يندرج المقال في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
مع ساعات الظهيرة، وما يرافقها من حر شديد ليس مألوفاً في سوريا في مثل هذا الوقت من العام، وبصحبة أغنية "اللالا" الحموية وهي تصدح من مذياع سيارة مكتظة بالركاب، بدأت هواتفنا المحمولة تفقد "التغطية" شيئاً فشيئاً، فعلمتُ بأننا على الأغلب نقترب من وجهتنا النهائية. بعد قطع قرابة 60 كيلومتراً من مركز مدينة حماه باتجاه الشمال الشرقي، استقبلتنا وجوه سمحة بعبارات ترحيب سخيّة.
لطالما سألت نفسي، أنا ابنة المدينة وقد عشت جلّ سنوات حياتي فيها، كيف يمكن أن يبدو أي نمط معيشة آخر في سوريا بعيداً عن دمشق. ولطالما قادني فضولي لاكتشاف أوجه خفيّة من ناسها ومدنها وقراها وكل ما يرتبط بهم من أسلوب حياة وثقافة.
"أهلاً بكم في تل حلاوة. نعتذر عن عدم امتلاكنا تغطية للهواتف سواء الأرضية أو المحمولة، لكن لدينا الكثير من الحفاوة والبساطة والطعام اللذيذ والهدوء الساحر". بهذه الكلمات تخيّلت بأن مضيفينا يستقبلوننا في هذه القرية الصغيرة الواقعة في ريف مدينة إدلب، وتحديداً على الحدود الإدارية بين محافظات إدلب وحلب وحماه، ويحدثوننا عن نمط حياتهم الذي يفخرون به ويسعدون بمشاركة كل تفاصيله مع ضيوفهم القادمين من مدن سورية مختلفة.
استقرار جزئي
ينتمي سكان تل حلاوة والقرى المجاورة لها إلى عشيرة "الحديديين"، وهي من العشائر الكبيرة في سوريا والسعودية والعراق، وتتفرع عنها 36 فخذاً منها "بو صليبي" و"بو جميل". يعيش أفرادها بين أرياف حلب وإدلب وحماه، دون أن يرتبط وجودهم بالحدود الإدارية بين المحافظات السورية إذ إنه أقدم منها بكثير.
لطالما سألت نفسي، أنا ابنة المدينة وقد عشت جلّ سنوات حياتي فيها، كيف يمكن أن يبدو أي نمط معيشة آخر في سوريا بعيداً عن دمشق. ولطالما قادني فضولي لاكتشاف أوجه خفيّة من ناسها ومدنها وقراها وكل ما يرتبط بهم من أسلوب حياة وثقافة
اعتاد الحديديون كغيرهم من القبائل إتباع نمط حياة البدو في الترحال والتنقل حسب فصول السنة، والاعتماد على الرعي والزراعة الموسمية كمصادر دخل أساسية، ولكن ذلك تغير في العقود الخمسة الأخيرة على الأقل وفق حديثهم، إذ بدأوا في الاستقرار وبناء بعض القرى، ولم يفقدهم ذلك في الوقت ذاته معظم التفاصيل المتعلقة بحياة البداوة. وتقدر الأرقام نسبة البدو في سوريا ما بين 10 و20 بالمئة من السكان.
بذلك، يعيش سكان المنطقة اليوم في بيوت كبيرة وبسيطة في الوقت ذاته، وقسم منهم ما زال يمارس نمط الحياة المتنقل ولو بشكل جزئي، إذ يمتلكون منازل، سواء من الطوب أو الشعر، ويغادرونها في أوقات معينة من السنة ويعودون إليها كوجهة نهائية، ويطلق عليهم اسم "الغنّامة" أي رعاة الغنم. ونتيجة لذلك، يستمرون بتسمية أنفسهم بمصطلح "العرب"، ويقابله مصطلح "الحضر" لسكان المدن، وكثيراً ما ترد في عباراتهم وبشكل عفوي عبارة "نحن العرب" في تمييز لحياتهم عن أنماط الحياة الأخرى.
"ما تغيّر عنا شي"
ما زالت عادات البداوة حاضرة بقوة في معظم تفاصيل الحياة اليومية في تل حلاوة، مع تغيّرات لا بد منها ناجمة عن الاستقرار وتطورات المعيشة عموماً.
مثلاً، يستمر معظم أهل العشيرة من الرجال بارتداء نفس الملابس من عباءة طويلة وغطاء للرأس يختلف بين الأبيض والأحمر أو الأبيض فقط، وفق معايير كالمرحلة العمرية والمكانة الاجتماعية والنطاق الجغرافي. أما النساء بمجملهن فيرتدين عباءات طويلة ملونة مع الحجاب.
ويعتمد السكان في وجبات طعامهم بشكل أساسي على البرغل، مع بعض الإضافات، ويفخرون بمنتجاتهم من اللحم والسمن العربي واللبن ذات الجودة العالية، والشهرة على مستوى سوريا وحتى خارجها، لأن "السمن الحديدي" يعتبر من أفضل أنواع السمن، وتُشهِر كثير من محال الحلويات الشرقية السورية استخدامها له في صناعاتها بأن تكتب على واجهاتها: "بالسمن الحديدي"، ويردّ أهل العشيرة ذلك لحرص النساء أثناء إعداد السمن وطبخه على النظافة التامة.
يعتمد السكان في وجبات طعامهم بشكل أساسي على البرغل، مع بعض الإضافات، ويفخرون بمنتجاتهم من اللحم والسمن العربي واللبن ذات الجودة العالية، والشهرة على مستوى سوريا وحتى خارجها، لأن "السمن الحديدي" يعتبر من أفضل أنواع السمن
ويهتم أهل العشيرة كثيراً بسمعتهم، فإن وقع أحدهم في مأزق أو خلاف ما، لا يتوانون عن مساعدته كجزء من المثل العليا التي يتمسكون بها. "الشغلة شغلة ناموس، وما منخلي حدا يحكي على عشيرتنا أو جماعتنا"، يقولون.
العائلة وحضور النساء
تتميز العائلات في المنطقة بكثرة عدد أفرادها، خاصة مع كون الزواج المتعدد أمراً مألوفاً في معظمها. ولعل رغبة أغلب أهل العشيرة بإنجاب كثير من الأولاد مردها إلى استمرار تأثرهم بالعادات القبلية التي تفضّل العائلة الكبيرة وتعتبرها بمثابة قوة وحماية اجتماعية واقتصادية.ويرتبط أفراد الأسرة بشكل محبب بعلاقات مبنية على الود والتعاون والطيبة، وهو ما لمستُه خلال زيارتي لأكثر من منزل في تل حلاوة والقرى المجاورة.
ومن التغيرات الملموسة التي يتحدث عنها الجميع باهتمام، ارتفاع نسبة التعليم المدرسي والجامعي في صفوفهم خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، بعد أن كان محصوراً فيما مضى بالتعليم الديني فقط، ومن المألوف أن نجد أطفالاً كثراً يرتادون المدارس في الصباح، ويتابعون بعدها عملهم في رعي الغنم وهو أمر يتقنونه بسن مبكرة. لكن تبقى نسبة الإناث بين الطلاب أقل من الذكور، إذ ما يزال من الشائع زواج معظم الفتيات قبل بلوغ العشرين وانخراطهن بمسؤوليات الحياة الزوجية.
ولا يعني ذلك انحسار حضور المرأة في المجال العام، فهي تضطلع بكثير من المهام داخل المنزل وخارجه، كما هو الحال في معظم أنحاء سوريا، ورغم أن كثيراً من العادات القبلية تحتم فصل الرجال عن النساء ضمن مواقف مختلفة، لم يعد الأمر اليوم بهذه "الحدّة"، فليس من المستهجن أن تستقبل المرأة ضيوفاً رجالاً على سبيل المثال. كما يفخر أهل المنطقة بوجود عدة طبيبات وقابلات ومدرّسات وصحافيات بينهم اليوم.
وتبعاً لذلك، تغيّرت بعض عادات الزواج لدى العشيرة. فمثلاً، كان من المألوف سابقاً، وبسبب الأحوال الاقتصادية الصعبة، أن تستخدم العائلة مهر الفتاة بعد زواجها لأمور لا تخصها، كمصاريف زواج أخيها، وهو أمر ما عاد شائعاً. كذلك ألغيت تقريباً عادة عدم حضور أهل الفتاة لعرسها كما كان يحدث سابقاً كجزء من التقاليد والأعراف القبلية.
الحرب أيضاً مرت من هنا
"هل تأثرتم بما حصل في سوريا بعد عام 2011؟"، أسألُ أحد مضيفينا، ليجيبني دون تردد: "بالطبع. كثيراً". ويشير إلى أن نيران الحرب طالتهم كما جميع السوريين.
يتحدث أهالي الحديديين عن نزوح اضطروا إليه من مناطقهم ومنازلهم بسبب اقتراب المعارك، ورغم اعتيادهم الترحال، يبدو جلياً في لهجتهم وعيونهم مدى قسوة تجربة النزوح التي عاشوها، مع أنها لم تستمر طويلاً، إذ تمكنوا من العودة لبيوتهم وجزء منها كان مخرباً ومنهوباً.
ليس من المستهجن أن تستقبل المرأة ضيوفاً رجالاً على سبيل المثال. كما يفخر أهل المنطقة بوجود عدة طبيبات وقابلات ومدرّسات وصحافيات بينهم اليوم
أمر آخر لم يكن أقل قسوة عليهم، وهو هجرة المئات أو الآلاف منهم خلال السنوات الفائتة، إلى دول الجوار أو الخليج أو القارة الأوروبية وغيرها. "اليوم نقيم مراسم عزاء فلا تحضر أعداد كبيرة كما السابق، إذ إن من عاداتنا الوقوف إلى جانب أهل المتوفى بجميع التفاصيل مثل إعداد وجبات الغداء والعشاء. كتار هاجروا، والناس ماعد موجودة"، يقول أحدهم ويشير إلى محاولاتهم المستمرة لتشجيع الناس على العودة رغم صعوبة الظروف.
إلى جانب ذلك ألقت الأحوال الاقتصادية الصعبة في سوريا بظلالها على أهالي العشائر، فرعي الأغنام لم يعد بنفس السهولة، خاصة مع انتشار الألغام في مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بعد المعارك وخسارة كثر من الرعاة أرواحهم أثناء عملهم، والزراعة الموسمية أيضاً تحتاج لاستخراج المياه الجوفية الموجودة على عمق 400 متر على الأقل، وبسبب ندرة المحروقات وارتفاع أسعارها بات الأمر أكثر صعوبة. وهنا يتحدث الناس عن جفاف تدريجي أصاب ينابيع وسواقي كانت في مناطقهم وجعل الزراعة مهمة شاقة، خاصة أن طبيعة الأرض تتطلب الري بشكل يومي. لذلك، تعتمد كثير من عائلات المنطقة اليوم على أبنائها المغتربين لتغطية تكاليف معيشتها.
لا يقطع أحاديثنا سوى صوت عازف المجوز وهو يرحب بنا على طريقته، ورائحة القهوة العربية التي يحافظ السكان على طريقة إعدادها وتحميصها كواحدة من أهم عاداتهم، ومن ثم الدعوة السخية لطعام تقليدي مطبوخ بالسمن العربي مع لبن الغنم المميز، وجلسة سمر ميّزتها خفة الظل والحضور التي يتمتع بها معظم السكان، نساء ورجالاً.
بعد غياب القمر الذي كان بدراً ليلتها، لفّنا مشهد ساحر من السماء الداكنة اللون وآلاف النجوم المتناثرة واللامعة بكل وضوح. هدوء وعزلة تمنيتُ ألا ينتهيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 47 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...