يندرج المقال في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
العراق أول من اكتشف الخمور، ورغم الخلاف الحاصل في تحديد الفترة الزمنية، وهل سبقت الحضارة السومرية الأولى أم تلتها، لكن يتفق المؤرخون على أن العراقيين أول من قام بصناعة البيرة قبل أكثر من ستة آلاف سنة، حيث قُدسّت صناعتها ومجالسها.
نتيجة لهذا التقديس وضع له السومريون والآشوريون ثمانية آلهة، أبرزها الآلهة المسؤولة عن حفظ البيرة "نينكاسي"، ووفق المفهوم السومري فإن هذا التقديس ينبع من أسطورة خلق الإنسان التي تقول بأن الآلهة قد تجمعت في حفل أقامه الإله إنكي، وشكوا له إرهاقهم من كثرة الأعمال المؤكلة لهم، فقرر الأخير أن يخلق الإنسان لمعاونتهم، وأمر بأن تدور عليهم الجعة المقدسة، حتى إنتشت أفئدتهم، وهتفوا باسم الإله إنكي الذي فكر بخلق الإنسان".
ويرجع أقدم أثر مكتوب لهذا التقديس في ملحمة جلجامش، التي اعتبرت الجعة "البيرة" وسيلة لتحضّر أنكيدو المتوحش، حيث تخاطبه البغي بقولها: "كل الخبز يا أنكيدو، إنه مادة الحياة، وإشرب من الشراب القوي المُسكر، فهي عادة البلاد".
ارتبط هذا التقديس بالكثير من قوانين الدولة، حيث شرع الملك حمورابي 1792-1750 ق.م، عدة قوانين في صناعة وبيع الجعة، وطرق شربها مما نراه في مسلته الشهيرة.
العراق أول من اكتشف الخمور، ورغم الخلاف الحاصل في تحديد الفترة الزمنية، وهل سبقت السومرية الأولى أم تلتها، لكن يتفق المؤرخون على أن العراقيين أول من قام بصناعة البيرة قبل أكثر من ستة آلاف سنة، حيث قُدسّت صناعتها ومجالسها
وقد استخدم في تحضير هذه الجعة الشعير والتمر وعصير النخيل المستخلص من جذعها، ويرجع ذلك الى انتشار النخيل في أراض العراق إلى الحد الذي عُرف فيه باسم أرض السواد.
خمر التمر عند بدو العراق
تعلم البدو صناعة نبيذ التمر وأجادوه، حالهم في هذا حال العراق كله قديماً، ورغم أن البدو عرفوا بحبهم له وسهولة تخميرهم له، لكنهم في نفس الوقت لم يحيطوه بهالة التقديس المصاحبة له لدى الحضر، وبدلاً من ذلك ارتبط عندهم بمفاهيم بديلة تلائم طبيعة حياتهم وبيئتهم، مثل القدرة على التحمل والشجاعة والجرأة، بحسب تصريح الباحث في التاريخ عماد الجبوري، الذي يقول لرصيف22: "إن هذه المفاهيم كانت عاملاً مساعداً في انتشار خمور التمر بين بدو العراق، سيما أن البدوي بحاجة إلى إثبات رجولته بشكل مستمر بين أقرانه، وهو ما يجعل نبيذ أو عرق التمر محل منافسة بينهم لمن هو الأقدر على التحمل".
وعلى هذا الجانب يؤكد عالم الاجتماعي علي الوردي في كتابه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" أن "البدو في العراق كانوا يرون أن الخمر لا يقدر عليها إلا الشجاع المقدام، أما الرعديد الجبان فليس خليقاً بأن يشرب غير المرَق".
وعن طقوس شربه وتخميره يقول الباحث في التراث العراقي القديم، سعد الخالدي لرصيف:22 "إن طقوس البدو في صناعة خمر العرق تبدأ بعد أن يحلوا رحالهم مؤقتاً في إحدى البوادي، حيث ينظف التمر ويصفى ويحضر بعد وضعه في حاويات طينية محكمة الإغلاق لمدة تراوح ما بين يومين وأسبوع".
البدو في العراق كانوا يرون أن الخمر لا يقدر عليها إلا الشجاع المقدام، أما الرعديد الجبان فليس خليقاً بأن يشرب غير المرَق
ويحدد الخالدي أن عادة شربه محصورة في الرجال دون النساء، وأن وقت شربه كان يفضّل ليلاً أثناء تجمعات السمر والليالي الباردة، بسبب ما يضفيه من حرارة إلى الجسد".
يطلق بدو العراق مسميات محددة لأوقات شرب خمر التمر، مثل التخية وهي الجلسات المحصورة بين وقتي المغرب والعشاء، والجاشرية أي ما بعد منتصف الليل، وهذه الأخيرة من المفضلة لديهم، وغالباً ما يرافقها جلسات طرب صاخبة.
ويشير إلى أن اهتمام البدو بهذه الصناعة يستند إلى انتشار مواده الأولية في مناطق ترحالهم، وسهولة الحصول عليها عند مبادلة بضائعهم، وهو ما يؤكده الأديب المصري أحمد محمد الحوفي في مؤلفه "الحياة العربية في الشعر الجاهلي" الذي يشير إلى أن البدو كانوا يميلون إلى العربدة الشديدة عند شرب الخمر.
عرق التمر لدى البدو قبل وبعد الإسلام
لخمر التمر أسماء كثيرة فهو البتع والفضيخ والبسر والسكر، ولعل كثرة أسمائه العربية تحيل إلى عمق ارتباطه بالصحراء وبالأخص قبل التحريم وانتشار الإسلام، أما بعد ذلك فقد ظلّ ينتج سراً كلما تشددت الدولة وارتدت رداء الدين، وينتشر بين الناس كلما سمحت بذلك. تشير بعض المدونات التاريخية إلى أن جميع البيوت احتوت على أحواض تخمير التمور إبان العصر العباسي.
وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه أن الخمر نوعان: فنوع منهما أجمع على تحريمه وهو خمر العنب من غير أن تمسه نار، فلا يحل منه لا قليل ولا كثير؛ ونوع آخر مختلف فيه وهو نبيذ الزبيب إذا اشتد، ونبيذ التمر إذا صلب.
وقال بعض الناس: نبيذ التمر حل وليس بخمر واحتجوا بقول عمر: فما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام.
وقال بعض الناس... نبيذ التمر حل وليس بخمر واحتجوا بقول عمر: فما انتزع بالماء فهو حلال، وما انتزع بغير الماء فهو حرام
وذكر أن أبا موسى قال: خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع (وهو نبيذ العسل) وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمر التمر يقال له: البتع، والفضيخ. إشارة إلى استمرار صناعة التمر في المدينة المنورة بعد الإسلام لبعض الوقت.
تطورت صناعة خمور التمر، بعد ابتكار العالم الكوفي جابر بن حيان لآلة (721-815) التقطير، واستخدامه في الكحول الطبي على يد العالم أبو بكر الرازي.
اعتمدت هذه التقنية فيما بعد لتقطير كحول الشرب مثل العرق، أخذت المدن هذه الصناعة ومارستها في صناعة كحول الشرب ومنها أخذت القبائل هذه الصنعة وزاد هوسهم بها.
أما البدو الرّحل، فلم يعتمدوا طريقة التقطير بسبب افتقارهم إلى آلة الإنبيق، إضافة إلى حاجة هذه الطريقة إلى وقت طويل للتحضير، ومن ثم بقي خمر التمر التقليدي ملاصقاً لهم.
اليوم، ومع تراجع أعداد البدو الرّحل في العراق بشكل كبير، تراجع الاهتمام البدوي بالمشروبات الروحية بشكل عام، ليس فقط بسبب توطين البدو بل بسبب القيود الاجتماعية المفروضة عليه والتي رافقت ظاهرة التدين في العراق عموماً.
خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن من البتع (وهو نبيذ العسل) وخمر الحبشة السكركة وهي من الذرة، وخمر التمر يقال له: البتع والفضيخ. إشارة إلى استمرار صناعة التمر في المدينة المنورة بعد الإسلام لبعض الوقت
إذ رغم تواجد بعض التجمعات البدوية التقليدية في مناطق بادية السماوة جنوباً، وبادية الجزيرة الممتدة ما بين محافظتي صلاح الدين والأنبار شمالاً حتى الحدود التركية مع محافظة نينوى، إلا أنهم صاروا يحرّمون وجودها بينهم مؤخراً.
في هذا الشأن، تحدث رصيف22 مع أحد عشاق عرق التمر من البدو الرّحل والذي فضل عدم الكشف عن نفسه، وهو يؤكد أن هذه العادة أصبحت منبوذة بين أفراد قبيلته، حيث يوصف شارب عرق التمر بقلة المروءة، وقد يؤدي اكتشاف أمره إذا استمر في الشرب بعد تحذيره إلى التبرؤ منه ونفيه عن القبيلة.
وعن كيفية تمكنه من شرب عرق التمر رغم كل هذه المحاذير والقيود، يؤكد بأنه يشتريه سراً أثناء مروره بالمدن للتسوق أو تبادل البضائع، كما يلجأ إلى تخمير كميات قليلة لا تتجاوز اللتر الواحد، ويحرص على عدم المبالغة في الشرب تحسباً للفت الأنظار إليه.
ويلفت إلى أنه عادة ما يرافق صديقاً أو صديقين من المقربين لسهرة الشرب، فيبتعدون عن خيمهم سراً لقضاء سهرتهم.
وفيها تغزل الشعراء...
شعر الخمريات هو أحد الفنون الشعرية التي تستخدم مصطلحات الشرب والسُكر، ومن أشهر من نظموا الشعر النبطي الشاعر البدوي عدي بن زيد العبادي الذي حافظ رغم سكنه في الحيرة على رصانة البدو في شعره من أكثر من اشتهر به في مضارب الجزيرة العربية واليمن، ويقول في قصيدته الخمرية:
بك صَفَّى سُلافَها الرَّاوُوقُ
مُزَّةً قبلَ مَزجِها فإذا ما
مُزجت لذّ طَعمُها مَن يَذُوقُ
كذلك نقرأ لعريان السيد خلف:
يا تين العجم يا طعم خمرة دير
تسكيني إبكرم وتلومني من أسكر
أما الشاعر كريم القصاب فقد وظّف الخمر كرمز للحرية:
مرة بلبل شربو خمره وسكر
دارت براسه قصص
غمض عيونه وصفن
ومن صفن اتذكر الشجرة وفتح باب القفصاليوم يوصف شارب عرق التمر بقلة المروءة، وقد يؤدي اكتشاف أمره إذا استمر في الشرب بعد تحذيره إلى التبرؤ منه ونفيه عن القبيلة
لطالما افتتن المجتمع العراقي بأطيافه ومن بينها البدو بخمر التمر بأنواعه، فكان رفيق مجالسهم وقصائدهم، لكن تراجع عدد البدو الرحّل –وليس المقصود من هم من أصول بدوية فحسب- قلّل من وجوده كتقليد عراقي أصيل، هذا بالإضافة إلى المد الديني الذي حوّل عادة شرب خمر التمر إلى شكل من أشكال التراث المرفوض على اعتباره "شينة" لا تُغتفر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.