يندرج المقال في ملف "فصل الدين عن القبيلة" من إعداد وتحرير جمانة مصطفى
المرور بمنطقة أبو حامضة قرب الحدود السورية - العراقية شرق محافظة الحسكة تحديداً، كان جزءاً من مسار جولة لفريق تابع حركة الطيور المهاجرة من الجوارح التي تعرف باسم الطيور الحرة، ولأن الطريق الطويلة في صيف العام 2005 أفضت لاستهلاك كل مؤونة الماء البارد، كان من الطبيعي أن نتوقف لدى أول تجمع سكاني نمر به، وظهور ثلاث خيم منعزلة عن الناس.
يستقبلن الضيف في غياب الرجال
تردد البعض حينها بالوقوف لكن العطش أجبرنا. هبط سائق السيارة المتحدر من ريف الحسكة ليسير نحو الخيام التي خرجت منها سيدة عجوز تتبعها مجموعة من الأطفال، وخلفها ثلاث نسوة يترقبن ما قد نطلبه وليعرفن من نحن، وما إن عرفت العجوز بحاجة السائق للماء حتى بدأت ترفع صوتها وهي تقول "يا مرحبابكم"، رافعة يدها لمن يجلسون في السيارة كنوع من التحية وهي تسير نحونا والسائق يتبعها، وقبل وصولها بخطوات كانت تردد كلمات "حدرم.. غير نقوم بواجبكم"، وأصرت على أن ننزل لنشرب ماءاً بارداً ريثما تملأ إحدى النسوة التي كن واقفات حافظة الماء خاصتنا.
ما إن عرفت العجوز البدوية بحاجة السائق للماء حتى رفعت صوتها "يا مرحبابكم"، كنوع من التحية وهي تسير نحونا، وقبل وصولها بخطوات كانت تردد كلمات "حدرم.. غير نقوم بواجبكم"
مع إشارة العجوز البدوية لنا بالدخول لصدر الخيمة الأساسية لنرتاح قليلاً ، صرخت بشابة كانت تراقبنا بالكثير من الدهشة "سوي چاي للضيوف"، ثم استدارت لتزيد الترحيب وتعلمنا أننا سنأكل وجبة الغداء في دارهم، وتطلب منا أن نرتاح وكأننا في منازلنا ريثما يجهز الغداء الذي سيتزامن مع عودة رجال العائلة التي باتت وشيكة.
لم يكن من الممكن أن ترفض أوامر العجوز التي وشم وجهها بعدد من الرسوم على الذقن والأنف ومع حركة يدها المرحبة بنا كان من الطبيعي أن ننتبه إلى الأساور الذهبية الباهظة ورسوم أخرى على يدها.
نظر السائق بعد خروج المرأة لمتابعة شؤون الضيافة والإشراف عليها ليقول للجمع "البدو ما تمرهم وتظل جوعان"، ثم بدأ يشرح أن الأمر هنا يختلف تماماً عن أية مدينة، فالمرأة تستطيع بل يجب عليها أن تكرم الضيف وإن كان زوجها غائباً، بعكس المدن التي يعتبر فيها من المعيب أن تستقبل امرأة رجلاً غريباً في دارها إن كان يخلو من الذكور البالغين، بما في ذلك شقيق زوجها.
بل إنّ من يقبل أن تستضيفه امرأة يكون في عيون الناس متهماً بقلة الأصل، وتجاوز عادات المجتمع وأقدم على ارتكاب ما هو معيب، والمقارنة بين البدو والحضر هنا لا ترتبط بالكرم، وليس لها وجه مادي بالمطلق، بل هي مسألة ترتبط بشكل مباشر بفوارق التفكير في الأنثى بين مجتمع وآخر.
على أساس الواجب
متابعة المسلسل البدوي بعد صلاة الظهر يوم الجمعة كان طقساً سورياً محبباً للكثيرين، ولم يكن الأمر مقروناً بمعرفتهم هذا المجتمع بالقدر الكافي، ولكون شخصيات أي مسلسل هي ثابتة تقريباً: شيخ، فرسان، قهوجي، رعاة، جميلة القبيلة وشخصية شريرة توّلد الحدث الأساس وتصنع الحبكة.
دخلت هذه المسلسلات في التنميط السلبي للبدو خصوصاً لمن لا يعرفون بدقة ما هي البداوة ومن هم البدو وتقسيم العمل لديهم، وبعد مجموعة رحلات في البادية السورية اكتشفت أن هناك ثلاثة أشكال لحياة البدو.
الأول تحول غالبيتهم للاستقرار وبفعل التحسن المادي تمكنت بعض القبائل من شراء مساحات زراعية ومن ثم حفر آبار ارتوازية لضمان مصدر ثابت للماء، لكن هذا الاستقرار والتحول نحو شكل بسيط من حياة الحضر لم يلغِ القواعد المعمول بها مجتمعياً.
شخصيات أي مسلسل بدوي ثابتة تقريباً: شيخ، فرسان، قهوجي، رعاة، جميلة القبيلة وشخصية شريرة توّلد الحدث الأساس وتصنع الحبكة
والشكل الثاني ما يمكن تسميته بـ"الأسرة المتنقلة" حيث يكون هؤلاء من رعاة المواشي الذين يوفدون أحدهم لمنطقة ما ليتعاقد مشافهة على ضمان أرض زراعية بعد حصادها، لتكون بقايا القمح والشعير أو أي محصول آخر، علفاً للمواشي، وما إن تبلّغ الأسرة بإتمام التعاقد حتى ترحل بقطيعها إلى مستقرّهم المؤقت.
أما الشكل الثالث فقد اختفى تقريباً من سوريا لعدة أسباب وهو العشيرة المتنقلة.
استقلالية القضاء البدوي
من يعاشر البدو لأيام سيكتشف نظاماً إدارياً دقيقاً، فللعشيرة شيخٌ هو بمثابة الحاكم، ونظام تداول السلطة في هذا المجتمع يخضع للمعمول به في الأنظمة الملكية أولاً، فوارث الشيخ هو شقيقه الأكبر أو بكره، لكن يجب أن يتم التوافق على الأحقية في توريث "المشيخة"، والمفاضلة هنا من حق كبار العشيرة، يختارون لأنفسهم من يريدون في حال لم يكن هناك مرشح واضح فيما يشبه الانتخابات المصغرة.
فوجهاء العشيرة أشبه ببرلمانها في حال الخلاف على شيء ما، بما في ذلك توريث منصب الشيخ، وهم مجلس حكومتها في الوقت نفسه، فالشيخ يعود لهم للتشاور واتخاذ القرار وتكليف من يجده مناسباً لمهمة حساسة أو سفر إلى عشيرة ثانية لقضية مهمة.
لا يمكن للشيخ أن يوقع عقوبة على أحد إلا في الجنح، أو الجرم المشهود، والعقوبة لا تستمد من الدين في غالب الأحوال. فالعرف هو مصدر التشريع المعمول به غالباً، وهناك عقوبات معروفة مثل النفي والطرد والحبس في الحفرة وهي سجن العشيرة، والجلد، لكن المهم هنا هو التنبه إلى أن العدالة في عرف البدو تقوم أساساً على فكرة التعويض، والتي تسمى بالدية، وذلك لضمان عدم حدوث ردات فعل مستقبلية لأي حدث خاصة في القتل القصد والجرائم التي تتعلق بالشرف.
البدو لا يوقعون عقوبة الإعدام، ويستعيضون عنها بالهدر الذي يجعل من قتل المهدور دمه مباحاً لذوي الضحية
ليس في عرف البدو ما يمكن أن يخفف من جرائم الشرف كالاغتصاب والتحرش، ففاعل هاتين يخضع لعقوبة شديدة أياً كان موقعه في العشيرة، وغالباً ما يكون هدر الدم للمغتصب، والجلد العلني للمتحرش. فالبدو لا يوقعون عقوبة الإعدام، ويستعيضون عنها بالهدر الذي يجعل من قتل المهدور دمه مباحاً لذوي الضحية.
استقلالية القضاء وضمان عدم تحيزه يوجبان أن يكون ثمة لجنة ثلاثية مشكلة من قضاة عشائريين مشهود لهم بالحياد، فلو نشب خلاف طرفاه من عشيرتين مختلفتين، يكون القاضي الأساسي من عشيرة ثالثة، ويعينه قاضيان عشائريان كل منهما ينتمي لعشيرة أحد طرفي الخلاف، وهو نفس مبدأ التحكيم السائد بين الشركات الكبرى والدول حيث تختار كل جهة محكمها أو محاميها ويتفق الاثنان على الثالث ليكون صاحب الحكم النهائي والقول الفصل.
يتم اختيار أرض عشيرة محايدة لإقامة المحكمة التي لا تحتاج للكثير من الجلسات ليصل الجميع لحكم ملزم للطرفين، وسيكون المعترض معتدياً على القانون وبالتالي فاقداً لحقه في القضية ومداناً من قبل كل الأطراف، فتقديس القضاء من أبرز سمات الشخصية البدوية.
فروقات كبرى بين الفقه والعرف البدوي
لا يستند القضاء للدين في تشريعاته بقدررما يستند للموروث الشعبي من القضايا المشابهة في تطبيق نفس العدالة وهذا أيضاً يتشابه مع القضاء النظامي في اعتبار أحكام المحاكم السابقة أحد مصادر التشريع، ولا يوجد مثلاً حكم بالنفي لسارق في الدين ولا يوجد قاعدة فقهية للتحرش الذي لم أجد له ذكراً صريحاً في قانون العقوبات السوري، بل يعتبر شكلاً من أشكال الجنح وجرائم خدش الحياء العام، فيما يعتبره البدو اعتداءً على خصوصية الأنثى التي تسمى بـ"الحرمة".
يأتي هذا التشدد في عدم التعرض للنساء نتيجة كثرة النصوص المتداولة مشافهة، فالعرف البدوي يحرم المساس بالأنثى وإن كانت "سبية" من إحدى الغزوات لعشيرة أخرى، والسبي غالباً ما يكون ناجماً عن طلب فدية لا رغبة في الاستعباد الجنسي في فرق آخر واضح بين العرف البدوي والعرف الإسلامي، والذي عاد للظهور في الحرب السورية.
المرأة مصانة من الاغتصاب أو التحرش أو الاعتداء بالضرب حتى من زوجها، وإن خرجت نحو بيت ذويها لتعرضها لعنف منزلي، لا ترد إلى منزلها تحت قاعدة "وجوب تحمل الزوج تجنباً للطلاق"، كما يحدث في مجتمعات المدن، بل إن ذويها غالباً من يدفعون بالمطالبة بحقها نحو الذروة، ولا تعود لخيمة زوجها، إلا بعد تقديمه ضمانات لعدم تكرار الحادثة، فإن قبلت عادت، وإن لم تقبل بقيت في دار ذويها إلى أن يتبدل من أمرها شيء.
العرف البدوي يحرم المساس بالأنثى وإن كانت "سبية" من إحدى الغزوات لعشيرة أخرى، والسبي غالباً ما يكون ناجماً عن طلب فدية لا رغبة في الاستعباد الجنسي، في فرق آخر واضح بين العرف البدوي والعرف الإسلامي
حتى وإن كان البدو يعتبرون تعدد الزوجات مسألة شرعية، فإن ذلك لا يعني بالمطلق أن تهدر حقوق بناتهم تحت مظلة الزوج، فالشرع الذي يبيح للرجل التعدد يحرم عليه الإساءة للأنثى أياً كان السبب، والصورة النمطية التي تقول بأن البدوي يسيء لزوجته ويعنفها بشكل مستمر، مصدرها بعض شخصيات المسلسلات التلفزيونية لا الواقع.
الرعاة... صغار السن من الأسر الثرية
في كل قبيلة أشخاص يعملون في رعي المواشي، وهم لا يأتون من طبقة أقل مجتمعياً عن بقية أفرادها على غرار ما يشاع في الدراما البدوية، بل على العكس، ففي الغالب هم صغار السن المنتمون لأسر ثرية.
لكن الشيخ ووجهاء القبيلة ونتيجة لثرائهم قد يستأجرون من يرعى مواشيهم التي تكون بأعداد كبيرة، ولا يجوز أن يرعى الشخص قطيعاً يزيد عدده عن مئتي رأس، وهذا ما يسهل عمله في حماية القطيع والتحكم به في الطريق، كما أن الراعي ليس شخصاً غير قادر على حمل السلاح، ففي حالات التهديد يكون واحداً من الطليعة المقاتلة التي ستحمي القبيلة في حال تعرضها للغزو من قبل قبيلة أخرى أو قطاع طرق.
فالقبائل كانت تعتاش على الغزو في حال الفقر، ويتفق على أن الغزو من أساسيات العيش التي وإن لم تكن تتفق مع القواعد الشرعية مثل دم المسلم على المسلم حرام، وتحريم النهب والسطو وقطع الطريق، إلا أنها تنبع من ضرورة البقاء، وبالتالي يكون ثمة توافق على فصل الدين عن احتياجات البقاء أياً كانت، وقد يكون الأمر غير مبرر على المستوى الأخلاقي لكن هل الحروب مساحة لممارسة الفضائل؟
في البداوة لا تقديس للفرد
لا يجد البدو أن منصب الشيخ غير قابل للمساس أو مقدس، إذ يتيح عرف البدو للشخص أن يقيم خصومة قضائية مع شيخ قبيلته أو أحد وجهائها، حكايا كثيرة من هذا النوع سمعتها من لسان جدي عن بدوي تعرض للمضايقة من شيخ قبيلته الذي كان يريد لنفسه إحدى بنات البدوي زوجة له، ولما رفض الأب خطبتها للشيخ أكثر من مرة وجه له الأخير تعنيفاً لفظياً، بمعنى أن الشيخ لا تُرفض مصاهرته، ولأن الرجل ثقل عليه الأمر جنح إلى قاض طلب فيه حقه من الشيخ الذي أهانه لرفض المصاهرة الذي نتج أساساً عن رفض الفتاة المخطوبة له، فما كان من القاضي إلا أن أوقع عقوبة على الشيخ تمثلت بمئتي رأس من الماشية ومئة ناقة، ومرد القاضي لاختيار هذه العقوبة كان على أساس "تساويتما في الخلق ولم تتساويا في الخُلق بسبب المال، فنأخذ من مالك لنعطيه ما جعلك تهينه، فنجبرك على أن تحترم الجميع".
من يستبد لا يصلح أن يكون شيخاً للقبيلة، فيُنحّى بتوافق القوم على بديل من عائلة الشيخ ذاته، فـ"المال يشتري عباية ما يشتري أخلاق"
عُرف البدو يقول إن من يستبد لا يصلح أن يكون شيخاً للقبيلة، فيُنحّى بتوافق القوم على بديل من عائلة الشيخ ذاته، فـ"المال يشتري عباية ما يشتري أخلاق"، و"عباءة المشيخة" مسؤولية تفرض عليه أن يقدم الدعم المادي والمعنوي لمن يقصده من عشيرته أو سواها، وأن يقدم الأمان لمن يستجير به، وألا يدفع بمصلحته أمام مصلحة القبيلة، فإن طُلب منه تحالف مع قبيلة ما لا يقبل إلا بعد مشاورة وجهاء قومه، بشرط ألا يكون طالبو التحالف بغاة، ولا يأتي بعيب ينتقص من قيمة منصبه كشيخ، كأن يتحرش بامرأة أو يشهد زوراً أو يعتدي على مال أحد، ومن فعل مثل هذا يُهجر مجلسه، وهي أولى مراحل حجب الثقة، والعزل من المنصب.
مكانة المرء يجب ألا تضر بقبيلته، وحكاية الشاعر عبد الله الفاضل، المولود في بدايات القرن التاسع عشر دليل واضح على إعلاء شأن الجمع على الفرد، فالرجل الذي كان واحداً من فرسان قبيلة الحِسِنة، ومقرباً من مشايخها، أصيب بالجدري فيمن أصيبوا حينها، ولما ظهر عليه المرض، قامت العشيرة بفعل ما يفعله البدو في زمن الوباء، فشدوا رحالهم وتركوه في خيمته بعد أن عقروا له ناقة ليأكل منها، وربطوا له كلباً اسمه شير، ليحرسه حتى موته المحتوم وفقا لتقديرهم لمرضه، ونقل عن الشاعر قوله الشهير:
"هلي شالو على مكحول يا شير وعافولك عظام الحيل يا شير
يلو تبچي وتهل الدمع يا شير هلي شالو على حمص وحما
من حكاية الشاعر نفسه، تجد أن البدوي يعلي شأن الكل على شأنه، فبعد أن بقي الشاعر وحيداً في خيمته لأيام، مرت به جماعة من عابري السبيل، يرى كثير من رواة البداوة أنهم من "الصلبة" وهم من بقايا الصليبيين الذين استعربوا واختلطوا بالبدو، ويشهد البدو أن "الصلبة" أهل خبرة بالطب ولهم عراقة بذلك، فنزلت امرأة عجوز كانت مع الركب واقتربت من خيمة عبد الله فأشفقت عليه وطلبت من أهلها البقاء عند هذا الرجل حتى يشفى أو يموت، فوافق أهلها على البقاء على أن تشرف العجوز عليه وهم في خيمتهم المهترئة بعيداً عنه في مرتفع، ولم يدخل شخص آخر ممن كانوا معها عليه خوفاً من العدوى، فكانت تسأله عن اسمه واسم قبيلته، فلم يجبها لأنه لم يكن ينوي أن يحمّل عشيرته عاراً.
بعد أيام من الرعاية والخدمة شفي عبد الله من مرضه ولم يملك من أمواله ومتاعه إلا ما في الخيمة، فوهب الخيمة وما فيها لتلك العجوز واعتذر منها لأنه لا يملك غير ذلك ليكافئها به، وذهبت العجوز إلى ذويها وذهب عبد الله إلى الشمال.
البدويات... البدويات
صرامة القواعد الدينية لم تمنع البدويات من أخذ دورهن المجتمعي، فلدى المرأة مهام عمل يومية متناهية الدقة ويناط بها مسائل مثل حلب المواشي وصناعة مشتقات الحليب، وتأمين الشق النسوي من أعمال المنزل كصناعة الخبز وسواه، وهي تقوم بفتح المضافات في حال غياب الرجل مؤقتاً أو كلياً، فمن المعيب أن تنطفئ نار البدوي أيا كان السبب.
في حديث مع جدة أحد رفاق الطفولة، سمعت ما لا تجرؤ امرأة على فعله في المدينة، فمثلاً حدثتنا مرة عن مكان في ريف الحسكة الشرقي يقال له الفسطاط، وهي القرية التي نشأت فيها بُعيد تحول عشيرتها إلى السكن في منازل من طين بدلاً من الخيام، قالت: "كنت في العاشرة حينما مسكت الخنجر أول مرة، وبدأ أبي يعلمني وشقيقتين لي على استخدامه لكي نعرف كيف نحمي أنفسنا في حال الحاجة، كان يجلب في كل يوم قطعة خشبية يعلمنا كيف نطعن بقوة مؤثرة، لكنه في الوقت نفسه كان يقول إن النساء لا يحملن سلاحاً إلا إذا غزيت أرضهن أو منازلهن".
تقول الحجة خضرا إن البدو كانوا ينتخبون واحدة من الجميلات العازبات، غالباً واحدة من بنات الشيخ، فيوضع لها هودج على جمل، وتتزين بأبهى حلة ممكنة وقبل المعركة تنزل من هودجها لتقول الشعر وترفع من همم المقاتلين
بعد فترة بدأ الأب بتعليم الفتيات كيف يستخدمن السيف ومن ثم البندقية، فالخطر قد يكون بشراً أو حيواناً مفترساً، وحماية الذات مسؤولية كبرى يجب تحملها. تروي الجدة خضرا المزيد من الحكايات عن نساء البدو اللواتي كان من بينهن شيخات على اعتبارهن زوجات أو بنات لشيخ قبيلة، وعليهن أن يكنّ قائدات لنسوة العشيرة ومضرب مثل لهن في الأخلاق وتحمل مسؤوليات قد تصل للاشتراك في الدفاع عن القبيلة بالسيف أو بتأجيج روح الرجال المعنوية بالقتال من خلال إلقاء القصائد، وهي عادة متداولة بين العرب منذ ما قبل الإسلام، ومن أشهر نساء التاريخ في هذا الصدد "هند بنت المنذر"، التي اشتركت في جمع العرب لقتال الفرس ثأراً لدهس أبيها بأقدام الفيلة بأمر من ملك الفرس، فكانت معركة القادسية.
عن هذا تقول خضرا إن البدو كانوا ينتخبون واحدة من الجميلات العازبات، غالباً واحدة من بنات الشيخ، فيوضع لها هودج على جمل، وتتزين بأبهى حلة ممكنة وقبل الاشتباك تنزل من هودجها لـ"تقصد" أي تقول الشعر وترفع من همم المقاتلين، وكانت المرأة التي تقوم بهذه المهمة تسمى بـ "العطفة"، أو "العامرية".
وشوم المرأة تتعارض مع النص الديني الإسلامي حالها في ذلك حال التبرج المعلن، إلا أن عرف البدو بقي أقوى من النص الديني ليبقى الوشم زينة تميز نساء القبيلة عن سواهن من نسوة قبائل أخرى، فإن ضاعت أو جرفت بسيل أو سبيت من قطاع طرق أو غزو، ظلت مميزة ومعروفة النسب، وغالباً ما كانت الوشوم المميزة لنساء القبيلة من شكل واحد وفي مكان واحد كاختيار الذقن أو الأنف أو بين العينين لوضع الوشم، لكن ذلك لا يمنع أن يكون ثمة وشوم بقصد التجميل، على الصدر أو النهد أو تحت العين.
ولكون أساليب الوشم تقليدية وتنفذها نساء يعرفن بلقب "دگاگه"، ويتحدرن غالباً من الغجر المعروفين بالقرباط، فإن خطوط الوشم تكون عريضة، وحين تهتم المرأة بإظهار جمال فتياتها والحديث عنه كانت توضع تحت خانة مثل شعبي يقول "دكاكة وتدك لبنتها"، كما أن البدوية تتزين دون حرج من نص ديني أو قاعدة مجتمعية، وتغني في الأعراس بصوت مسموع، وتشارك في الزفة إلى جانب الرجال إلى أن يصل العروسان لخيمة ليلة الدخلة التي كانت تنصب في مكان منعزل عن بقية الخيام، وتسمى بـ"البرزة"، بهدف منح العروسين أكبر قدر من الخصوصية في ليلتهما الأولى، وهذا الفعل لم يكن محرجاً، فليس من المعيب في عرف البدو أن يكون ثمة مكان معروف لكل القبيلة لفعل حميمي بهذا القدر بين زوجين.
أين هم؟
تمكين المرأة مجتمعياً وحماية حقوقها وحريتها، واستقلال القضاء وسيادة العدل على جميع أفراد المجتمع، وعدم تقديس الأشخاص، وإعلاء شأن الجماعة على الفرد ونبذ عقوبة الإعدام بالشكل المباشر، وتحييد النص الديني حين الضرورة وتقديم العرف القانوني المعمول به، تعد من أساسيات تماسك مجتمع البدو، الذي تشير مناهج الحكومة السورية قبل الحرب إلى أن نسبة أبنائه لم تكن تزيد عن 1 ٪ من مجموع السكان.
سُجّل عدد كبير من جرائم السطو المسلح على البدو الذين قضى بعضهم في مجازر جماعية، ففي إحصائية غير رسمية جمع رصيف22 بياناتها من مصادر متعددة، سُجّلت 34 حالة سطو مسلح في العام 2021 استهدفت خيام البدو، وتوزعت بين محافظات الرقة والحسكة ودير الزور وحمص
لكن واقع الأمر يقول إن نسبة البدو تصل إلى عشرين بالمئة تقريباً من سكان سورية قبل الحرب إذا ما جمع عدد سكان قرى ومدن تدمر، القريتين، حميمة، التنف.
وقد ميز ابن خلدون بين عشائر البدو وعشائر حوض الفرات، فالبدو يعملون غالباً في تربية النوق وبنسبة أقل بتربية الشياه، بينما يطلق على سكان عشائر حوض الفرات لقب الشوايا لاشتغالهم في تربية الأغنام أكثر من غيرها، إضافة إلى الأعمال الزراعية، وقد يتلاقى البدو والشوايا في الأنساب لكن ثمة فوارق بيئية وعرفية بينهما، لدرجة أن البدو يصفون الشوايا بالحضر، نظرا لثباتهم في قرى ومدن تتوزع بين متوسطة وكبيرة.
طوال سنوات الحرب غابت ظاهرة البدو الرحّل عن سورية، وقرر غالبية سكان البادية النزوح نحو مناطق الداخل السوري هرباً من المعارك أو تجنباً لتعرضهم لغزوات من اللصوص أو التنظيمات المتشددة مثل داعش.
مع عودة بعضهم للبادية خلال العامين الماضيين، سُجّل عدد كبير من جرائم السطو المسلح على البدو الذين قضى بعضهم في مجازر جماعية، ففي إحصائية غير رسمية جمع رصيف22 بياناتها من مصادر متعددة، سُجّلت 34 حالة سطو مسلح في العام 2021 استهدفت خيام أو مخيمات للبدو موزعة بين محافظات الرقة والحسكة ودير الزور وحمص، الرقم الأكبر 20 حالة سطو سُجّل في مناطق تخضع لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، والبقية ضمن مناطق تسيطر عليها الحكومة.
ومنذ بداية العام 2022 سجلت 12 حالة مشابهة، 9 منها في مناطق سيطرة الحكومة السورية، ووجّه جميع الأطراف الاتهام لبقايا تنظيم داعش في الوقوف وراء هذه الجرائم التي غالباً ما يكون ضحاياها من البدو، كما تشير المعطيات إلى وفاة 45 شخصاً في الجرائم التي استهدفت البدو منذ بداية 2021 حتى اليوم.
يعد ريف دمشق الجنوبي ودرعا والسويداء والقنيطرة من المناطق الأكثر أمنا لترحال البدو الذين يستثمرون الأراضي الزراعية عقب حصادها، بعد أن بات مشهد خيامهم مألوفاً خلال العامين الماضيين بالنسبة لسكان هذه المناطق، فلعلّ صعوبات البقاء تعيد المجتمعات إلى عاداتها القديمة والآمنة أو بالأحرى المجرّبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...