يندرج الحوار في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
لعلّ الشاعر البحريني قاسم حداد (مواليد 1948) صاحب التجربة الطويلة في الشعر والحياة والسياسة هو أقدر الشعراء والباحثين اليوم على رؤية البداوة الحقيقية في فترات ما قبل الإسلام، قبل أن يخيّم عليها الظل الديني ويجيّرها لصالح هويته.
فصل الهوية البدوية العربية عن الهوية الدينية مهمة شاقة وشائكة، وقد تصبح مستحيلة في بعض أجزائها، لكن بحث الشاعر المعمق في الموروث القديم وعشقه الصريح لصعاليك الشعراء وصولاً إلى مجموعته الشعرية "طرفة بن الوردة" من بين عشرات الإصدارات قد يجعلانه الناطق باسمهم بعد مئات السنين.
في هذه المقابلة مع رصيف22 نحاول أن نرى البدوي اليوم في عيني قاسم حداد فيما لو لم يصبح مسلماً، ونتساءل معه هل كان العربي ليلتحق بركب الحضارة لو ظل بدوياً، وماذا لو تطورت هويته الثقافية واللغوية الساحرة، أين كان ليكون اليوم.
البداوة هي رديف الحرية، فلا حدود تقف في وجه الفَرس والفارس في الصحراء، اليوم صارت فكرة العربي مرتبطة بالتزمت والانغلاق، برأيك ما الذي تبقى من حرية العربي/البدوي؟
البدء أصل البداوة، ثمة فطرة يقترحها البدوي على الحضارة، لكن بما أننا لم نزل خارج الحضارة فسوف نقصُر عن اقتحامها بطبيعة الحال وتقديم مقترحنا، ناهيك عن عدم فهمنا للحضارة بمعناها الحالي ليس لأننا خارجها فقط، بل لأننا لا نقبل الآخر بعد ونعتبر الآخر الغريب والجديد عدواً لنا، ولم نزل نعتقد أن الحقيقة والصواب عندنا نحن فقط ولا يملكهما سوانا.
البدء أصل البداوة، ثمة فطرة يقترحها البدوي على الحضارة، لكن بما أننا لم نزل خارج الحضارة فسوف نقصُر عن اقتحامها بطبيعة الحال وتقديم مقترحنا
باعتقادك، هل طغت الهوية الدينية على الهوية العربية البدوية حتى صار التمييز بينهما أو فصلهما مستحيلاً؟
الدين هو ما لا يدركه العرب المسلمون، ما يزعمون بالإسلام إنما هو تعثر لاستغلال الدين في تجهيل الناس، فالدين برغم كل المظاهر التي نراها اليوم بعيد عنا، عندما جاء صاحب الإسلام للعرب كانوا في أجمل مراحل صحراء البداوة، والدليل على هذا أنهم كتبوا ذلك الشعر الأسطوري، الشعر الذي تعرّض للتشويه من قبل أصحاب الدين.
ولكي يمعنوا في التقليل من شأن مجتمع ما قبل الإسلام أسموه بـ"الجاهلية" وهذا توصيف ديني بالدرجة الاولى، فالجاهلية لا يمكن أن تكتب ذلك الأدب الذي وصلنا من مراحل ما قبل الإسلام. والنص القرآني الذي بين يدينا لا يمكن أن ينشأ في مجتمع متخلف أدبياً، تلك كانت البدو وتلك كانت العرب التي تكتب المعلقات، البدء الجميل كان هناك.
في ظل هذه الرؤية، ولو أردت أن تصف الهوية العربية –لا القومية- دون الظل الديني المخيم عليها، فكيف ستصفها؟
العرب تعرضوا للتخلف بسبب توظيف المسلمين الأوائل الدين لتجهيل البدو وتخديرهم عن حقوق الحياة والأحياء، هذا ما كان يقصده ماركس عندما قال إن الدين أفيون الشعوب، هوية العرب لن تتحقق إلا في خروجهم وردّتهم وتمردهم على القوانين المستحدثة على بدائيتهم.
خسرنا مع المد الديني العديد من العادات الحرّة الموغلة في القدم، والتي لا يمكن أن نسميها إلا بدوية، حصراً ودون شبهة تقليد شكل الحرية الغربي، كشرب خمر التمر ورقصة المرأة بالسيف "الحوشي"، ولقاء المحبوب والمحبوبة بشكل علني قرب بيت الشعر "التعليلة"، هل ترى أن العربي قادر على استعادة شكل من أشكال الحرية العربية/ البدوية الكامنة في موروثه، لن نقول الشكل الغربي المنظم للحرية؟
كانت لدينا فرصة الانتقال الحضاري قبل الإسلام، فتحول الحياة البدوية التلقائية كان ممكناً، حتى محمد كان يقترح تطوّر البدو نحو الحضارة التي عرفها في الروم. لكن ما حدث هو تحوّل الإسلام بعد محمد إلى تجارة. ولا يزال هذا النمط التجاري حياً حتى وقتنا الحاضر، ثمة من بالغوا في تقديس محمد كبشر معصوم بعد وفاته، كي يستغلوا فطرة البدو وتجهيلهم.
اعتادت البدوية التغزل برجُلها فحيناً تعده بأن "تذيقه من ريقها" وحيناً "أن تحمل السيف لأجله"، واعتادت أن "تتعلل" معه إلى جانب بيت الشعر في الليالي غير القمرية دون وجل أو شبهة. ما الذي خسره الرجل العربي بخسارة حرية المرأة بأن تعشقه بندية؟
حتى اقتراحات النص القرآني حول المرأة وحدود حقوقها، إذا كانت تصلح لتلك اللحظة الإسلامية القديمة فمن الكارثة تكريسها والإبقاء على استمرار صلاحيتها لكل العصور، ذلك بالضبط ما أدى إلى خسارات المرأة لحقوقها وطبيعتها الممتازة، واعتقد ان تكريس قوامة الرجال على النساء جعلنا نشهد مواصلة وأد المرأة السابق. خسارة المجتمع للمرأة الحرة هو ليس تعويقاً لحياتها فحسب بل كذلك هو تعويق لحياة الرجل وحيويتها. ولكي لا نبالغ لسنا في وارد مساواة المرأة بالرجل في الحياة إسلامياً، لكن على الأقل أنا لا أفهم معنى كلام القرآن عن الحور العين للرجل، دون الكلام عن حق النساء أيضاً.
العرب تعرضوا للتخلف بسبب توظيف المسلمين الأوائل الدين لتجهيل البدو وتخديرهم عن حقوق الحياة والأحياء، هوية العرب لن تتحقق إلا في خروجهم وردّتهم وتمردهم على القوانين المستحدثة على بدائيتهم
هل القبيلة معطىً وهل الدين معطىً، وإن كانا كذلك فهل يمكنهما أن يكوّنا عنصراً مشتركاً لصياغة الهوية؟
معطيات القبيلة امتثالٌ فاضحٌ لمعطيات الدين، يحاول المحافظون دائماً ربط الهوية العربية بالدين حصراً، في حين تسلك الأنظمة العربية أسوأ ما في طبع القبيلة وبطريقة تفكير ضعيفة، ثمة وهم يجري ترويجه، يتمثل في اعتبار العرب مسلمين فحسب، في حين ثمة عرب لا يحصون من طوائف كبرى أبرزها المسيحية. فالمسيحيون مغيبون عن المشهد الذي يتم تصديره.
استكمالاً للسؤال السابق، ما الأفضل برأيك؟ أن نتعامل مع عنصرين أم فصلهما لتشكيل هوية عربية بدوية حرة؟
القبيلة بوصفها البدو الصيادين الذين يصدرون عن حريات الصحراء، هي نقضٌ جوهري للدين باعتباره استعباداً يصادر حريات الفطرة الأصيلة.
هل تعتقد أن البداوة خلعت ثوبها الثقافي وارتدت ثوبها السياسي؟
بسبب من بشاعة التاجر في السياسي، تسنى للعربي المقهور أن يبحث عن ثقافته، لكن ثقافة البدو قد تكون أكثر صرامة من المحافظة الدينية.
القبيلة بوصفها البدو الصيادين الذين يصدرون عن حريات الصحراء، هي نقضٌ جوهري للدين باعتباره استعباداً يصادر حريات الفطرة الأصيلة
ما هو تصورك عما كان سيكون عليه البدوي لم تطورت هويته بدون الخيمة الدينية فوق رأسه، هل كنا سنقرأ شعرا حديثاً مختلفا اليوم لو تطورت الهوية اللغوية انطلاقاً من الفترة التي أسميتها في جواب سابق أجمل مراحل البداوة ؟
سنكون في مصاف من اعترف بفلسفة وعلم ابن رشد وابن سينا وأمثالهم من العلماء والمفكرين، وربما كنا عرفنا الحداثة في وقتها، وربما كان تطورنا ليجيء طبيعياً مثل العالم، لولا أننا- مثل بعض الشعوب- جعلنا الدين متحكماً في حياتنا، ولم نقو على تفادي ذلك طويلاً. صار الاهتمام بما بعد الموت وبالآخرة أكثر من الدنيا. لقد أصبح كل ابتكار يصدر من الفرد خروجاً على الدين، بل إلحاداً وكفراً. وبالتالي صار المجتمع المسلم مستنفراً ضد الجديد والتجديد، وصارت الحداثة ضرباً من الإخلال بنظام الخضوع والاستسلام، أنت مسلم يعني لابد لك ان تكون مستسلماً.
وهذا لا ينطبق على الفكر الديني فحسب، لكن الفكر الأدبي والاجتماعي والتاريخي والسياسي، فكلها خاضعة للمنظور الديني، لقد صار رجالها يحكمون ويتحكمون في كل اجتهاد يصدر عن التفكير، ولولا هذا العسف النقيض للفطرة الإنسانية التي يصدر عنها البدوي، لكنا في حال أفضل من حالنا اليوم بكثير. لقد فقدنا الفطرة البدوية الجميلة، منذ وفاة صاحب الإسلام.
كانت لدينا فرصة الانتقال الحضاري قبل الإسلام، فتحول الحياة البدوية التلقائية كان ممكناً، حتى محمد كان يقترح تطوّر البدو نحو الحضارة التي عرفها في الروم
هل أنت متفائل؟ هل استعادة جزء من حريتنا المفقودة لا تزال ممكنة؟
تعودت الاطمئنان في اليأس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...