شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
قهوة وشِعر وغزل... التعليلة لا تكون إلا في الليالي غير المقمرة

قهوة وشِعر وغزل... التعليلة لا تكون إلا في الليالي غير المقمرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الاثنين 17 أكتوبر 202210:38 ص


يندرج المقال في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى

البدوي لا يقول أحبك لفتاة بل "أريدك". فالحب والحُبة تعني القُبلة، والبدوي لا يدعو الفتاة للخروج في موعد غرامي بل يدعوها للتعليلة، وهي جلسة غير سرية تجمع الطرفين ويتم فيها تبادل الشعر والحديث والغزل، فهي تنظم القصيد كما ينظمه هو، وهو يتغزل كما تتغزل هي، حيث يتنافس الرجال في كسب قلب الفتاة.

حلاوة التعليلة التي لم تذقها الحفيدات 

لم تكن عائلة الفتاة تمانع هذا اللقاء معظم الأحيان لكنها تحولت بفعل الزمن إلى أمر مدان وقد يطعن في شرف الفتاة. يروي المؤرخ أحمد عويدي العبادي في كتابه "المرأة البدوية " عن التعليلة، فيقول: "هي أن يذهب العاشق إلى حيث عشيقته رغم قربها أو بعدها مكاناً وزماناً، نسباً أو قرابة… فتسمح له أن يجالسها، فيتحدثان في شؤون الحب والعواطف الجياشة يفضيها كل منهما للآخر".

البدوي لا يقول أحبك لفتاة بل "أريدك"، فالحب والحُبة تعني القُبلة، والبدوي لا يدعو الفتاة للخروج في موعد غرامي بل يدعوها للتعليلة، وهي جلسة غير سرية تجمع الطرفين ويتم فيها تبادل الشعر والغزل

ويؤكد المؤرخ الراحل روكس بن زائد العزيزي (1903-2004) على هذه الفكرة في إحدى مقابلاته بالقول: " كانت عند الشراكسة عادة تشبه ما يسميه البدو التعليلة، فقد كان من حق الضيف عندهم قديماً أن يجالس العذارى لكي يختار له منهن زوجة، كما كان البدو لا يمانعون أن يجالس الشاب الفتاة التي يحبها ليتخذها زوجة". لكن كثيراً من القبائل التي لا تنكر هذه العادة المتوارثة في جنوب الأردن كانت تفضّل ألا يُرى الشاب أو يشعر به أحد وهو في طريقه ليعلل الفتاة.

في الليالي غير القمرية.. ليظل الحب سراً

تكون التعاليل عادة في الليالي غير القمرية، وعلى العاشق أن يحتاط وهو ذاهب لمقابلة محبوبته بأن يحمل بعض أرغفة الخبز ليُسكت بها الكلاب إذا نبحت عليه أو أثارت الريبة من حوله.

تكون التعاليل عادة في الليالي غير القمرية، وعلى العاشق أن يحتاط وهو ذاهب لمقابلة محبوبته بأن يحمل بعض أرغفة الخبز ليُسكت بها الكلاب إذا نبحت عليه أو أثارت الريبة من حوله

ومن قبيلة شمر خاطبت فتاة حبيبها الذي يخشى التعلل معها خوفاً من لوم القبيلة:

ما تهارجن كود بعيونك  اهرج وهرجك على بالي
إن كان اهليك يعذلونك   أنا ترى السيف يحنى لي
يا ليت من جود ردونك   من قبل قصاف الاجالي

معنى القصيدة إن كنت تخاف من لوم عائلتك لك فثمن حديثي معك قد يكون عن القتل بالسيف، ومع ذلك فهي لا تبالي بالموت وتمني النفس بحديث معه قبل أن يأتي الموت على أحدهما. أما المغناة الشعبية "دن القلم وابيض القرطاس" فهي قصيدة كتبها شاعر من عشيرة المجالي بعد أن وصله خبر خطبة حبيبته وهي من عشيرة الطراونة. ومن خلال التأمل في كلمات هذه القصيدة نستطيع استنباط نمط العلاقة بينهما:

والي يحير غزير الراس      شقرا على المتن قرنين

بياض رقبته بياض الكاس    بارز على الصدر نهدين
يا حبته تشفي عليل الناس    حرمت على النذل والشين
جاني خبر خطبتك لا باس   حكم الدهر جايراً شين
حرمت انا الحب والهوجاس  من خطبتك يا رياش العين

ومن كتاب "شاعرات من البادية" لمؤلفة عبدالله بن رداس، ترد قصة عن امرأة فارقها حبيبها بسبب رحلة البحث عن العشب في الربيع، وتتمنى في قصيدتها أن ينتهي الربيع وتعود إلى ديار المحبوب:

متى على الله يهب الهيف      يوم بعشب الزماليقِ
إذا نزلنا ليالي الصيف         يملا النظر شوف عشيقي
لو يذبحوني هلي بالسيف      حلفت لاسقيه من ريقي
على النقا مبسمي ما شيف      ما فتشوه العشاشيق
قلتله على المزح والتوصيف    تفضاة بال عن الضيق 

لم يكن تعلل البدوية مع محبوبها أو غزلها به مستهجناً، ولم تكن الشاعرات أقل قيمةً أو جرأةً من الشعراء في وصف الشوق والرغبة في القبلة و"إهداء الريق" للمحبوب، لكن التمدد الديني الذي طغى على الطابع البدوي واستهدف النساء منذ البداية قلل من حرية البدوية ولجم بعضاً من لسانها، وبالتحديد مع  ظهور المد الوهابي وتحالف محمد بن عبد الوهاب (1703 - 1792) والأمير محمد بن سعود لنشر الدعوة السلفية.

البدوية كانت سافرة الشعر والوجه حتى وقت قريب

فحفيدات البدويات اليوم لم يتذوقن طعم الحرية التي تذوقتها الجدات، ولم يعرفن جلسات الحب التي جمعت الفتاة مع حبيبها قرب بيت الشعر على معرفة من عائلتها، والتي وصفها الرحالة الإيطالي بيترو ديلا فاليه الذي زار المنطقة في بداية القرن الثامن عشر، موثقاً لمشاهداته ومقارناته، يقول: "النساء في البادية حاسرات الوجه ولا يتحجبن، الحجاب من خصائص الحياة المدنية للمرأة، الأمر يختلف في البادية، فالنسوة يمشين سافرات".

إحدى القصص العجيبة التي نرصد فيها بداية القمع الذي واجهته البدويات هي للشاعرة موضي الدهلاوية التي عاشت وعايشت التحولات في الجزيرة العربية في 1780 ميلادي تقريباً، وقد اشتهرت بالشعر والغناء العذب، وعندما سمع عنها رجال الدين الوهابيون وعرفوا ما بلغ صيتها عن حلاوة صوتها وشعرها، أرسلوا إليها أحد رجالهم الغلاظ واسمه سلامة، فقام بضربها ضرباً مبرحاً، فأنشدت متحدية وهي تخاطب حمامةً نامت بقربها:

 عزي لعينك وإن درى بك سلامة   خلاك مثلي يالحمامة تونين
كسر عظامي كسر الله عظامه       شوفي مضارب شوحطه بالجماحين

حفيدات البدويات اليوم لم يتذوقن طعم الحرية التي تذوقتها الجدات، ولم يعرفن جلسات الحب التي جمعت الفتاة مع حبيبها قرب بيت الشعر على معرفة من عائلتها

اندثرت العديد من العادات البدوية مع موجات التدين التي عمّت الجزيرة، ثم مع موجة التدين الجديدة في بداية التسعينيات، فسادت الثقافة المحافظة التي نتجت من تحالف القبيلة مع الدين، وفقدنا أجمل ما كان في البداوة: الحرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard