شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لا أمان لنا لا في البيت ولا خارجه"... أثمان باهظة للأزمات تدفعها النساء في لبنان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 2 سبتمبر 202201:41 م

هذا التقرير أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

"لم أعد أخرج من المنزل ليلاً"؛ عبارةٌ تكرّرت على ألسنة نساء يعشن في بيروت، قابلناهنّ لسؤالهنّ عن كلفة انعدام الأمان عليهنّ، وتحدّثن عن أثمان باهظة يدفعنَها يومياً.

اليوم، تعيش النساء في لبنان طبقاتٍ من المعاناة على خلفية الأزمات التي تعصف بالبلد. ففي ظلّ أزمة اقتصادية صنّفها البنك الدولي على أنها إحدى أكبر الأزمات في التاريخ، وما يرافقها من تدهور على صعيد الحريات والحقوق وأزمات سياسية واجتماعية، أصبحت حياة النساء أشبه بمعارك يوميّة وحروب لا تنتهي. فالصراع من أجل تأمين قوت، وتأمين المستلزمات، والاعتناء بالأسرة وغيرها من المسؤوليات اليومية، يقابله أيضاً صراع خفيّ من أجل الوصول إلى أدنى متطلّبات الأمان (جسدياً، ونفسياً، ومعيشياً، واجتماعياً، وسياسياً...)، أو الإحساس به، عدا عن الصراعات الداخلية الموازية، والتي قلّما تُذكر، بحثاً عن توازن نفسي ما.

خلال عامين فقط من استفحال الأزمة، بدأت التبدّلات العميقة في المجتمع اللبناني تظهر جليةً في الحياة اليوميّة للمقيمين/ ات في البلد، وذلك بعد تراجع القدرة الشرائيّة والمستوى المعيشي لكثيرين/ ات. تعيش جميع النساء اللواتي تحدّث رصيف22 إليهنّ، في ظلّ رعب يومي، ويصفن كيف بات يرسم حياتهنّ ويجبرهنّ على تغيير الكثير فيها، إلى درجة أنهنّ بتنَ شبه حبيسات منازلهنّ، فيما بات الليل بمثابة وحش كبير قد يبتلعهنّ في أي لحظة.

تعيش جميع النساء اللواتي تحدّث رصيف22 إليهنّ، في ظلّ رعب يومي، ويصفن كيف بات يرسم حياتهنّ ويجبرهنّ على تغيير الكثير فيها، إلى درجة أنهنّ بتنَ شبه حبيسات منازلهنّ، فيما بات الليل بمثابة وحش كبير قد يبتلعهنّ في أي لحظة

الاستقلالية الاقتصادية مدخل للأمان... أو لانتفائه

برسيكا شعار (27 عاماً)، لبنانية تعمل مديرة منح في إحدى الجمعيات، لم تكن تعيش في لبنان عندما بدأت الأزمات التي يعيشها البلد تتّضح وتمثُل في الحياة اليوميّة، وعندما عادت، بدت وكأنها في بلد آخر لا تعرفه، ما أضاف إلى صعوباتها صعوبات. "كُسِر فيّ شيء هنا، ولا أعرف كيف أتأقلم. الاكتئاب يسيطر عليّ. كنتُ أخرج إلى مكانين فقط لا أقصد غيرهما، لكنّي أصبحت ملازمةً للمنزل ولا أرى أحداً حتى". تضيف برسيكا في حديثها إلى رصيف22: "لا أفهم الأسعار، ولا أخرج لتبضّع حاجياتي، ولم أدخل إلى سوبر ماركت منذ فترة. كل حاجياتي أطلبها ديليفيري... هناك أيام لا آكل خلالها لأني لا أريد أن أطهو لنفسي فقط، ولا أريد أن أدفع مبالغ أكبر مقابل الطعام، فأتخلّى عن وجباتي من أصلها".

قد يظنّ بعضهم أن برسيكا محظوظة لأنها تتقاضى راتبها بالدولار، لكن المسألة أعقد من فرق عملة، لا سيما أن المسؤوليات تزداد ثقلاً. تقول برسيكا: "أشعر بالذنب لأني أتقاضى راتبي بالدولار الأمريكي، وأشعر بالعجز لأن حياتي، بالرغم من ذلك، ليست أسهل. أشعر بالذنب تجاه الآخرين وتجاه والدتي المعلّمة التي تعاني من تأثيرات كبيرة للانهيار وبات مدخولها لا يساوي شيئاً". وتتابع، "أشعر بأن ليس من حقي أن أشكو لأن هناك مَن يعانون أكثر مني بسبب الأزمة".

الضائقة المالية التي تأسر الكثيرين/ ات في لبنان اليوم، جرّاء الأزمة الاقتصادية وما تبعها من انهيار في قيمة العملة أمام الدولار وانخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين/ ات والمقيمين/ ات في البلد، ترخي بثقلها على الجميع، لكنّ أقسى تأثيراتها يقع على الفئات الفقيرة المهمّشة منذ ما قبل الأزمة

خسارة القليل والكثير

الضائقة المالية التي تأسر الكثيرين/ ات في لبنان اليوم، جرّاء الأزمة الاقتصادية وما تبعها من انهيار في قيمة العملة أمام الدولار وانخفاض القدرة الشرائيّة للمواطنين/ ات والمقيمين/ ات في البلد، ترخي بثقلها على الجميع، لكنّ أقسى تأثيراتها يقع على الفئات الفقيرة المهمّشة منذ ما قبل الأزمة.

مريم (37 عاماً)، عاملة بنغلادشية مقيمة في لبنان، تأثّرت حياتها بشكل بالغ جرّاء الأزمة. فهي لم تعد تخرج من غرفتها إلا لهدف العمل، ونهاراً فحسب، واستغنت أيضاً عن الترفيه المنخفض الثمن الذي كانت تلجأ إليه في أيام عطلتها ما قبل انفجار بيروت 2020، وفق ما تقول في حديثها إلى رصيف22: "أُنهي عملي نهاراً وأعود إلى المنزل مباشرةً. لا أذهب إلى أي مكان، فأنا خائفة".

تشرح مريم أنّها لم تتعرّض لسرقة أو مضايقات مباشرة، لكن كان يكفي أن تسمع كلام صديقاتها اللواتي تعرّضن للنشل في أماكن مختلفة من بيروت وضواحيها لتعزف عن الخروج، وأن تشهد على ارتفاع كلفة التنقّل والتبضّع.

تقول مريم: "كنتُ أذهب إلى الدورة أو سوق الأحد أو سوق صبرا لشراء حاجياتي، لكنّ كلفة المشوار نفسها ارتفعت، فأصبحت كلفة السرفيس الواحد 50 ألف ليرة، أي الذهاب والإياب 100 ألف ليرة، وأنا كلّ ما أجنيه لقاء ساعة عمل يصل إلى 100 ألف ليرة، هذا إن دفع أصحاب البيوت التي أعمل في تنظيفها هذا المبلغ، فكثيرون/ ات منهم لا يقبلون بدفع أكثر من 60 ألف ليرة، ما دفعني لترك العديد من الوظائف كون كلفة التنقل إليها باتت تقرب المبلغ الذي أتقاضاه لقاء ساعتين أو ثلاث من العمل".

عام 2020، قالت هيئة الأمم المتحدة للمرأة، إنّ نسبة البطالة بين النساء في لبنان وصلت إلى 26%، فيما حذّرت أنجيلا الزير من البنك الدولي في مدوّنة لها عام 2021، من أنّ الأزمات المتعددة (ومن بينها الأزمة الاقتصادية والجائحة وغيرهما)، من المرجح أن تؤدي إلى ضياع التمكين الاقتصادي للنساء.

عام 2022، استمرّ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، فوصل الأخير إلى أكثر من 30 ألف ليرة لبنانية في آب/ أغسطس. ما قبل الأزمة، كان الحد الأدنى للأجور في لبنان يساوي 450 دولاراً وفق سعر صرف رسمي يساوي 1،515 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أما اليوم، فباتت قيمته تساوي 22 دولاراً.

"هناك انعكاساً للأزمة يرتبط بالحركة والتنقّل، يضيف من ثقلها على النساء. علينا اليوم أن نحسب الكلفة الهائلة للتنقل عبر سيارات الأجرة، أو الخطر الأكبر من التعرّض للمضايقات في الباصات، لأن هذه الوسيلة يشغلها بشكل أكبر الرجال"

رفاهية الخروج من المنزل

في حديث إلى رصيف22، تشير هند حمدان، وهي متخصصة في الشؤون الجندرية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إلى أنّ "هناك انعكاساً للأزمة يرتبط بالحركة والتنقّل، يضيف من ثقلها على النساء. علينا اليوم أن نحسب الكلفة الهائلة للتنقل عبر سيارات الأجرة، أو الخطر الأكبر من التعرّض للمضايقات في الباصات، لأن هذه الوسيلة يشغلها بشكل أكبر الرجال. فكيف يمكننا إذاً أن نخلق مساحةً آمنةً في هذه المساحات مع انهيار أكبر وعنف في ازدياد؟ حتى خيار المشي أصبح أكثر خطراً. ففي وضح النهار، أصبح المارّة أكثر عرضةً للسرقة، والنساء غالباً ما يُستهدفن بعمليّات النشل، أما التنقّل بالسيارة فبات أكثر تكلفةً بسبب ارتفاع سعر المحروقات".

بات التنقل رفاهيةً في لبنان نظراً إلى كلفته المرتفعة جداً. في سيارات الأجرة (السرفيس) تتفاوت القيمة بين 50 و60 ألف ليرة لبنانية، بينما يقفز هذا السعر ليصبح في حده الأدنى 80 ألف ليرة باستخدام تطبيقات الأجرة، مثل "أوبر" و"بولت"، ويصل إلى 150 ألف ليرة في داخل بيروت، ليرتفع إلى أكثر من 400 ألف ليرة في حال كان التنقل إلى خارجها، ويصل هذا الرقم إلى أعلاه في حال الاعتماد على مكاتب تاكسي خاصة تعمل داخل لبنان، لكنّها توفّر إحساساً أكبر بالأمان كون آلياتها في توظيف السائقين أدق وطرق تعقبها لهم أوضح.

"انعدام الإحساس بالأمان نتيجة. فانعدام الأمان الاقتصادي هو الذي يؤدي إلى انعدام الأمان جسدي".

تشرح هند حمدان، عن تأثير هذه الأزمة على النساء، عادّةً أنّ "انعدام الإحساس بالأمان نتيجة. فانعدام الأمان الاقتصادي هو الذي يؤدي إلى انعدام الأمان جسدي". وتضيف: "بسبب الغلاء المعيشي وعدم ملاءمة الرواتب له، باتت كثيرات من النساء يعمَلن فقط ليدفعن مصاريف تنقّلاتهنّ التي ارتفع ثمنها كثيراً، من دون أن يتبقى لهنّ مبلغ يُذكر لإعالتهنّ، لذا وجدن أنفسهنّ في المنازل يقمن بأدوار رعائيّة مجانيّة، وفقدن أمانهنّ الاقتصادي الذي كان متاحاً نوعاً ما قبل الأزمة، ومعه استقلاليتهنّ في قراراتهنّ، ما يعني أنهنّ بتنَ غير قادرات على إيجاد استقلاليتهنّ المادّية ومساحاتهنّ الآمنة، خصوصاً إن احتجنَ إلى الخروج أو العلاج النفسي أو غيرهما من الاحتياجات".

ينعكس هذا الواقع بوضوح في كلام برسيكا التي تقول: "كنتُ أخرج يومياً، لكني بتّ أتخلى عن ذلك لأن الخروج يعني التفكير في العودة. كنتُ أتمشى في السابق لكني اليوم لا أريد أن أدفع كلفة إضافيةً للتاكسي، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أمشي ليلاً. لم أكن أكترث سابقاً، لكن (منطقة) "الجعيتاوي" بلا كهرباء، مرعبة ومخيفة. لم أكن أتخيل يوماً أني سأخاف المشي إلى هذا الحد". وتردف: "أشعر طوال الوقت بأني إن أصبتُ بأي مكروه واختطفني أحد أو قتلني، فلن ينتبه أحد، لأن أحداً لا يهتم أصلاً". "كل الناس يعيشون في حالة شلل وأنا أعيش فيها أيضاً. لذلك لا ألومهم إن لم يساعدوني، وأشعر بأنه عليّ أن أحمي نفسي... لكن اليوم ليست لدي القدرة".

هذا الرعب من التعرّض للخطر ليس في مخيّلة النساء، بل هو واقعهنّ الأليم. تقول ليال محمد (34 عاماً)، وهي منتجة محتوى سورية لوسائل التواصل الاجتماعي، إنّها عندما استأجرت منزلها، اختارت المنطقة بسبب أمانها، وقبلت بإيجارات أغلى من غيرها لهذا السبب. بالرغم من ذلك، تعرّضت ليال للنشل عام 2020، في أحد شوارع المنطقة التي تُعدّ من الأكثر أماناً في بيروت.

"لم أعد مرتاحةً إلى المشي في الشارع بعد غروب الشمس. لم أعد مرتاحةً إلى الخروج من المنطقة التي أقطن فيها بعد غروب الشمس... حتى أنه لا يخطر لي أن أخرج مع صديقاتي البنات كوني لا أشعر بالأمان أبداً"

نساء بيروت ودّعن "لايف ستايل" الماضي

أثّر انعدام الأمان في ليال كثيراً، فباتت تفكّر أكثر في ما ترتديه وما تفعله وكيف؟ تقول ليال: "كلّ اللايف ستايل الخاص بي تغيّر وأصبحتُ أكثر انغلاقاً على نفسي وأفضّل المنزل كوني خائفةً من مجرّد الخروج". وتضيف في حديثها إلى رصيف22: "حتى عندما أخرج -إذ يجب أن أخرج للذهاب إلى عملي وإنجاز واجباتي- أخرج غصباً عني، وهذا يستهلك الكثير من طاقتي ويُشعرني بأني مستنزفة طوال الوقت حتى إن لم أفعل شيئاً، وهذا وحده كلفة كبيرة".

تشرح ليال أكثر عمّا تشعر به، قائلةً: "لم أعد مرتاحةً إلى المشي في الشارع بعد غروب الشمس. لم أعد مرتاحةً إلى الخروج من المنطقة التي أقطن فيها بعد غروب الشمس... حتى أنه لا يخطر لي أن أخرج مع صديقاتي البنات كوني لا أشعر بالأمان أبداً". عزفت ليال عن الكثير من النشاطات، حتى "العادية" منها. "ضغطُ الأزمة الاقتصادية وتعرّضي للسرقة وانفجار بيروت كلها تشعرني بأني مهما فعلت، يبقى احتمال الأذية عالياً، والـptsd (اضطراب ما بعد الصدمة) وحده يكفيني".

وثّقت منظمة "كفى عنف واستغلال"، 1،396 حالة عنف أسري جديدةً عام 2021، في حق نساء في لبنان.

تشير ليال إلى ما لا يمكن السيطرة عليه قائلةً: "بالرغم من كل الإجراءات، هناك ما لا يمكن السيطرة عليه، أي الخوف. لا أتنقل إلا بتاكسي مكتب، ولا أمشي في شوارع معتمة، وبدّلت طريقة حمل محفظتي. لا أخرج ليلاً، ولا أستخدم هاتفي في الشارع. لكننا نريد حلاً... فالخوف يسيطر عليك حتى عندما تكونين في المنزل والباب مقفلٌ. وبالرغم من كل هذا الخوف، مطلوبٌ منّا أن نقوم بأعمالنا على أكمل وجه".

الجرائم في ارتفاع... والتبليغ عنها في انخفاض

ارتفعت نسبة الجرائم في لبنان وفق تقرير أعدّته شركة "الدولية للمعلومات" يقارن بين معدلات الجرائم منذ 2018 وحتى 2022، استناداً إلى الأرقام الصادرة عن قوى الأمن الداخلي اللبناني.

في هذا الإطار، تقول هند حمدان: "مهما كانت الخلفية الاقتصادية-الاجتماعية للمرأة، يظل يُنظر إليها على أنها الأضعف، لذا فالنساء مُستهدفات بالجرائم أكثر من الرجال". فإلى جرائم النشل والسرقة والاعتداء، تُضاف جرائم العنف ضد النساء، وهنا تلفت حمدان إلى حقيقة ارتفاع نسبة العنف الأسري وجرائم قتل النساء، متسائلةً: "إن كان لا أمان لنا في الداخل والخارج، فكيف يمكننا أصلاً تعريف الأمان؟ يُرجّح أنه مع استفحال الأزمة وزيادة العنف والفلتان الأمني، ستعود الأمور لتصبح تصويباً على النساء وأجسادهنّ".

تشير "أبعاد" إلى أنّ "تزايد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية دفع بالعديد من العائلات إلى تقليص مصاريفها الشهرية وأحد أشكال تلك التدابير هو إبقاء هاتف واحد ضمن العائلة، والذي يمتلكه عادةً هو الزوج، لذلك بات أصعب على النساء والفتيات المعنفات التواصل عبر الخط الآمن"

وثّقت منظمة "كفى عنف واستغلال"، 1،396 حالة عنف أسري جديدةً عام 2021، في حق نساء في لبنان. وتلقّى الخط الآمن الخاص بمنظمة "أبعاد" عام 2021، 3،600 اتصال، فيما وصل الرقم هذا العام إلى 989 اتصالاً حتى شهر تموز/ يوليو. ووفق ما أبلغت "أبعاد" موقع رصيف22، فقد رصدت المنظمة 14 جريمة قتل للنساء ضمن جرائم العنف الأسري أو الزوجي عام 2022، حتى آب/ أغسطس، فيما وصل عدد جرائم قتل النساء خلال عام 2021 إلى 18 جريمةً.

هذه الأرقام تعكس فقط الجرائم التي عُرف عنها، بينما تبقى العديد من الحالات غير مُعلنة، إذ تشير "أبعاد" إلى أنّ "تزايد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية دفع بالعديد من العائلات إلى تقليص مصاريفها الشهرية وأحد أشكال تلك التدابير هو إبقاء هاتف واحد ضمن العائلة، والذي يمتلكه عادةً هو الزوج، لذلك بات أصعب على النساء والفتيات المعنفات التواصل عبر الخط الآمن، وصرنَ يطلبن المساعدة عبر التوجّه مباشرةً إلى مراكزنا المنتشرة في مناطق لبنانية عدة".

بينما تختلف أسباب انعدام الأمان بين النساء اللواتي قابلناهنّ، قليلاً، إلا أنّ ملامح انعكاساتها واحدة. 

رعبٌ يتحقق

بينما تختلف أسباب انعدام الأمان بين النساء اللواتي قابلناهنّ، قليلاً، إلا أنّ ملامح انعكاساتها واحدة. تحكي كارن نصر (22 عاماً)، وهي متدرّبة لبنانية، عن حادثة حصلت معها عندما كانت مع صديقتها في السيارة. اقترب منها رجل، وحاول الدخول إلى السيارة. "كنتُ قد أقفلت الأبواب، لكنّه، ولكي يحاول استدراجي إلى فتحها، ألقى بنفسه على الجانب الأمامي من السيارة. كانت لحظات مرعبةً، كنتُ خائفةً وأعرف النتائج التي قد تترتّب على محاولة مقاومته، لكنّي قررتُ الدفاع عن نفسي. شغّلتُ السيارة ومشيت بهدوء، فوقع عنها. غضب الرجل وركب سيّارته ولحق بنا، استمرّ ذلك لمدة نصف ساعة كنا ندور فيها من جلّ الديب إلى بيروت، وتوقّفنا في النهاية عند حاجز للأمن كي نهرب منه".

تقول كارن في حديثها إلى رصيف22، إنّ الخوف من التعرض لأي اعتداء يرسم حياتها حالياً، فهي عزفت عن الخروج ليلاً إلا ضمن مجموعة من الأصدقاء، وبدّلت في طريقة لبسها، وأصبحت تتفادى قيادة سيارتها وحيدةً، خصوصاً ليلاً، كما حاولت الابتعاد عن استخدام التاكسي للسبب نفسه. تملك كارن سيارةً، لكنها تخاف من قيادتها ليلاً وحدها، فتشرح: "حتى إن كنتُ في بار وأريد العودة إلى سيارتي، أخاف من أن أمشي نحوها خوفاً على أماني... أعرف أنّه ليس من حق أحد أن يقيّمني بسبب لباسي، لكني بتّ أغيّر في طريقة لباسي، خصوصاً إن كنت سأركب التاكسي خوفاً مما قد يحصل".

"فهنّ إما أن يقرّرن أن يخاطرن ويخرجن فتصبح حياتهنّ أشبه بمعركة دائمة بسبب غياب أي أمان يجب أن توفره الدولة، أو يبقين في المنزل. وإن قرّرن البقاء في المنزل، فهذا ليس بالضرورة أكثر أماناً دائماً"

علاج "المصيبة" مكلفٌ أيضاً

كل تلك العوامل، مجتمعةً تترك أثراً بالغاً في الصحة النفسية للنساء. في هذا الإطار، تتساءل هند حمدان: "إذا استطاعت المرأة تخطّي كل هذه العقبات، فهي تبقى معرّضةً للخطر نهاراً، فما بالنا بالخطر ليلاً؟ الشوارع معتمة بلا كهرباء، وبسبب انقطاع الكهرباء والحرّ، نرى الكثير من الشبان والرجال في الشوارع المطفأة".

وتتابع حمدان: "في كل هذه الظروف، تشعر النساء بأنهنّ معرّضات للخطر طوال الوقت. وهذا لن يمر من دون تأثيرات في الصحة النفسية للنساء، فهنّ إما أن يقرّرن أن يخاطرن ويخرجن فتصبح حياتهنّ أشبه بمعركة دائمة بسبب غياب أي أمان يجب أن توفره الدولة، أو يبقين في المنزل. وإن قرّرن البقاء في المنزل، فهذا ليس بالضرورة أكثر أماناً دائماً، إذ إنّ هناك نساء معنّفات من شركائهنّ أو أفراد أسرهنّ، ما يعني أنهنّ يعشن اليوم في ظلّ انعدام كامل للأمان، في المنزل والشارع".

"بتُّ شخصاً خائفاً طوال الوقت لا يشعر بأي أمان ويصرف طاقةً كبيرةً للبقاء متوازناً نفسياً حتى أبدو صلبةً، لكنّ الحقيقة أني لم أعد منتجةً كما كنت في السابق..."

"بتُّ شخصاً خائفاً طوال الوقت لا يشعر بأي أمان ويصرف طاقةً كبيرةً للبقاء متوازناً نفسياً حتى أبدو صلبةً، لكنّ الحقيقة أني لم أعد منتجةً كما كنت في السابق... وهذا ما يحيلنا إلى كلفة الصحة النفسية، إذ إنّ "الثيرابي" عمليّة مكلفة جداً. بتنا نتمنى أن نكون بخير حتى لا ندفع هذه الكلفة أيضاً، "فمصاريفنا على قدنا"، كما تقول ليال محمد، لرصيف22.

كلفة العلاج وصعوبة تأمينه تثقلان كاهل بريسكا أيضاً التي تقول: "حتى العلاج النفسي كلفتُه عالية ولم تنخفض قيمته بالرغم من انخفاض قدرتنا المعيشية. حتى الدواء الذي أحتاجه، أحتاج إلى أن أفتش عنه على مدى أيام في أكثر من صيدلية وأكثر من منطقة لأجده". وتضيف بريسكا: "فقدان الأشخاص يجعل الأشياء كلها تفقد معناها. كنت أعدّ أن أصدقائي هم عائلتي وأعتمد عليهم لكن منهم من غادر والباقون منهم يتعاملون مع مشكلاتهم وصدماتهم. لذلك، صرتُ غير قادرة على معرفة ماذا أتوقع من الناس أو مدى قدرتي على طلب المساعدة منهم".

في لبنان، تبلغ كلفة زيارة الطبيب أو المعالج النفسي 100 دولار أمريكي في الساعة الواحدة. خفّض بعض الخبراء النفسيين التكلفة إلى 40 أو 60 دولاراً، أو تقاضوا المبالغ بالليرة اللبنانية بحسب قدرة مرضاهم، فيما أبقى آخرون على الأسعار نفسها. ووسط هجرة جماعيّة من لبنان على إثر كلّ هذه الأزمات، بات صعباً إيجاد معالج/ ة بسرعة، أو بسعر مناسب. تلفت حمدان إلى أنّ الأطباء النفسيين يعانون من ثقل الأزمات أيضاً، وهم يحاولون التأقلم أو إيجاد حلول، لكنها ترفض التعميم، لأن هناك كثيرات وكثيرين راعوا تدنّي القدرة في الأزمة. تشير حمدان إلى ما تعدّه الأكثر خطورةً، وهو القدرة الأكبر للوصول إلى أطباء ومعالجين/ ات ليس لديهم الخبرة الكافية، ما قد ينعكس سلباً على العلاج نفسه.

في ظلّ كل هذه الصعوبات، ليس هناك أي خطّة بديلة أو حلّ وضعته الدولة للخروج من الأزمة، كما أنها لم تُعِر اهتماماً جدياً بعد لارتفاع الجرائم ضد النساء التي تنتشر أخبارها هذه الأيام من دون ردود فعل غاضبة أو بنّاءة تُذكر

دولة غائبة ومدينة محبطة... ومقاومة ممكنة

في ظلّ كل هذه الصعوبات، ليس هناك أي خطّة بديلة أو حلّ وضعته الدولة للخروج من الأزمة، كما أنها لم تُعِر اهتماماً جدياً بعد لارتفاع الجرائم ضد النساء التي تنتشر أخبارها هذه الأيام من دون ردود فعل غاضبة أو بنّاءة تُذكر. وسط هذه المعطيات، لا يبدو أنّ هناك وعياً سياسياً واجتماعياً كافياً لمسألة اختلاف ما تتعرّض له النساء والطبقات المهمّشة الأخرى، كاللاجئين/ ات والعمال والعاملات الأجانب والكويريين/ ات بسبب الأزمة، واختلاف طريقة التأثّر فيها، لا بل فداحة التبعات في بعض الحالات.

في هذا السياق، تربط حمدان عدم الاعتراف بالتأثيرات المتفاوتة للأزمة على الأشخاص بغياب المعرفة في القراءة الجندريّة للقضايا، وتشرح: "النظرة الجندريّة ليست فقط متعلّقةً بالنساء. من منظور جندري، نحن لا نبدأ من المكان نفسه، وهناك تفاوتات موجودة. نحن لا نزايد هنا على قاعدة مَن يتعذّب أكثر ولا نقول إنّ وضع الرجال أفضل، فأكثر من 90% من الأشخاص في لبنان يعيشون في ظروف مزرية اليوم. لكننا هنا نقول إنّ كلّ مجموعة تعيش الأزمة بشكل مختلف وعلى أصعدة مختلفة... لا يمكن أن نقول إننا جميعاً نعيش الأزمة بالطريقة نفسها، فنحن لا نأتي من خلفية ديناميات القوة نفسها أو من المكتسبات والموروثات الاجتماعية المبنية على الجندر نفسها. لذا، يجب أن نفهم أولاً، لنحاول أن نجد الحلول لاحقاً".

"في السابق، كنتُ أشعر بأني أقوى، بمعنى أني كنتُ أواجه المتحرّشين وأتدخّل عندما أشهد لا عدالة ما، كحادث عنصري مثلاً، لكني اليوم أخاف من أن أتدخل. أشعر بأني بلا أي قوة".

ترى حمدان أننا ما زلنا نستطيع أن نقاوم هذا التدهور، أولاً عبر "تسليط الضوء على بعض الحالات في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً النساء اللواتي قرّرن مواجهة الأزمة وانعدام الأمان بمشاريع مخصصة للنساء، وعبر التشبيك على مستوى أصغر في المجتمعات لنخلق مساحات آمنةً كمجموعات من النساء، لا كأفراد، كي تكون قوّتنا أكبر. كما يجب رفع الوعي وشبكات الطمأنة في ما بيننا، بالرغم من أنّ ذلك قد ينطوي على تروما أو متاعب، لكنّه على الأقل يُشعر النساء بأنهنّ لسنَ وحدهنّ". وتضيف: "على مستوى أكبر، يجب أن نضغط نحو تطبيق القوانين، وبينها قوانين مكافحة التحرش الجنسي والعنف الأسري وغيرها، والكلام عن هذه القوانين وضرورة تطبيقها، وإيجاد آليات لرفع دعاوى ضد التحرش. أن نربح معركةً صغيرةً على صعيد القوانين يمكن أن يعطي نفساً جديداً".

ردّاً على حالة الإحباط العامة التي تعيشها الكثير من النساء، تشدّد حمدان على ضرورة "ألّا نستسلم لأننا منذ عشرين عاماً وأكثر، نعمل بطرق مختلفة ووفق أطر مختلفة لا لنستسلم بل لندفع دوماً نحو الأمام. علينا أن نضغط، وعلينا أن نعطي أملاً للنساء. علينا أن نجد طريقةً جديدةً للتغطية والحديث عن الجرائم ضدّ النساء تمنع التعوّد عليها أو التطبيع معها".

مقابل أمل هند حمدان والخطط التي ترسمها للاستمرار في العمل، شعورٌ بالإحباط لا يزال يسيطر على النساء في بيروت التي تزداد وحشيّةً كلّ يوم. فمن أكبر كلفات الأزمة على ليال محمد مثلاً، كان تغيّر علاقتها ببيروت تماماً، إذ تقول: "كنتُ أتعامل مع بيروت على أنها آمنة طوال الوقت لكني اليوم أخاف من المشي في شوارعها، وإن كنتُ في الخارج ليلاً، يجب أن يكون معي شخص حصراً. قبل الأزمة كنتُ في الجهة المعاكسة".

كذلك الأمر بالنسبة إلى بريسكا شعار التي شعرت بتقلّص قوّتها في بيروت: "في السابق، كنتُ أشعر بأني أقوى، بمعنى أني كنتُ أواجه المتحرّشين وأتدخّل عندما أشهد لا عدالة ما، كحادث عنصري مثلاً، لكني اليوم أخاف من أن أتدخل. أشعر بأني بلا أي قوة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image