفاته، ووفاة طفل وأبيه كانا في السيارة نفسها، العرف يقضي أن يتحمل السائق مسؤولية الوفاة، وفي اليوم الثالث من الوفاة حدثت زيارة من ذوي السائق لتقديم واجب العزاء، بعدها رتبت زيارة من قبل أحد وجهاء العشيرة ليحل الخلاف، وعند تبيان شكل وأسباب الحادثة وأنها نتجت عن مخالفة ابني لقواعد المرور الآمن وخاصة في وقت الضباب، وأنه كان هو المتسبب بالحادثة بحسب رواية الشهود الذين لم يطالبوا بأداء اليمين، كونهم لا يمتون بقرابة لأي من الطرفين، ومع ذلك أقسموا من تلقاء أنفسهم تباعاً على روي الحقيقة".
وتضيف في حديثها لرصيف22: "بعد ذلك قرر قاض عرفي حضر إلى جانب رجل دين أن ينهي الخلاف بإقرار عدم دفع دية من أي طرف لأي طرف، وذلك على أساس أن وفاة ولدي قابلها وفاة شخصين من عائلة السائق"، وعلى أساس تقديم الواجب في أقل تقدير، تقدم ذوي السائق بطلب سماع رأيي بكوني والدة من تسبب ابنهم في وفاته، ولأني اقتنعت بالقدر وما رواه الشهود، لم يكن أمامي إلا أن أقول ألا رأي لي يخالف ما اتفق عليه، وبذلك كوي الملف وسارع زوجي لإسقاط الحق الشخصي لدى القضاء الحكومي ليتم إخلاء السائق الذي أوقف لدى الجهات الشرطية عقب محاولته إسعاف ولدي لأقرب مستشفى".
"تحيير" بنت العم
يلجأ الخصوم في خلاف حول المساحات الزراعية، إلى قضاة العرب أو ما يسمى في سوريا بالقضاء العرفي لعدة ثوابت وفقاً لما يؤكده معاذ الذي كان والده قاضياً في فترة ما قبل الحرب، ومن أهمها السرعة في بت الخلاف، وعدم قدرة أيّ من الطرفين على التلاعب بمسار القضية عبر الرشوة أو الواسطة.
يقول في حديثه لرصيف22: "كان والدي قاضياً في مناطق ريف الحسكة الجنوبي، وقد كلّفه بهذه المهمة من قبل السكان المحليين، وكثيراً ما كان يتعامل مع إشكاليات لا يوجد بها نص ديني كالعنف الذي قد ينتج عن ممارسة عادة الحيار التي تتمسك بها العشائر رغم مخالفتها للنصوص الدينية، وهي تمكّن الرجل من منع زواج ابنة عمه من غريب إذا كان يريدها زوجة، أو لا يرضى بالعريس أن يكون صهراً للعائلة، وقد حدث أن رجلاً دفع ابنه ليُحيّر ابنة عمه رغم أنها تكبره بـ13 عاماً، فقد كانت الفتاة في عمر الـ26 حين خطبت، ولأن العم لم يقبل بالعريس دفع ابنه الطفل ليقول أمام أفراد العائلة أن فلانة مُحيرة ولن تكون إلا لي، وبعد أخذ ورد عرض والد الفتاة القضية على والدي، الذي لم يجد حلاً بعد تجريب الإقناع والنصوص الدينية إلا باستخدام عادة مجتمعية قديمة تلزم من يُحيّر بأن يعجل بزواجه من الفتاة أو يرفع عنها الحيار، ولاستحالة أن يتزوج طفل من امرأة بعمر 26 عاماً ألزم العم على فك الحيار".
معاذ... كان والدي قاضياً في مناطق ريف الحسكة الجنوبي، وكثيراً ما كان يتعامل مع إشكاليات لا يوجد بها نص ديني كالعنف الذي قد ينتج عن ممارسة عادة "الحيار" تجاه بنت العم التي تتمسك بها العشائر رغم مخالفتها للنصوص الدينية
المشهد الخارجي عن مجتمع الشوايا يقول أنه ذكوري بحت، لكن هذا المجتمع يقوم على تقاسم دقيق للمهام اليومية بين الرجال والنساء في أعمال المنزل والزراعة، فالرجال لا يقضون نهارهم في التنزه وشرب الشاي كما صورتهم الدراما، بل في تنفيذ الجزء الشاق من العمل اليومي في الزراعة، في حين على النساء أعمال أقل قسوة نسبياً، كالتجميل والطب الشعبي.
طبيبة عربية للرجال
يقول ماهر الموسى (57 عاماً) كنت أعاني من آلام شديدة أسفل البطن، وعالجتني طبيبة عربية بشيء أسمته طق الصرة، ويعود الرجل بذاكرته إلى النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي خلال حديثه لرصيف22، يقول: "راجعت عدداً من الأطباء في المدينة والتزمت بكامل الوصفات الطبية، وطيلة ثلاثة أشهر لم أتحسن، كان الألم يزداد، وخلال جلسة مع أحد الأقارب نصحني بمراجعة امرأة كانت تسمى بالشيخة خدوج، وحين دخولي لمنزلها استقبلني زوجها وأولادها بالكثير من الترحيب، جلست وإياها في غرفة منفردة، وبعد أن سمعت مني ما أعاني طلبت أن أنزع بنطالي وأستلقي على بطني، وبكثير من الخجل فعلت، بعد برهة أحسست بأصابعها تتلمس آخر فقرات عامودي الفقري من أسفل الظهر، ثم نطقت بالبسملة وأدخلت إصبعين في فتحة الشرج لتضغط على إحدى الفقرات من الجهتين، سمعت حينها صوت طقطقة مصدره عامودي الفقري، ومن ثم لا أذكر كيف غفوت على ذات الحال لمدة تجاوزت الساعة كما عرفت من الطبيبة التي تفضل لقب الشيخة، عدت دون إحساس بالألم ولم أجد تفسيراً لما فعلته، سوى أني أذكر اسم العملية جيداً طق الصرة".
أما صبايا الشوايا يعملن في الزراعة الموسمية، وتوفر كل منهم في نهاية الموسم ما يمكنها من شراء قطعة ذهب تتدخرها للمستقبل، لم يجد هذا المجتمع تاريخياً ما يعيب عمل المرأة سابقاً بذلك مجتمعات المدينة، وقد حصدوا ثمار هذا التعب في نزوحهم من قراهم في الشرق السوري خلال الحرب، فما اكتنزته النساء من مصاغ ذهبي خلال سنوات خلت، كان ذخيرة لعوائلهن في مواجهة قسوة الحرب، وحين دلفوا إلى دمشق اشترت كثيراً من النساء بيوتاً وفتحن محالاً تجارية أو مهنية وَقَت عائلاتهن من السؤال.
العمل هو المقدس الأكبر
وهم الغرور الطبقي كان دافعي الأول للبحث في كل ما يفعله الـشوايا في قراهم، التي كانت بالنسبة لي تشبه الممالك المنسية، لكون كل منها مجتمع قائم بحد ذاته، فغالبا ما يكون سكان القرية من ذات العشيرة، ويلتقون في الجد الخامس أو السادس في أبعد تقدير، وهذا ما يجعلهم أبناء عمومة يجاورون أبناء عمومة آخرين أو أخوال في قرية قد لا تبعد إلا مسافة كيلومتر واحد.
العمل هو المقدس الأكبر لدى الشوايا، فما يفعله الرجال في الشق الزراعي لا تفعله النساء والعكس صحيح، والمرأة في دارها تسد فراغ الرجل إن مرّ بهم ضيف
العمل هو المقدس الأكبر لدى الشوايا، فما يفعله الرجال في الشق الزراعي لا تفعله النساء والعكس صحيح، والمرأة في دارها تسد فراغ الرجل إن مرّ بهم ضيف، وقد لامست ذلك في زيارة عمل لقرية تقع في منطقة قد لا يمر بها غريب إلا مرة في السنة، وقد استغربت حينها أن سيدة في نهاية العقد الثالث من عمرها تطلب منا الجلوس في ظل عريش العنب المتوسط لدارها لنشرب كأساً من الشاي لحين وصول زوجها من عمله ظهراً، ولأن الموبايلات في بداية الألفية الثالثة كانت نادرة في القرى فقد كنا ملزمين أن ننتظر وحسب، والمرأة حينها لم تكن تعرف إن كان زوجها سيصل في موعده المعتاد أم لا، إلا أن تقديرها لكون ضيوفهم جاؤوا من مسافة بعيدة دفعها للقيام بما يجب القيام به وفقا لعاداتها، فقدمت الشاي والماء البارد، ثم انصرفت لمطبخها تعد طعام الضيافة، ولم تكن لتفكر بموضوعات أبناء المدن من قبيل كيف تستقبل غريبا في دارها في غياب الزوج، وما سيقول الناس عنها، وما إلى ذلك من مسلمات اجتماعية في المدن.
بعد خروجنا يومها كان مبرري الوحيد لأحتفظ لنفسي أمام نفسي بمكانتي الطبقية، بأن الأمان في بلادنا، هو ما يدفع امرأة في قرية لاستقبال الضيف والقيام بما يجب القيام به في غياب رجل البيت، ولو أن أمي وضعت في ذات الموقف لربما كان مبرراً لها أن ترفض استقبال الغريب لحين عودة أبي، فنحن نسكن مدينة يمكن للضيف أن يقضي وقته في مقهى أو بتجوال في السوق لحين موعد عودة الرجل.
اليوم أسأل نفسي أي مبرر سخيف ذاك الذي سقته لكي لا أعترف أن تلك المرأة كانت تتقدم علي بمسافات في تحضرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...