هل المدن تخون؟ هل يمكن أن تترك جرحاً لا يندمل مثلما يفعل الإنسان بأخيه الإنسان؟ الحب هو الحب، والجرح الذي ينتج عن حب لشخص خائن يشبه ذلك الذي تتسبب فيه مدينة كسرت قلب محبيها.
وعلى الرغم من أن بيروت لا تظهر في أحداث فيلم "كوستا برافا" بشكل حقيقي، وأغلب مشاهده مصوره خارجها، إلا إنها بطلة الفيلم الحقيقية. حبها والجرح جراء هذا الحب، والرغبة في العودة إليها والهرب منها، هم الأزمة الحقيقية التي يعاني منها أبطال العمل.
لا حاجة للزمن... الكابوس يحدث الآن
قبل بدء عرض فيلم "كوستا برافا" في مهرجان الجونة السينمائي - والذي حصل فيه على جائزتي النجمة الخضراء والفيبرسي- أعلنت مخرجته مونيا عقل أن في بداية عملها على سيناريو الفيلم كانت أحداثه ستقع في مستقبل قريب، ربما 2030 أو نحو ذلك، لكن ما حدث مؤخراً في لبنان جعلها تحذف تحديد الزمن، ربما لأن الديستوبيا التي تخيّلتها على الورق وجدتها تتحقق أمامها في بلادها قبل الأوان.
هل المدن تخون؟ هل يمكن أن تترك جرحاً لا يندمل مثلما يفعل الإنسان بأخيه الإنسان؟ الحب هو الحب، والجرح الذي ينتج عن حب لشخص خائن يشبه ذلك الذي تتسبب فيه بيروت...المدينة التي تجيد كسر قلب محبيها
تدور أحداث "كوستا برافا" على حافة بيروت، حيث تعيش عائلة صغيرة من أب وأم وابنتين وجدة، في منزل بنوه بأنفسهم منعزلين عن العالم، جنة صغيرة أوجدوها، يتطلعون من خلالها إلى المدينة التي خانت الأب والأم، الثوار السابقين، مراراً وتكراراً.
تعتبر الأسرة نفسها من النسّاك الذين أداروا ظهرهم إلى المدنية، يعيشون على ثمار الأرض التي يزرعونها بأنفسهم، يرفضون استخدام الإنترنت للتواصل مع العالم، وخلال الأحداث، نعرف أن الأب ثوري قديم عانى من الإحباطات السياسية المستمرّة، والأم كذلك كانت صوت الثورة الأشهر، كُسر قلبهما حزناً على المدينة التي أصبحت لا يمكن إنقاذها بسبب ساستها والخائنين، فحملوا بناتهم، آملين في حياة جديدة بلا هدف، سوى جني محصول جيد والاستمتاع بأيامهم البسيطة.
لكن حتى هذا الملاذ الآمن يتعكّر صفوه عندما تقرر الحكومة إنشاء مكب نفايات على بعد أمتار من جنتهم التي امتلكوها لمدة ثماني سنوات، وتبدأ المناوشات بين العائلة والمسؤولين عن بناء المكب.
أزمة النفايات التي كانت مولدة الدراما في الفيلم ليست حدثاً خيالياً افترضته الكاتبة والمخرجة مونيا عقل في الفيلم ليفجّر الأحداث، بل هي إحدى الأزمات المتكررة التي يعانيها لبنان وتجد أخباراً متكررة عنها بالبحث قليلاً على شبكة الإنترنت، ومعاناة السكان مع المكبات غير الصحية ومحاولات التخلص منها.
وخلال الأحداث نشاهد أحداثاً أخرى يعيشها لبنان في الوقت الحالي نتيجة تداعيات ما بعد جائحة كورونا، والتقلبات السياسية والاقتصادية، مثل غياب الوقود وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة.
لم تكن مونيا عقل بحاجة لتخيل مستقبل كابوسي لمدينتها، فالكوابيس أصبحت تتحقق كل يوم بالنسبة لسكانها، وتحول نوع الفيلم، من ديستوبيا مستقبلية بائسة إلى عمل واقعي.
تعتمد مونيا عقل في فيلمها "كوستا برافا" على قصة بسيطة للغاية، عائلة توضع أمام اختيارين أحلاهما مرّ، وشخصيات درامية تمتلك تاريخاً معقداً نتعرف عليه ضمنياً خلال الأحداث، والأهم، أداء تمثيلي ممتاز من ممثلين استطاعوا إضفاء أبعاد أخرى على شخصيتهم، خاصة صالح بكري ونادين لبكي في دوري البطولة
بيروت حب لا ينتهي وجرح لا يندمل
بدء التحضير وبناء مكب النفايات في الفيلم كان النقطة التي بدأت عندها أحداث فيلم "كوستا برافا" الحقيقية، وقد وضع الأسرة تحت ضغط فبدأت بالانقسام، بين الأب الذي لازال يعاني من كرب ما بعد صدمة قلبه المكسور بسبب خيانة الأصدقاء وبلاده، ولا يستطيع العودة مرة أخرى للمدينة، ومعه ابنته الصغرى التي تشربت أفكاره ولم تر نسخة أخرى من العالم خارج منزلهم الصغير فوق الربوة.
أما الأم فلا تزال تحن للغناء، الثورة، صحبة الأصدقاء المتجمعين على هدف واحد حتى لو لم يتحقق، يتنازعها كل من حب زوجها وإخلاصها لملاذه الآمن، وحنينها لبيروت، ومعها الابنة الكبرى التي تعيش مراهقة صعبة بعيداً عن أشخاص مقاربين لها في العمر، وتتفتح مشاعرها الجنسية فلا تجد لها متنفساً.
يأخذنا فيلم "كوستا برافا" إلى داخل أبطاله خلال رحلتهم الذهنية لاتخاذ هذا القرار إزاء غربتهم الاختيارية، فنرى الأحداث تارة من وجهة نظر الأب وقام بدوره صالح بكري، الذي لا يستطيع حتى الذهاب إلى بيروت لرفع قضية على الحكومة، بل يضطر إلى مقابلة صديقة على حافة المدينة.
يشعر بالقلق طوال الوقت من أن تنتزع بيروت الجزء الوحيد الجيد في حياته وهو عائلته، وتجذبه بعيداً عن منزل الأحلام الذي بناه بنفسه، لا يستطيع الانغماس في اللحظة والاستمتاع بالحياة طالما يطارده هذا الهاجس، يفقد الرغبة في كل شيء، حتى العلاقة الجنسية مع زوجته.
على الجانب الآخر الزوجة "ثريا" (التي تقوم بدورها المخرجة والممثلة نادين لبكي) متعلقة بهذه الحياة لأنها تجمعها بزوجها فقط. تركت الغناء والأمل لتصبح رفيقته في رحلة شفائه من حب بيروت.
تشتاق للعودة ولو في زيارة سريعة للقيام بالأوراق الحكومية لرفع القضية، وعندما يرفض الزوج، تحاول تذكير نفسها بكل مكتسباتها بإلقاء نفسها في حوض السباحة الذي بنياه معاً، لكن لا حب بناتها ولا منزلها يعوضانها عن فقدانها لشخصيتها السابقة، ويختلط داخلها مزيج من الغضب والإشفاق على زوجها.
الابنة الصغرى لا تعرف من العالم سوى هذا المنزل وهذه الحياة، انتقل إليها الخوف عن طريق الأب، مصابة بالوسواس القهري، تحاول حماية عائلتها عبر تعاويذ سرية وأرقام تعدها حتى حد معين فتطمئن عليهم، وتزلزل عالمها بالصراع الضمني بين مفهومي كل من الأب والأم عن الحياة، فتختار البقاء في عالمها الآمن عن مغامرة العودة.
أما الكبرى، فهي جربت العالمين، المدينة الصاخبة بما يأتي معها من أزمات ومشاكل، والمنزل الآمن، لكنها جائعة إلى الحياة والجنس والحب. تحاول بدء علاقة مع المشرف على بناء المكب، مرتدية فستاناً لامرأة ناضجة، يبدو واسعاً عليها، فيظهرها أصغر وأكثر شباباً ويفضح خبرتها الضئيلة في الحياة، فيرفضها الشاب ويكسر قلبها، ويزداد غضبها تجاه الحياة التي اختارها لها الأب.
أما الجدة فهي لم تفقد الأمل فقط في بيروت، بل ترغب في مغادرة لبنان بالكامل. تحيا على حلم بأن تسافر إلى ابنتها، وتحاول مساعدة الابنة الكبرى، تتمرد على الحياة الصحية التي اختارها لها ابنها، وعندما تفقد القدرة على التغيير تعلن رفضها للعالم، وتقرر الموت.
تعتمد مونيا عقل في فيلمها "كوستا برافا" على قصة بسيطة للغاية، عائلة توضع أمام اختيارين أحلاهما مرّ، وشخصيات درامية تمتلك تاريخاً معقداً نتعرف عليه ضمنياً خلال الأحداث، والأهم، أداء تمثيلي ممتاز من ممثلين استطاعوا إضفاء أبعاد أخرى على شخصيتهم، خاصة صالح بكري ونادين لبكي في دوري البطولة، والأهم تصوير بيروت القريبة والبعيدة المنال في آن واحد، وقدمت عقل لنا من هذا الخليط قصيدة حب حزينة في حب المدينة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون